عبق التراث

بقلم
خالد إغبارية
اللهجات الفلسطينية والتراث الفلسطيني (4-4)
 تطوير التّراث: 
من أهمّ الوسائل التي تساعد على تطوير التّراث تطوير طرق عرضه وتضمينه في المناهج المختلفة بالشّكل الذي يتناسب مع مستويات الطّلبة وقدراتهم الإدراكيّة، فعرض التّراث بالطّرق الجامدة لن يخدمه أبداً، بل على العكس فإنّ ذلك سيتسبّب في نفور النّاس منه، ممّا يؤدّي إلى إهداره وضياعه لصالح الثّقافات الأخرى. وبما أنّ المواقع الأثريّة والسّياحيّة تُعتبر جزءاً من الإرث الحضاري لشعب مُعيّن من الشّعوب، فإنّه ينبغي الاهتمام بها وتأهيلها من النّاحية السّياحيّة حتّى تصير من نقاط الجذب السّياحيّة الهامّة في الدّولة، كما ويجب نشر التّراث خارج البلاد من خلال الجهات المعنيّة، والمواطنين الشّرفاء الذين ينتمون إلى أرضهم ووطنهم، وقد يتطوّر التّراث أحياناً عندما تتلاقح الشّعوب المختلفة ممّا يؤدّي إلى ظهور العديد من المكونات التّراثيّة الهامّة والجديدة. 
واجبنا تجاه التّراث الشّعبي الفلسطيني:
يأخذ التّراث الشّعبي في العصر الحديث طريقه إلى الاضمحلال والمواراة، فقد نُسيت الكثير من العادات والتّقاليد والممارسات اليوميّة، إضافة إلى الحكايات والقصص والأناشيد والأغاني القديمة، حتّى الألعاب الشّعبيّة، كل هذا بسبب انعكاس المدينة على روح الشّعب لا سيما أنّ فلاّحي فلسطين هم السّواد الأعظم في تكوين بنية الشّعب الفلسطيني، فانقلبت أساليب الحياة اليوميّة وتغيّرت ممارسات المجتمعات اليوميّة وتغيّرت أساليب الأفراح والأتراح، وقد ساهم التّلفاز ووسائل الإعلام ووسائل الاتصال الحديثة بإلهاء الأفراد ذكوراً وإناثا، أطفالا وكبارا، فلم يعد الأجداد يسردون على أحفادهم الحكايات، ولم تعد الأمّهات تغني لأطفالها، ولم يعد هناك اجتماعات في الشّوارع العامّة تنقل عادات المجتمعات بين أفرادها، بالإضافة إلى النّضال المستمر في سبيل القضيّة الفلسطينيّة الذي شغل أكثر شباب فلسطين وأطفالها ممّا أضعف الالتفات إلى التراث. لا نقصد من ذلك التخلي عن الصّراع العسكري أو السّياسي والتّفرّغ كليّاً من أجله، لكنّ الحرب مستمرّة ومستعرة على عدّة مستويات وبمختلف الوجوه، لهذا كان من المحتّم علينا الصّراع من أجل الحفاظ على التّراث وبالتّالي الصّراع من أجل البقاء.
ذلك أنّ العدوّ الصّهيوني يعمل جاهداً على إحداث انفصام معرفي ووجداني وحسّي بين الأجيال الفلسطينيّة النّاشئة والتّراث الفلسطيني الذي يمثّل ذاكرة الأجيال وجسر التّواصل بينها، وهذا يحتمّ على الجيل المثقّف المسؤول وعلينا كباحثين البحث والسّؤال والعمل على إحياء التّراث، ليس بالضّرورة الوقوف على أشكاله القديمة وحرفيّة تقليدها، فهناك دائماً إمكانيّات للتّطوير والحذف والإضافة والتّطعيم والتّلوين، هكذا تصبح حياتنا نمطاً وراثيّاً، ذلك أنّه من المستحيل إرجاع عقارب السّاعة إلى الوراء وإنّما ثمّة إمكانيّة معقولة لحياة معاصرة ملوّنة بالتّراث.
لا ينبغي بأيّ شكل من الأشكال أن يطغى التّراث المحلّي على التّراث الإسلامي العربي حيث يفترض أن يكون هناك توازن بينهما، فالتّركيز على العناصر المحلّية الإقليميّة في التّراث يعتبر عاملاً موحّداً يعطي التّراث الشّعبي قوّة وهو ليس عاملا مفرّقاً أبداً.
إنّ إحياء التّراث والحفاظ عليه بحاجة إلى دراسات وتخطيط وإعداد طواقم إداريّة وفنّية وأهم من ذلك تخصيص ميزانية له، وإلّا كان كلّ مجهود في هذا الصّدد حرثاً في البحر.
* يأتي دور التّربية في المحافظة على التّراث الفلسطيني من خلال تدريسه ضمن المنهاج وتيسير الرّحلات الطّلابيّة للتّعرف على الأماكن التّراثيّة، وإجراء المسابقات والأبحاث والدّراسات حول التّراث الفلسطيني وتشجيع الطّلبة وخاصّة الجامعيّين على إجراء الأبحاث العلميّة حول العناصر المتاحة للتّراث الشّعبي مادّيّة كانت أو لا مادّية والكشف عن أصوله التّاريخيّة والعمل على حفظه وصيانته ومحاولة تطويره ونشره بين العامّة للتّأكيد على حقّنا في أرضنا وتفنيد مزاعم الصّهاينة وأباطيلهم. ويجب التّنويه هنا بعمليّات الضّغط المفروضة على وكالة الغوث للاّجئين والحملة المسعورة التي تشنّها مراكز وأبحاث ومواقع الكترونيّة إسرائيليّة تقوم بفبركة أخبار كاذبة ونشرها عن الوكالة متّهمة المناهج الدّراسيّة بأنّها تعلن الحرب على اليهود، بالمقابل يجب أن نشنّ حملات قويّة للاستنكار الشّديد لأيّ عمليّة حذف أو تعديل في المناهج ودعوة الوكالة لعدم رضوخها لأيّ ضغوطات إسرائيليّة أو دوليّة وعدم استجابتها لمطالب غير محقّة ،لهذا يجب العمل على زيادة الوعي لدى الطّلاب والأهالي وبرلمانات الطّلاب لأخذهم دور المتلقّي الواعي والرّافض لأيّ محاولة لطمس الهويّة ومحوها وبالتّالي سلب حقنا في أرضنا.
* يجب العمل وبشكل جدّي على تفعيل دور الاتفاقيّات المتعلّقة بحماية التّراث الثّقافي المادّي وغير المادّي لصالح الدّولة الفلسطينيّة والتي تعتبر عضواً مراقباً في الأمم المتّحدة على الأقل فيما يتعلّق بالممتلكات المسجّلة على لوائح التّراث العالمي وهي أربع اتفاقيّات: اتفاقيّة لاهاي لحماية الممتلكات الثّقافيّة في حالة النّزاع المسلّح 1954م، واتفاقيّة التّدابير الواجب اتخاذها لحظر ومنع استيراد وتصدير ونقل ملكيّة الممتلكات الثّقافيّة بطرق غير مشروعة 1970م، واتفاقيّة حماية التّراث العالمي والثّقافي والطّبيعي لعام 1972م، واتفاقية حماية التّراث الثّقافي غير المادي 2003م، واتفاقيّة حماية وتعزيز أشكال التّعبير الثّقافي 2005م، وذلك لأهمّية تلك الاتفاقيّات في تحقيق حماية التّراث الثّقافي الفلسطيني والإسلامي والعربي بشكل عامّ، والعمل على تحديث الأنظمة والقوانين المتعلّقة بالممتلكات الثّقافيّة والتّأكيد على تشديد العقوبات على جميع المخالفات التي تؤدّي إلى تدمير الممتلكات الثقافية وفقدانها وتجريم التّملّك والاتّجار غير المشروع بالمكوّنات الثّقافيّة، وتشكيل لجنة من الخبراء العرب للعمل على إعداد الدّراسات والتّقارير عن وضع التّراث الثّقافي في فلسطين والوطن العربي وسبل حمايته وتقديم الاستشارات اللاّزمة، إضافة إلى إدانة ما يرتكبه العدو الصّهيوني في الأراضي الفلسطينيّة بحقّ التّراث الثّقافي الفلسطيني ومطالبة المجتمع الدّولي بالعمل على إيقاف كافّة أشكال الاعتداءات السّافرة على الممتلكات الثّقافيّة في الأراضي الفلسطينيّة، وتبنّي مشروع قرار لجنة التّراث العالمي بمنظمة اليونسكو بإدانة إسرائيل بعرقلة عمل لجنة تقصّي الحقائق لدراسة الوضع في المواقع التّراثيّة والتّلال الأثريّة والمدن التّاريخيّة بالأراضي الفلسطينيّة وتسجيلها على لوائح التّراث العالمي على أنّها مدن فلسطينيّة كنعانيّة تعود لفترات ما قبل التّاريخ، ونضع تحت ما قبل التّاريخ خطّا أحمر لا يمكن التّنازل عنه، فهو ما يدلّ على قدم تاريخ الشّعب الفلسطيني وتأصّل جذوره في هذه الأرض.
* تنظيم برنامج وطني لمسح أرض فلسطين على مستوى عالمي لمعرفة ما تخبئ في باطنها من كنوز، وتأهيل باحثين أكفاء في مجال التّاريخ والآثار والتّراث لتوثيق الآثار الموجودة على الأرض وحفظها ودراستها وتوثيق كلّ ما سرقته إسرائيل من تراث عبر منظمة اليونسكو، وإقرار تلك السّرقات رسميّاً ومن ثمّ العمل على إعادة هذا التّراث المسلوب إلى الشّعب الفلسطيني، بالإضافة إلى التّركيز على دور الإعلام بإلقاء الضّوء على عمليّات التّهويد وطمس الهويّة الفلسطينيّة والتّأكيد على ملكيّة المواقع الأثريّة للفلسطينيّين وتأصيل تاريخها وحضارتها، والعمل على إحياء التّراث فيها بكلّ أقسامه وتفرّعاته. وتفعيل دور المتاحف سواء كانت داخل مباني خاصّة أو في المواقع الأثريّة، وعرض القطع الأثريّة والتّراثيّة بكامل أنواعها وأحجامها والعمل على ترميمها وصيانتها وحفظها بالطّرق المنهجيّة المتاحة، وبالتّالي إحياء ما يمكن إحياؤه من التّراث وتطويره بما يتناسب مع الحياة المعاصرة وحفظ ما تبقى منه على حاله وتدوينه ليبقى في ذاكرة الأجيال، ووضع رقابة وحراسة عليها لتبقى آمنة وبعيدة عن يد العبث والسّرقة، وبهذا نضمن استمرار ماضينا واضحاً معروفاً وبالتّالي التّأكيد على اتصال الشّعب الفلسطيني بأرضه، ويحتّم على وزارة السّياحة والآثار التّرويج لتلك المواقع كتراث عالمي يستحقّ الزّيارة لما يحتويه من قيم وعناصر جذب سياحي، واستقطاب المشاريع التي تعمل على تطوير المواقع وتستهدف الموروث الثقافي لتحافظ عليه من خلال اليونسكو.
* إحياء الشّعر والكلمة والقصيدة والأغنية والقصّة والمثل الفلسطيني القديم وما يتبع كلّ ذلك كالموسيقى الشّعبيّة والآلات الموسيقيّة الشّعبيّة والدّبكات والرّقصات واللّوحات التّصويريّة والأزياء الشّعبيّة عن طريق إنجاز المسرحيّات والأفلام والنّدوات الشّعريّة والمسابقات والاحتفالات والمهرجانات الدّولية والعالميّة لنشر هذا التّراث باسم أصحابه الحقيقيّين عبر العالم، وتفعيل دور المكتبات التّقليديّة والالكترونيّة الوطنيّة لتعمل على جمع كلّ ماله صلة بالتّراث الشّعبي الفلسطيني بشكل خاص والإسلامي والعربي بشكل عام ونشره وبيعه وطبعه، من كتب ومجلات وصحف ومقولات شفهيّة وخطابات ولقاءات على جميع المستويات بدءًا من الفلاّح وانتهاءً برؤساء الدّول.
 الخاتمة:
نودّ أن نختم الحديث عن التّراث بكلمة عن التّراث الفلسطيني الشّعبي الذي هو جزء لا يتجزّأ من التّراث العربي والإسلامي، وهو تراث غنيّ وشامل ومرتبط بالأرض التي منحت الإنسان الفلسطيني هويّة الانتماء إليها منذ القدم، وهو جدير بإحيائه والحفاظ عليه كونه ذاكرة الشّعب الفلسطيني وكون الأرض الفلسطينيّة تمتدّ على مساحة شاسعة من تاريخ عربي إسلامي مجيد، وهي بأقصاها المبارك وصخرتها المشرّفة وقدسها الشّريف مسرى الرّسول عليه أفضل الصّلاة والتّسليم ومعراجه، وهي جزء من عقيدة سمحة يدين بها ما ينوف عن المليار مسلم وبالتّالي فإنّ هناك مسؤوليّات ضخمة على عاتق الجهات الثّقافيّة بمختلف أنواعها في إيجاد مؤسّسة راعية ومطوّرة لهذا التّراث في إطار كوادر علميّة وفنّية ومميّزات مخصّصة تنتشر على الأرض الفلسطينيّة وفي أروقة اليونسكو وفي جميع المحافل الثّقافيّة والدّوليّة والعالميّة، والمسؤوليّة الأكبر تقع على المناهج التّربويّة في كّل المراحل التّعليميّة، وبهذا الصدّد فإنّ دور الإعلام أساسي في إبراز التّراث ونشره وتسويقه.
إنّ الصّراع على التّراث والتّاريخ والحضارة في منطقتنا لا يقلّ أهمّية عن الصّراع من أجل الأرض ومن أجل المادّيات الأخرى، والتّراث الفلسطيني يستحقّ منا نحن أحفاد مبدعيه أن نحافظ عليه وأن نعيد له بهاءه ورونقه وجماله.