مرايا

بقلم
د.علي رابحي
البعد الإصلاحي في مشروع الثقافة البانية
 مقدمة
من شدّة وطأة الفكر الدّخيل الوافد مع الاستعمار وتوغّله وتغوّله، انتفض الأستاذ الدّكتور حسن الأمراني وأيقظ من استطاع من حوله للتّصدّي لهذا الإعصار. فمن هو حسن الأمراني؟ وكيف نفهمه؟ وما هي الرّؤية المعرفيّة، والرّسالة المجتمعيّة لمشروع الثّقافة البانية. وهل يصنّف ضمن المشاريع الإصلاحيّة المعاصرة؟
والجواب الافتراضي على هذا السّؤال وفقا لتصوّري يرتكز على أنّ مشروع الثّقافة البانية مقاربة منهجيّة متحرّرة من حصار التّراث ومن جاذبيّة الغرب، ومدرسة إصلاحيّة تبتغي تجديد البناء الثّقافي للمجتمع من منظور إسلامي، تروم تصويب سياقات الخطاب الثّقافي المحلّي، بعيدا عن سياق المؤامرة، والأزمة، والاستهلاك. 
1. تقديم مشروع الثّقافة البانية وتعريف بصاحبه
1.1. تقديم مشروع الثقافة البانية
خلافا للعرض الثّقافي السّائد في بداية ثمانينيّات القرن الماضي، كان البحث عن هويّة وفعل لثقافة بانية فاعلة تنمّي نوازع الإنسان فيه. فكان أوّل الفعل كلمة، وكانت كلمة الثّقافة البانية عبر مقالات الأستاذ الدّكتور حسن الأمراني في مجلة «المشكاة»، أوّل الفعل في مشروع ثقافة بديلة بانية، من خصائصها الرّبانيّة والوضوح وحضور البناء العقدي في كلّ فعل ثقافي بان، وهذه الخصائص مقدّمات للانفتاح على أسئلة المجتمع والتّواصل معه، وليست مدعاة للانغلاق وادّعاء المقولات المغلقة.
مشروع الثّقافة البانية، مشروع متجدّد تنطلق أهدافه من البناء المعرفي الأصيل للمجتمع، ووظيفة النّهضة البانية التي تصبّ في صلب القضايا الحقيقيّة للمجتمع وهمومه. إنّه مشروع محدّد في الزّمان والمكان، هدفه المساهمة في تجديد البناء الثّقافي للمشروع المجتمعي للأمّة، من أجل فكر بنّاء، وإنسان سويّ، ومجتمع مسؤول. فهو مشروع تكريم الإنسان وتحرير إرادته، ومشروع تجديد المجتمع وبناء مؤسّساته وعلاقاته. كما أنّ استجابة خطاب الثّقافة البانية للتّحرّر والتّجديد ومساءلة الواقع لا مفاصلته، جعلته مشروع قراءة واعية مسؤولة في هموم المجتمع وأسئلته الحارقة، وتدبّر راشد وعميق في حركاته وحراكه من جهة، وتعثّراته وانكساراته من جهة أخرى.
ومن المظاهر الدّالة على حقيقة حضور الثّقافة البانية وشهودها، تمثّلاتها- من خلال المؤسّسات التي تبنّتها مثل مجلة «المشكاة» ومؤسّسة «النبراس»- في المشهد الثّقافي والاجتماعي اليومي، في تفاعل مع قيم مرجعها الدّكتور حسن الامراني، الذي يقول: «إنّ الثّقافة مالم تتحوّل إلى فعل، أو تعمل على دفع الإنسان للفعل، تفقد شرائط وجودها، وتصبح نوعا من التّرف الفكري، الذي يكبّل الطّاقات، ويعوقها عن الانطلاق».
2.1.  من هو حسن الأمراني؟ وكيف نفهمه؟
الدكتور حسن الأمراني شاعر مغربيّ ملتزم مرموق، وأحد أهمّ رموز الكتابة الأدبيّة على صعيد العالم العربي؛ من يعرفه عن قرب يعرف رجلا فاضلا، كثير التّواضع، قليل الكلام، مخلصا لدينه ووطنه ومبادئه، مجاهدا بماله ووقته وقلمه، كان وما زال يكتب خلف جراح أمّته. هبّ منذ مرحلة الطّلب الجامعيّة إلى نصرة القضايا العادلة في العالم وبخاصّة القضيّة الفلسطينيّة. ويعتبر الدّفاع عن فلسطين، دفاعا عن الوجود الإنساني والكينونة الحضاريّة. يقول: «فلسطين ليست أرضا فقط، وإنّما هي أرض وثقافة ودين ومقومات لهذه الحضارة... فلسطين هي جُرحنا جميعا، وهي جزء من كياننا». رأى العمق الإسلامي يحترق في غفلة من أهله، فسجّل غضبته الشّهيرة في قصيدة «أغضب» التي مطلعها:
اغضبْ، وكنْ حمماً ونيرانا  *  لا عذرَ إن لم تغضب الآنا
سُئل يوما من أنت؟ فأجاب: «أنا واحد من جيلي، جيل الهزيمة.. جيل النّكبات.. شهيد من شهداء حكّام الجور والاستبداد.. أطلق صيحتي كلمة حتّى وإن كانت صيحةً في واد، أو نفخة في رماد، ولكنّها كما قال الكواكبي: في غد قد تذهب بالأوتاد».
ومن كلامه المأثور، قولته الشّهيرة: «أنا شاعر، والشّاعر الموهوب لا يتحزّب». وبما أنّ الشّأن السّياسي هو تدبير الحياة الآنيّة، فإنّه يرى بأنّ المثقف مشارك في صياغة رؤية المجتمع، لأنّه يمتلك بحكم ثقافته ومسؤوليّته الأدبيّة رؤية سياسيّة لقضايا وطنه وأمته.
2.  الرّؤية المعرفيّة والرّسالة المجتمعيّة لمشروع الثّقافة البانية
إنّ مشروع حسن الأمراني حول الثّقافة البانية ودعوته إلى اقتران الفكر بالعمل هي في جوهرها دعوة إلى النّظر في مدركاتنا الجماعيّة وتفعيل دورها في واقعنا المعيش. فإذا كانت الثّقافة هي نمط عيش المجتمع وأسلوب حياة أفراده، والمؤسّسة هي هندسة الأفكار والسّلوك في شكل اجتماع بشري منظّم ووظيفي، وليست مجرّد علبة أمنيّة أو اقتصاديّة أو عرفيّة أو دينيّة تهدّد بالتّوحّش والتّفرقة والتّعصب، فإنّ الفعل الثّقافي المؤسّس فعل حضاري راشد ومسؤول، شريطة أن لا يغيب فيه عنصر البناء ويحضر العمل المشترك والاشتغال الثّقافي المنفتح المتحرّر.
1.2. الرّؤية المعرفيّة لمشروع الثّقافة البانية
النّظريّة المعرفيّة لكلّ ثقافة تحدّد سلوك أفراد المجتمع ومواقفهم تجاه المغاير عرقيّا أو دينيّا أو جغرافيّا، وتنتج تجارب ثقافيّة وفكريّة وعلاقات إنسانيّة مجتمعيّة متباينة في التّواصل الحضاري. إنّ الفكرة التي يتأسّس عليها مشروع الثّقافة البانية لا تحفل بخطاب التّحديث والأصالة، أو التّجديد والتّقدميّة، بل تركّز على وضوح الرّؤية انطلاقا من موقع الذّات والهويّة، وفاعليّة الوظيفة الاجتماعيّة، بكلّ إنجاز وقوّة، في تناغم وانسجام مع حركيّة المجتمع، ومقاومة وممانعة لكلّ الهوامش التي تهدّده من الدّاخل والخارج.
الثّقافة هي نمط عيش المجتمع وأسلوب حياته، وهي بهذا مركب خبرته التّاريخية في عالم الأفكار والقيم والانتظام البشري، الذي يحقّق انسجام أعضائه باختلاف أصولهم وأعمارهم ووظائفهم؛ وقد شكّل الدّين، مرادف الثّقافة في مختلف التّجارب الحضاريّة التّاريخيّة قبل اقتحامها من طرف الإيديولوجيّات الوضعيّة؛ وإذا كانت الثّقافة هي قدر كلّ مجتمع، فإنّ عنصر البناء فيها يحضر ويغيب، يقوى ويضعف، حسب أساسها الدّيني الأخلاقي من جهة، ومنطقها العلمي من جهة أخرى، وكذلك حملها إجابات صريحة وصحيحة عن أسئلة الواقع وشبكة علاقاته المركبة.
إنّ الإنسان السّوي هو إنسان الثّقافة البانية، السّوي في فكره وفعله، في عقله وصحته، في أسرته ومجتمعه، في إرادته وعلاقاته. هو سويّ لأنّه تحرّر من كلّ ما يعيق تواصله مع تراثه وحضارته، فانخرط في مجتمعه وعقيدته وأخلاقه وثقافته البانية بعيدا عن الهامش أو التّهميش. وإنّ تحرّر الإنسان السّوي يعني الاندماج والإبداع، ولا يعني استهلاك ثقافة هامشيّة فردانيّة تعطّل التّفكير الجمعي والعيش الجماعي والنّزوع الحضاري نحو البناء.
2.2. الرّسالة المجتمعيّة لمشروع الثّقافة البانية
الثّقافة البانية ليست ترفا فكريّا، ولا عبثا فكريّا، ولا صراعا فكريّا. إنّ مشروع الثّقافة البانية بصفته مشروعا للتّفكير الجمعي والعمل المشترك، يروم نقل نموذج الثّقافة البانية كمعطى تاريخي اجتماعي من صورته الوصفيّة هذه، إلى مشروع رسالة تحملها مؤسّسة ثقافيّة مسؤولة؛ ومن كونه مجرّد معطى، إلى حقيقته كمطلب؛ ومن مجرّد بناء ثقافي، إلى عمليّة بناء يوميّة هادئة لما هرم وخرب وتخرّب من عمران هذه الثّقافة، وتوسيع مجال هذا العمران لمختلف بنيات الحياة.
إنّ وجود فكرة مادّية، ورسالة واضحة، وإنسان سويّ، ومؤسّسة راشدة، بناء أساسي، لتحقيق تدبير رشيد للثّقافة البانية وإخراجها في مشروع إداري، ومخطّط إشرافي، وبرنامج أنشطة، لتطرح الأسئلة الحقيقيّة، وتجيب عن الأسئلة المجتمعيّة الرّاهنة، عن طريق البحث أو التّأهيل والتّكوين أو الإشعاع، أو عن طريق التّدخّل الاجتماعي. وهذا الإنجاز الوظيفي للثّقافة البانية هدفه إعادة بناء الإنسان المواطن الصّالح المصلح، وإحياء القوّة الإيمانيّة والإبداعيّة، والقدرة الإنجازيّة الإنمائيّة التي عطّلت فيه؛ لأنّ من خصائصها أنّها إنسانيّة غير طائفيّة ولا إقليميّة تعمل على نشر ثقافة التّعارف الحضاري، ولأنّ الآخر المغاير إنسان مكرّم شريك في الحياة وإعمار الأرض؛ لذلك فهذا التّدبير الرّشيد يتطلّب تنظيما إداريّا حيّا فعّالا يستثمر كلّ عناصر قوّته وفرصه، ويتجنّب كلّ هوامش ضعفه. 
يتأسّس برنامج الثّقافة البانية على تخطيط استشرافي مركزه الثّقافة، إذ لا تنمية مجتمعيّة بدون تنمية ثقافيّة، ولا تدبير مؤسّسي بدون ثقافة مؤسّسيّة تدبيريّة راشدة، تعتمد توازن أهداف البرنامج مع الحاجيّات والإمكانيّات والطّاقات.
خلاصة
إنّ أي إصلاح منشود، وأيّ تغيير مرغوب، في زحمة الاستعمار والاغتراب والتّخلّف وكلّ أشكال التّوحش المعاصرة، لا يعفي كلّ روّاد الفعل الثّقافي، من الإنصات لنبض المجتمع ونداءاته، مهما كانت دواعي ومسارات الرّغبة في الإقلاع، وبرغم قوّة أيّ زلزال أصاب المجتمع وعمق انكساراته.
من أجل ذلك، بادر الأستاذ حسن الأمراني، المثقّف الباني، والشّاعر الرّباني المتألّق، إلى رسم معالم مشروع الثّقافة البانية الهادف إلى المساهمة في إخراج مجتمع مسؤول، تحكمه منظومة فكريّة مرتبطة بمرجعيّة إسلاميّة واضحة، وإعداد إنسان صالح سويّ، يشارك فعلا في مشروع التّنمية، ويساهم في البناء الحضاري الموصول للأمّة، في إطار مشروع متجدّد مسؤول، استجابة لوضع ثقافي محلّي كان في حاجة ماسّة لمنبر للكلمة والفعل الثّقافي الذي يتأسّس على الكلمة البانية بأبعادها الفكريّة والاجتماعيّة، والأكاديميّة والشّعبيّة. 
إنّ مشروع الثّقافة البانية ليس برنامج أجوبة جاهزة بقدر ما هو رؤية ورسالة جامعة متعدّدة ومنفتحة على مختلف أسئلة المجتمع ومشكلات الحضارة.