بهدوء
بقلم |
د.ناجي حجلاوي |
محدوديّة المناهج في كتب التّفسير(5) «سلطة التّرادف» |
إذا انقسم أهل اللّغة إلى قسميْن إزاء قضيّة التّرادف بين منكر ومثبت، فإنّ الّذين يقرّون بالتّرادف، وهم أصحاب الأطروحة الّتي هيمنت على الثّقافة العربيّة الإسلاميّة، يجعلون الألفاظ القرآنيّة المتقاربة في المعنى متطابقة بالرّغم من ورودها في آيات متباعدة وفي سياقات مختلفة نحو لفظتيْ «فضّل» و«آثر» في الآيتيْن: ﴿تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا﴾(يوسف: 91)، و﴿وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾(البقرة: 47)، أو «جاء» و«حضر» في الآيتيْن التّاليتيْن: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ﴾(المؤمنون: 99)، و﴿حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ﴾(النّساء: 18). أو الفرق بين «بعث» و«أرسل» في الآيتيْن:﴿بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ﴾(آل عمران: 164)، و﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ﴾(النّبأ: 28). وإذ يقرّ الرّمّاني بظاهرة التّرادف في الخطاب القرآني، فإنّه لا يوافق القائلين بالفروق لأنّ قولهم يخدم الأطروحة القائلة بعدم وجود التّرادف في القرآن. ولاغرو في ذلك، فهو الّذي يعتبر أنّ الإذهاب يعادل الإبعاد وأنّ الأرائك تعني السَّرر، وأنّ أزكى هي أنمى، وأنّ شاقّ تعني خالف وأنّ التعالي يفيد التعاظم(1). ويبدو أنّ الدّقّة التي يعتمدها الخطاب القرآني ويعمد إليها في مستوى المعجم وفي مستوى التّراكيب هي الّتي حيّرت أذهان المتلقّين بالرّغم من كونهم أهل فصاحة وأهل بلاغة وأصحاب ذائقة في اللّغة عالية. وجمع شتات هذه الدّقّة القرآنيّة الّتي تفوق طاقة البشر، لذلك لجّوا في الأمر، فقالوا هو شعر، مرّة، وأخرى، هو سحر، وطورا، هو أساطير الأوّلين. وانظر، على سبيل المثال، الفروق بين عرف وعلم، فلا نقول علمتُ الله، وإنّما عرفته. وعرف يتطلّب مفعولا واحدا وعلم مفعولين، إلاّ أن نقول: علمت الله عدلا. وكذلك الحمد الّذي لا يكون مقابل فعل وضده الذّم، والشّكر إنّما يكون جزاء فعل وضده الكفر. وكالفرق بين الصّفة والنّعت، وبين الجلوس والقعود، وذاك وذلك، وبلى ونعم. والفرق بين من وعن، فالمال يجوز معه عنه والعلم يجوز معه منه سمعت منك، وسمعت عنك. وانظر إلى الفرق بين «عن» و«في» في قوله تعالى:﴿عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾(الماعون: 5)، وليس في صلاتهم ومعناه ضياع الوقت وفواته أو الغفلة عن الصّلة بالله(2). ومن هذه الفروق تهيّب الصّحابة من القول في القرآن بالرّأي تفسيرا خشية الوقوع في الخطأ. ولعلّ الدّارس يعجب من هذا الإحجام عن القول بالرّأي، لأنّ الجيل الأوّل من المسلمين جيل قد عُرف بفصاحته وإتقانه للعربيّة، وهو أمر يدعو إلى الشّك في الرّوايات إذا ما قُورن بعضها ببعض وأجري في سياقه، واسمع قول النّبيّ «اعربوا القرآن والتمسوا غرائبه»(3). فضلا عمّن أصرّ على تحدّي القرآن وأنكر فضله، ومع ذلك ينقلب هذا المصرّ أمام الإعجاز عاجزا. وههنا مكمن الضّعف، لأنّ العرب فصحاء مقتدرون على التّصرّف والتّمكّن من صروف الكلام عارفون بطرائقه ونَظمه سجعا ورجزا وسائر الفنون فيه(4).
إنّ القرآن قد جمع بين أمريْن هما: البلاغة والفصاحة من جهة، والعذوبة والسّهولة من جهة أخرى، فبدا نظما سهلا وممتنعا في آن. فالغرابة لا يُعتدّ بها في هذا الخطاب والحوشي الشّاذ من الكلام ينفّر الذّوق ويبتعد عن الفصاحة. إنّ الفصاحة تجري في السّهل اليسير المتقارب المعنى الّذي يظنّه غير المدقّق مترادفا. والواضح أنّ عدم الوقوف على الفوارق الدّلاليّة بين الألفاظ، وإن كانت جزئيّة، يفوّت على الذّهن مسائل مهمّة قد تتعلّق بالإيمان أحيانا، وبالأحكام أحيانا أخرى. وانظر إلى فرادة الاستعمال القرآني الّذي يخالف به معهود الكلام لدى العرب حتّى إذا استقام الكلام مؤلّفا ومركّبا استحال إلى نَظم، فلا يقال على ألسنة النّاس ما قاله القرآن:﴿وَالذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ﴾(المؤمنون: 4) وإنّما يقال زكّى الرّجل ماله أو أدّى زكاة ماله أو نحوه(5). ولربّما عُدّت هذه الدّقّة في التّمييز بين الألفاظ، مظهرا من مظاهر الإعجاز البلاغيّ في المُصحف، ومن ذلك أنواع الصّيغ الصّرفيّة والاختصار والحذف لكثير من الألفاظ. ولئن عُدّت بعض الظّواهر مدعاة إلى اعتبار المعنى مشكلا وغامضا، ومثال ذلك قوله تعالى:﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى﴾(الرّعد: 31)، وبقيّة الكلام غير مذكورة، وفي ذلك، حسب رأيهم، بتر للمعنى الصّريح، فقد فاتهم أنّ السّياق يكمّله بما تمّ اكتنازه من معان صلب بعض المفردات الّتي استغنت عن ألفاظ أخرى توضّحها وتكشف عن خباياها(6). وعلى العكس من ذلك يلاحظ الدّارس، أحيانا، ظاهرة التّكرار ثني الخطاب القرآني، ومثال ذلك قوله تعالى:﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾(الرّحمان: 13، 16، 18)، أو ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ﴾(المرسلات: 15، 19، 24). وقد ذهب أهل البلاغة إلى أنّ هذيْن النّوعيْن وهما الحذف والتّكرار ليسا من الطّبقات البلاغيّة العالية والمحمودة(7).
ولئن اعترض مخالف في الرّأي وارتأى أنّ الحذف والتّكرار والتّرادف ظواهر تتسبّب في غموض المعنى تارة، والمبالغة في توضيحه تارة أخرى. فبدا مطلبهم ماثلا في التّنقيب على مدخل من مداخل الطّعن في الأساليب القرآنيّة والإبانة عن ضعفه. وقد فاتهم تدقيق الخطاب القرآني بين الفروق الضّئيلة بين المفردة وغيرها، ممّا يُظنّ أنّه مترادف، ومثال ذلك الفرق بين المشي والانطلاق. فقد يكون المشي أحيانا أوْلى من الانطلاق، لأنّ المشي يعني الاستمرار على العادة الجارية ولزوم السّجيّة المعهودة دون انتقال مزعج عن الحالة الأولى. وفي المضيّ والانطلاق إزعاج وإرباك قد لا يُقصد في المشي. وكذلك الأكل من الذّئب بدلا من الافتراس، فالافتراس قد يُبقي من الفريسة ما لا يتركه الأكل(8). والملاحظ أنّ القرآن شديد الحرص على ألاّ تؤدّي اللّفظة الواحدة الدّلالة ذاتها الجارية في لفظة أخرى. فالمجيء ليس مطابقا للإتيان وانظر إلى الآية: ﴿يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ﴾(مريم: 43). فالمجيء حركة من خارج الذّات والإتيان حركة من داخل الوعي الذّاتي. وإذا كان الصّدع يكون عادة في الزُّجاج، فإنّ فعل الأمر في الصّدور شبيه بفعل الصّدع في الزُّجاج، وفعل الاستعارة ظاهر في العبارة. وكذلك الفعل المتعلّق بالزّكاة، يُحيل على أنّ الأعمال الصّالحة هي التي تُفعل، أمّا الزّكاة الماليّة فهي تُؤدّى ولا تُفعل. ومن المفيد الإشارة إلى ما نبّه إليه الخطّابي من أنّ الزّمان يفعل فعله الأكيد في تغيير الألسِنة مستشهدا بقول القائلين:«ذهب من يُحسن هذا الكلام»(9) تعليقا على ما كان يصدر عن امرئ القيس والحارث بن حلّزة، ولربّما تزحزح الذّوق بأقوال المولّدين عن هيأته الأولى وما عاد يصلح الاستشهاد بأقوالهم «وذلك للعلم بما دخل الكلام في الزّمان المتأخّر من الخلل والاستحالة عن رسمه الأوّل»(10). ولكنَّ المشكلة الّتي يتعيّن على الدّارس طرحها هي: هل إنّ هذا الفعل المنسوب للزّمان في التّأثير في اللّغة يُعدّ أمرا سالبا كما فهمه القدامى، أم هو أمر إيجابيّ تُحدثه الأحوال المصاحبة للتّغيّرات الاجتماعيّة والثّقافيّة؟
ويبدو أنّ هذا التّأثّر مشروع طالما أنّ اللّغة مؤسّسة اجتماعيّة تتجاوز مجرّد التّواصل، فتضحى مُصاحبة لهذه التّحوّلات ومتأثّرة بها، وبذلك تجد مصداقيّة دوالها في المتغيّرات. ولعلّ هذه المرونة الّتي تتّسم بها المؤسّسة اللّغوية، في الوقت الّذي تتّصف فيها كلّ مفردة بإفادة معنى بعينه هو الّذي حدا بابن الخطّاب إلى القول: «أنحى النّاس من لم يلحّن أحدا»(11). وهو بهذا الاعتبار يوسّع من دائرة الاستعمال ويحرّر المتكلّم من سلطة القواعد إذ أنّ اللّحن يستوجب سلفا معيارا والمعيار يستند بالضّرورة إلى صرامة القواعد.
وقد سارت العرب إلى ذكر أدوات وحروف ولا يعتدّ بمعناها باعتبارها جارية مجرى الزّيادة مثل ﴿لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ﴾(البلد: 1). والدّليل على ذلك أنّه قد أقسم به الله تعالى في موضع آخر وهو سورة التّين في قوله:﴿وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ﴾(التّين: 3). ومثل ذلك زيادة العرب لحرف الباء أحيانا في مواضع كثيرة مثل قوله تعالى:﴿تَنبُتُ بِالدُّهْنِ﴾(المؤمنون: 20) ومعناه تُنبت الدّهنَ، والحال أنّ الفرق بين الاستعماليْن شاسع. ومنها باء الجحود الّتي تجري بعد نفي كالّتي وردت في الآية التّالية: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾(الأحقاف: 33). وأمام هذه الآراء التّأويليّة العليقة بالكلام الإلهي، التي تجعل القول مرادفا لشبيهه مثل: لا أقسم تعادل أقسم. وتنبت بالدّهن تماثل تنبت الدّهنَ. يجد الدّارس نفسه متسائلا عن مقدار الدّقة في هذه الآراء. فإذا اعتبرنا أنّ الخطاب القرآنيّ يجاري الاستعمال الّذي دأب عليه اللّسان العربيّ فسنجد أنفسنا أمام القول بأنّ القرآن يعارض بعضه بعضا، فأحيانا، يقسم بالبلد، ويعلن، أحيانا أخرى، أنّه لا يقسم به. وبالنّسبة إلى المفسّرين، حينما اعتمدوا التّرادف، فوّتوا على أنفسهم الانتباه إلى أنّ المُصحف يتضمّن كلاما يتميّز بدقّة تفوق الدّقّة الجارية في كلام العرب، باعتبار أنّ علم الله علم كاشف ولا متناه. وما تأويل الأوّلين لهذه الظّواهر اللّغويّة والأساليب البلاغيّة، إلاّ دليل على مبلغهم من العلم.
والجدير بالتّأكيد، في هذا الصّدد، هو أنّ الكلام الإلهي، وإن تجسّد أصواتا وألفاظا دالّة بإمكان الذّهن البشريّ أن يستوعبها بما تقتضيه اللّغة البشريّة، فإنّه يتميّز بقوّة قوليّة وبدقّة لسانيّة عالية غضّت المدرسة اللّغويّة، الّتي سادت، عنها النّظر، وهي المدرسة المتبنّية لمقولة التّرادف. ومن ثمّ ضاعت دلالة حرف «لاء» وحرف «الباء» وكلّ الحروف اعتبرت زوائد(12). ومن غير المستبعد أنّ التساهل في القول بالتّرادف في الثّقافة العربيّة الّتي كانت سائدة من خلال هيمنة المنظور الشّعري هو الّذي شجّع المدّعين للنّبوءات على الاقتناع بإمكانيّة الإتيان بما يشبه القرآن انطلاقا من أنّ المفردة رديفة لأختها إلى حدّ التّطابق. وفي هذا الإطار، تتنزّل الإشارة إلى ما ادّعاه مسيلمة لنفسه من النّبوءة وقوله على سبيل المثال:«يا ضفدع نقّي كما تنقّين لا الماء تكدّرين ولا الوارد تنفّرين»(13). فإنّ هذا الحديث يتميّز بالتّشابه في الأصوات بمفعول الاشتقاق والتّقارب في المعنى مثل كدّر ونفّر وهو إذا قورن بالواقع يعتبر كلاما صحيحا صادقا، إذ الواقع يمثّل له مرجعا مباشرا. ولكن مشكلة تميّز هذا الخطاب تظلّ رهينة الإتيان بما يثبت النّبوءة لمن يدّعيها. ومسيلمة يعدم ذلك لأنّه قاصر عنه. فلم يَرْتَقِ خطابه إلى مستوى الفرادة الّتي تتجلّى في استقلال كلّ مفردة بمعناها عن بقيّة المفردات وإن تشابهت معها وذلك هو المنظور القرآني الحاوي لقوانين الطّبيعة من ضروب الجدل والثّنائيات والازدواج(14). علما بأنّ الفرق بين صدقيّة الكلام ودقّته فرق كبير. والمعوّل بعد ذلك على إجادة اللّفظ وإصابة المعنى وحسن التّخلّص من معنى إلى آخر. وعلى خلاف الدّقة المطلوبة بين دلالة الألفاظ قيل في كلام من ادّعى النّبوءة في وصفه الفيل وهو مسيلمة ذاته «الفيل ما الفيل وما أدراك ما الفيل له مشفر طويل وذنب أثيل وما ذلك بخلق ربّنا بقليل» قيل له: «هوّلت وروّعت وصعّدت وصوّبت ثمّ أخلفت ما وعدت وأخدجت ما ولّدت حين انقطعت، وعلى ذكر الذّنب والمشفر اقتصرت، ولو كنت تعرف من قوانين الكلام وأوضاع المنطق ورسومه لم تحرّف القول من جهته ولم تصغه في غير وضعه»(15).
وداخل المؤسسة اللّغويّة توجد بنى متفاعلة فيما بينها صوتا وصرفا ونحوا وبلاغة. وداخل كلّ بنية توجد علاقات متشعّبة منها أنّ المفردة تتّصف بسمات تجعلها أقرب إلى الكائن الحي. وهذا الكائن يتأقلم مع سياقه داخل النّسيج النّصّي، ويتكيّف بمؤثرات المقام فيجد المرء المفردة الواحدة تفيد بأكثر من معنى في أكثر من نصّ. واللّغات البشرية تتميّز بكثير من الالتباس، فالعبارة الّتي تبدو لأوّل وهلة مفردة، فإنّها لا تُحيل على معنى مفرد، وإنّما تفيد بكثير من المعاني. ويتناقص هذا الالتباس عندما تتعدّد المفردات ويضحى المعنى منتشرا على مساحة تركيبية وفي كلام يعكس مردوديّة لغوية وإفادة. «فالمتكلم يتّخذ استراتيجيّة لتوصله إلى التّأويل المراد من وجهة نظره أو منظوره الخاصّ. والقول بنسبيّة المنظور يجعلنا نفّسر مثلا ظاهرة التّرادف، أو كون أوصاف متعدّدة تحيل على نفس الوضع»(16).
والنّاظر في أصل الوضع في اللّغة، ينتبه إلى أنّ اللّفظ الواحد يوضع للمعنى الواحد تجنّبا للتّرادف، ولا سيّما الّذي لا يؤدّي وظيفة مخصوصة أو قل التّرادف الّذي من شأنه توفير اللّبس بدلا من أن يوضّحه. والتّرادف، في حقيقة أمره، لا يُقبَل إلاّ في حالة مفردة هي اشتهار كلمتيْن اشتهارا واسعا في اشتراكهما في المفهوم الواحد، وإنّما ذلك راجع لقوّة الاستعمال الّذي محّضهما للتّقارب في المعنى. والمهمّ أن يتمّ تجنب التّرادف في مجال المصطلحات الفنية الدّقيقة لأنّ ذلك يلحق اللّبس في العمليّة التّعليميّة. علما بأنّ ظاهرة التّرادف، إنّما تمدّ اللّغة بالمفردات الأكثر إفادة والأسهل دورانا على الألسِنة، لأنّ كلّ مفردة لا تؤدّي معنى، مردّها إلى الانزواء في المعاجم، على حدّ ما ذهب إليه أحمد العايد(17). وقد تتّسع النّظرة الّتي تقرّ بالتّرادف في اللّغة لإثباته، وإن جزئيا، حتّى في مجال المصطلحات بشرط أن تكون هذه المصطلحات وصفيّة غير ملتصقة بمجال فنّي دقيق. وفي هذه الحالة، تمتد يد التّرادف لتشمل مجال المصطلحات لأنّ الترّادف في حقيقة الأمر كثيرا ما يكون أوصافا للأشياء ولا يراد به المطابقة في المعنى تمام المطابقة، لأن كلّ لفظ في الواقع يستقلّ بمعنى يختلف عن سواه ولو بشيء قليل فيتّم استعماله لإفادة هذا المعنى المغاير ولو بطريقة مجازية. ويمكن الاستفادة من التّرادف في إغناء المعجم الاصطلاحي بإفراد كلّ كلمة بمعناها الخاص(18). ومازال التّرادف يلازم الاستعمال اللّغوي بشكل ملحوظ ولعل الجنوح إلى المجاز هو محاولة للتقليل من سلطة التّرادف اللّغوي. وهذه الظّاهرة في حقيقتها نابعة من الجري وراء المعنى واعتماده في سياقات مختلفة، إذ الدّلالة أمر سابق عن المدلول وهكذا كانت فكرة المعاوضة وفق مقتضيات كلّ سياق على حدة ومثْل ذلك ما ورد في المعجم الوسيط من أنّ كلمة جلس هي مرادفة لكلمة قَعَدَ. والحال أنّ هذا المذهب غير دقيق وغير ممكن فقعد عن الحرب لا تُرادف جلس عن الحرب وهو ما يدعو إلى اعتبار أنّ المرادف المطلق المعادل غير ممكن(19).
إنّ التّرادف، حينئذ، هو رؤية في اللّغة تنبع من القول بالتّقارب بين المفردات إلى حدّ التّماثل. فالتّرادف عنصر لغوي يغذّي علاقة المفردة بالمرجع في أكثر من لغة حتّى إذا تُرجمت المفردة أحالت على مترادفات في لغات أخرى ممّا يكشف عن علاقة الأبعاد الاجتماعية بأصول الكلمات. فالكلام بما هو سلوك إنساني يجد امتداده في البيئة الاجتماعية. والمقصد الواحد تتزاحم عليه المفردات العديدة ممّا يدعم محور الاختيار. فاللّغة مليئة بظاهرة الاشتراك والترادف«وهو ما سعت النظرية التوليدية إلى أن تعالجه بالتركيز على العنصر السيمائي النحوي الرّامي بالخصوص إلى حلّ مشاكل التّرادف والالتباس والشذوذ، وإن بدأت اللّسانيات تتجاوز هذه النظرية»(20). وانظر إلى التّقارب الصوتي بين حنف وجنف وخنف، وكلّها تعني الميلان والانحراف. وإذا كان الحنف هو الميلان في المشي، وقد سُمّي الأحنف بن قيس بهذا الاسم لحنف في رجله، فإنّ الجنف ميل وجور وانحراف في الحكم ورد في الآية:﴿فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾(البقرة: 182)، وأمّا الخنف فهو ميلان في النّطق بالصّوت إلى صفة الخيشوميّة، لأنّ خنف تعني مال بالأنف وكذلك الاشتراك الصّوتي بين قطر وقطف وقطع. فقطف عمل يتعلّق بأعلى الشّيء مثل قطف الثّمار وقطف الرؤوس. وقطع يتعلّق بأسفله ومنه قطعات الشّجر أي أَبَنُهاَ الّتي تخرج منها إذا قُطعت. وأمّا قطر فمتّصل بأوسطه مثل تقطّر الجذع وتقاطرت الإبل(21). وممّا يدلّ على أنّ قضيّة التّرادف كانت محلّ جدال واسع ونقاش مستفيض بين منكر ومؤيّد ما تورده كتب النّحو من روايات حولها. وسواء صحّت هذه الرّوايات أم لم تصحّ فمجرّد وجودها هو ذو دلالة على أهميّة القضيّة وجدواها. وفي هذا المجال يندرج ما قال أبو العبّاس محمّد بن يزيد: أخبرني أبو قلابة الجرميّ قال: صرت إلى الأصمعي ومعي كتاب المجاز لأبي عبيدة فقال لي: هات فأعطيته وانصرفت. فنظر فيه حتّى انتهى إلى آخره. ثمّ رجعت إليه فقال لي: قال أبو عبيدة في أوّل كتابه: ﴿ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه﴾. أي لا شكّ فيه. فما يُدريه أنّ الرّيبَ الشّكُّ. قال: فقلت له: أنت فسّرت لنا في شعر الهذليين فقالوا تركنا القوم قد حصروا به، فلا ريب إن قد كان ثمّ لحيم. قال: فأمسك ولم يقل شيئا وردّ الكتاب»(22).
والنّاظر في لسان العرب باعتباره موسوعة لغوية متأخّرة، يجد أنّ ابن منظور لا يبِين عن الفرق بين الرّيب والشّكّ، فهو يفسّر الرّيب بكونه شكّا وظنّا وتهمة وحاجة ومن معانيه الإزعاج والإخافة والإقلاق(23). وفيما يتعلّق بالشّكّ، فهو يعرّفه بكونه نقيض اليقين(24). ومعنى ذلك أنّ ابن منظور قد عكس وعيا يستسيغ القول بالتّرادف، وهو الوعي الّذي لا ينتبه إلى أنّ اللّغة القرآنيّة قد ميّزت بين الشكّ والرّيب في الآية:﴿إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ﴾(سبإ: 54). اللّهمّ إلاّ إذا تمّ الاقتناع بوجود التّطابق بين المفردات. وأنّ التّغيّر في المبنى لا يغيّر من المعنى.
ويبدو أنّ القول بسيادة المذهب القائل بالتّرادف قد بدأ منذ وقت مبكّر، أمرٌ يحتاج إلى تدقيق وتمحيص باعتبار أنّ القول به ليس محلّ اتّفاق بين الأدباء واللّغويين. فالجاحظ، على سبيل المثال، قد انتبه إلى أنّ الألفاظ، وإن تشابهت رسما ونُطقا، فإنّ معانيها تختلف باختلاف المقام الحافّ بها وظروفه. فالسّجود لله محمود والسّجود للشّمس مذموم، يقول: «وقد يشبه الاسم في صورة تقطيع الصّوت وفي الخطّ في القرطاس، وإن كان كذلك فإنّما يعرف فضله بالمتكلّمين به وبالحالات والمقالات وبالّذين عنوا بالكلام، وهذه جملة وتفسيرها يطول»(25). وهكذا أضحت لفظة الخراج غير لفظة الإتاوة وكلمة الرّشوة غير كلمتيْ الحملان والمكس، ومفردة السّيّد غير مفردة الرّبّ، رغم جريان العادة بإطلاق اللّفظ منها مكان الآخر.
والملاحظ أنّ التّرادف لا يُطلب لذاته وإنّما هو رهين التّراكيب الّتي تجري فيها الألفاظ حيث يتدخّل النّحو ليحتلّ الصّدارة فهو ضابط المعنى وحارسه. يقول ابن خلدون في معرض الحديث عن العلوم اللّسانيّة: «والّذي يتحصّل أنّ الأهمّ المقدّم منها هو النّحو إذ به تتبيّن أصول المقاصد بالدّلالة. ولولاه لَجُهل أصل الإفادة، وكان من حقّ علم اللّغة التّقدّم لولا أنّ أكثر الأوضاع باقية في موضوعاتها لم تتغيّر بخلاف الإعراب. فإنّه تغيّر بالجملة. فلذلك كان علم النّحو أهمّ من اللّغة إذ في جهله الإخلال بالتّفاهم جملةً وليست كذلك اللّغة»(26). والنّحو ذاته هو المحدّد للقراءات بما يحتوي عليه من طرق الإعراب الموجّهة للمعنى الكامن في اللّفظ والّذي من شأنه أن يميّزه عن غيره من الألفاظ. ولقد كان القرآن خادماً للقاعدة النّحويّة وشاهدا عليها. فكانت الغاية الإعرابيّة هي الأظهر في الفعل التّفسيريّ. وقد يستدعي المفسّر في هذا الإطار الدّلالة المعجميّة للألفاظ التماسا لمزيد التّوضيح وتقصّيا للدّلالة التّركيبيّة. فاللّفظ مجرّد خادم للمعنى. وفي هذا الفضاء يتنزّل تنويه أبي حيّان بالوعي النّحويّ الّذي يتوجّب توفّره لدى المفسّر، «فكم حوى من لطيفة فكريّ مستخرجها، ومن غريبة ذهنيّ منتجها، تحصّلت بالعكوف على علم العربيّة والنّظر في التّراكيب النّحويّة والتّصرّف في أساليب النَّظم والنّثر»(27).
الهوامش
(1) الرّمّاني، التّفسير، م س، ص 135، 432، 419، 244، 229.
(2) انظر الخطّابي، بيان إعجاز القرآن، رسالة ضمن كتاب «ثلاث رسائل في إعجاز القرآن للرّمّاني والخطّابي وعبد القاهر الجرجاني»، تحقيق محمد خلف الله ومحمد زغلول سلام، دار المعارف، مصر، ط 2، 1968، ص 33.
(3) أخرجه البيهقى فى شعب الإيمان، تحقيق عبد العلي عبد الحميد حامد، الرّشد للنّشر والتّوزيع، الرّياض، ط 1، سنة 2003، (2/427)، رقم 2293.
(4) انظر الخطّابي، بيان إعجاز القرآن، م س، ص35.
(5) الخطّابي، بيان إعجاز القرآن ، م س، ص 38.
(6) يمكن العودة في هذا المجال إلى عبد الحميد أحمد يوسف هنداوي، الإعجاز الصّرفي في القرآن الكريم، م س، ص 67 وص 237.
(7) انظر الخطّابي، بيان إعجاز القرآن، م س، ص40.
(8) الخطّابي، بيان إعجاز القرآن ، م س، ص 43.
(9) الخطّابي، بيان إعجاز القرآن ، م س، ص 46.
(10) الخّطابي، م ن، ص 46.
(11) الخّطابي، بيان إعجاز القرآن ، م س، ص 47.
(12) مازال المشغل اللّغوي في النّسيج القرآني محطّ اهتمام الكثير من اللّغويين والبلاغيين، وعلى رأسهم الرّماني الذي استخرج وجوه الاستعمال العديدة لحروف عديدة. والمهمّ، في هذا الإطار، الإشارة إلى أنواع زائدة من كلَ حرف فيتساوى ذكرها مع عدمه، وهو ما يحيل بالضّرورة على وعي الرّماني بأنّ في القرآن حروفا زائدة. انظر الرمّاني، رسالتان في اللّغة، م س، وتحديدا رسالة منازل الحروف، ص21.
(13) الخطاّبي، بيان إعجاز القرآن، م س، ص55.
(14)انظر محمّد شحرور، الكتاب والقرآن، دار الأهالي للطّباعة والنّشر والتوزيع، دمشق، ط1، د ت ، ص ص 190،191.
(15) الخطّابي، بيان إعجاز القرآن، م س، ص 66.
(16) عبد القادر الفاسي الفهري، تعريب اللّغة وتعريب الثّقافة: نحو نظرية دلالية كافية، مقال ضمن كتاب جماعي: الملتقى الدّولي الثالث في اللّسانيّات18،23 فيفري1985، مركز الدّراسات والأبحاث الاقتصادية والاجتماعية، تونس، سنة1986، ص279.
(17) أحمد العايد، رصيد لغوي موحّد مصير عربي موحّد، مقال ضمن كتاب جماعي: الملتقى الدّولي الثالث ، م س، ص395.
(18) أحمد مطلوب، جهود المجمع العلمي العراقي في وضع المصطلحات، مقال ضمن كتاب جماعي: الملتقى الدّولي الثالث في اللسانيّات، م ن، ص ص 533،534.
(19) محمد رشاد الحمزاوي، المعجم العربي: إشكالات ومقاربات وبالتّحديد: ابن منظور ومفهوم المدوّنة، م س، ص291.
(20) محمد رشاد الحمزاوي، م ن، وبالتحديد: من إشكاليات المعجمية ونظريات علم الدلالة متى يصبح المعجم بنية ونظاما؟، ص334.
(21) انظر ابن منظور، لسان العرب، مادة قطع، المجلّد الثامن، م س، ص ص 276،286. وقطر، المجلد الخامس، ص ص 105،108. وقطف المجلد التاسع، ص ص 285،287. وحنف، المجلد التاسع ص ص 67،68. وجنف، المجلد التاسع، ص ص 32،34. وخنف، المجلد التاسع، ص ص 97،98.
(22) أبو سعيد الحسن بن عبد الله بن المرزبان السّيرافي، أخبار النحويين البصريين، ج1، تحقيق طه محمد الزيني ومحمد عبد المنعم خفاجي، دار النَشر مصطفى البابي الحلبي، ط 1، 1966، ص49.
(23) ابن منظور، لسان العرب، مج 1، مادة ريب، م س، ص ص 442،443.
(24) ابن منظور، لسان العرب، مج 10، م س، ص ص 451،452.
(25) الجاحظ، الحيوان، ج1، م س ، ص306.
(26) ابن خلدون، المقدّمة، دار إحياء التّراث العربي، بيروت، ط4، د ت، ص ص 545، 546.
(27) أبو حيان الأندلسي، البحر المحيط، تحقيق صدقيّ محمد جميل، ج1، دار الفكر، بيروت، 2010، ص3.
|