نحو أفق جديد

بقلم
أ.د.عبدالجبار الرفاعي
الاستثمارُ في الحُبّ صعب
 حضورُ الإنسانِ الأخلاقي المبادِر بالعطاء المعنوي والمادّي قليلٌ في حياتنا. الإنسان كائنٌ من الصّعب أن نحبّه لو اطلعنا على شيءٍ ممّا هو غاطسٌ في باطنه.‏ كثيرٌ من النّاس قساةٌ قليلٌ من النّاس رحماء، كثيرٌ من النّاس بخلاء قليلٌ من النّاس كرماء، كثيرٌ من النّاس جافون قليلٌ من النّاس دافئون، الكرماء بكلمات المحبّة الصّادقة استثناء. الحُبّ مصدر الطّاقة الخلاّقة للعيش، مَن يعجز عن الحُبّ يعجز عن العيش السّعيد، ويعجز عن إنتاج معنى ثمين لحياته. أسعد إنسان هو مَن كانت مهنته صناعة الحُبّ والاستثمار فيه، كما يستثمر رجال الأعمال النّاجحون في البورصة. المحبّة الصّادقة رصيد العلاقات الإنسانيّة، والسّعي المتواصل لاكتشاف المشتركات العاطفيّة والأخلاقيّة معه، وغضّ النّظر عن الاختلافات الدّينيّة والمذهبيّة والثّقافيّة وأشباهها، وعدم التّدخّل في الخصوصيّات الشّخصيّة، إلاّ أن يبادر الآخرُ بإخبارك بشيء من حياته الشّخصيّة، ويطلب التّدخّل والدّعم بشأن خاصّ به أو علاج مشكلاته.‏
صارت كلماتُ الحُبّ ‏المتداولة أغلبها مبتذلة لكثرة استعمالها مفرغة من معناها، بل تستعمل هذه الكلمة الجميلة ومرادفاتها أحيانًا قناعًا يخفي خلفه معنى مضادًّا. أسوأ استعمال لكلمة الحُبّ حينما تستعمل مصائدًا للمغفّلات وللمغفّلين. الحُبّ الذي يضمّد جراحَ القلوب هو ما يكون نمطَ وجود يعيش فيه الإنسانُ ويتحقّق. يعيد الحُبّ بناءَ الإنسان مثلما يعيد الإنسانُ بناء الحُبّ، فيستثمر الحُبَّ في حياته وحياة غيره. الاستثمارُ في الحُبّ مهارةٌ حاذقة؛ لا تجيدها إلاّ القلوبُ الحيّة، بالرّغم من أنّها ضرورةٌ تفرضها حاجةُ الإنسان للعيشِ بأقل ما يستطيع من الآلام في هذا العالم. معرفةُ كيفيّةِ استثمار الحُبّ، وطريقةِ إدارته وتوظيفه وتنميته، والاحتفاظِ فيه بوصفه كنزًا، تتطلّب مهارةً مضاعفة، وعقلا حكيمًا، ووعيًا واقعيًّا بطرائق العيش والحياة الجيدة.
للأسف الحديث عن المحبّة شحيح، بل مَن يتحدّث عن المحبّة يصفه أكثر النّاس بأنّه غير واقعي، لأنّ لا محبّةَ صافية في الحياة اليوم، وربّما يتّهمه البعض بتضليل النّاس بأوهام. الاستثمارُ في الحُبّ أصعبُ أشكال الاستثمار في مجتمعنا. ما يدعو في حياتنا للعنفِ وكراهيّةِ الآخر أكثرُ وأشدّ ممّا يدعو للمحبّة. ذلك ما يفرض علينا تنمية المحبّة وتكريسها. صوتُ المحبّة الصّادقُ في مثل هذا المجتمع نشاز، إنّه كمن ينفخ في رماد، الكلامُ والكتابةُ عن الحُب ليست شائعة، وأحيانًا مستهجَنة. قلّما نعثرُ على معلّمين للحُب في مدارسنا وجامعاتنا، الدّينيّة منها والمدنيّة. لدينا فائضٌ كبيرٌ من معلّمي إنتاجِ الكلام وتكديسِه، واستنزافِ العقل في مغالطات، وتعطيلِ التّفكير في جدلٍ عقيم. 
 لا كمّية للحُبّ لأنّه من الكيفيّات المجرّدة وهي لا تتحدّد بكمّية. الحُبّ أمر مجرّد، وكلّ ما هو مجرّد غير مقيّد بزمان أو مكان أو كمّية أو حجم أو كيفيّة مادّية، الحُبّ ليس نسخة واحدة تصدق على كلِّ النّسخ المتماثلة، الأمر المجرّد يتّسع باتساع ما يثريه ويكرّسه. الحُبّ من أسرار القلب، هذه الأسرار لا تخضع للقوانين الطّبيعيّة. لكلّ حُبّ كيفيّة يتجلّى فيها تشاكل شخصيّة المحبّ وشخصيّة المحبوب. ثمرات الحُبّ وفاعليّاته مختلفة، تختلف وتتنوّع بتنوّع مَن نحب، ودرجة الحساسيّة العاطفيّة للإنسان، وانفعاله بالحُبّ. الحالاتُ الوجوديّة كالحُبّ والإيمان والسّكينة والسّعادة والألم والقلق يصعبُ تعريفها، يمكن أن تنكشفَ بوضوح لحظةَ الشّعور بها. تذوقُ الحُبّ غير معرفة ‏حقيقته واكتشاف كنهه والعيش فيه. لا يمكن أن نفلسفَ كلَّ شيء نريد أن نتذوّقه ونتعرّف على ماهيته، تذوق الحُبّ لا يتطلّب التّفلسف واكتشاف جوهره. ‏حقيقة الحُبّ والإيمان وكلّ شيء آسر من أمثالهما في الحياة سرٌّ. لو حاولت أن تفهم ‏الحُبّ وتفلسفه كما يفعل الفيلسوف يمكنك ذلك، لكنك لن تتذوقه مالم تعشه كطفل، وتتحقّق به كأم، مثلما تعيش الحُبّ وتتحقّق به الأم، والفلاح والعامل والراعي الأميون. الحُبّ يخفي عِلَله، وربما لا يُعلَّل، وإن كنا نكثر الحديث عن آثاره وعطاياه وأحواله وحالاته وشؤونه وشجونه ومواجعه.
‏ أن تفهم الحُبّ وكيفية ولادته وصيرورته شيء، وأن تعيش الحُبّ وتتحقّق به كطور وجودي تسمو وتتكامل فيه شيء آخر. ‏‏ما لا يمكن تفسيره في الحُبّ، نشأة وصيرورة وقوّة وضعفًا، أكثر ممّا يمكن تفسيره. يكمن سحر الحُبّ فيما لا يمكن تفسيره. الحُبّ يمحو الشّعور بوطأة الزّمن ومرارات الأيّام. عطايا الحُبّ في حياة الإنسان باذخة، إذ يتحقّق الإنسان بالحُبّ بطور وجودي أسمى. قوّة الحُبّ توقد طاقة الحياة وتفجّرها، لا تظهر قوّة الحُبّ كطاقة ملهمة في الحياة إلاّ بكيفيّة استثماره وتوظيفه بذكاء. 
احتكار الحُبّ كاحتكار الخلاص يوم القيامة لدى الأديان. عندما تستبدّ المعتقدات المغلقة وتتسلّط على ضمير الإنسان تقعده عن الحُبّ بمعناه الإنساني الرّحب. العقائد المغلقة والأيديولوجيّات اليساريّة والقوميّة والأصوليّة تحجب عن معتنقيها رؤية الإنسان بوصفه إنسانًا يشترك معهم في إنسانيته، بل يرونه بوصفه مختلفًا، وكلُّ مختلِف في رأيهم غيرُ جدير بالثّقة والتّكريم والإحسان والمحبّة. الحُبّ حالة وجوديّة نسبيّة، إن تحقّق فيها إنسان بمرتبة عاطفيّة وروحيّة وأخلاقيّة عالية يتسامى إلى طور وجودي في سلَّم تكامُله. يصير مثل هذا الإنسان محبًا ومحبوبًا، مأزق هذا الإنسان أن آباءه وأولاده وزوجته وإخوانه كلّهم يطالبونه أن يحبّهم أكثر من غيرهم، أو يحبّهم لا غير، بعضهم يتّهمه بالكذب، وآخر يظلّ يعتب ويلوم، ولسان الجميع: أنت تدّعي أنّك تحبّني فلماذا تحبّ فلانًا أكثر منّي، وكلّ مرّة يأخذ منه العهود والمواثيق أن يحبّه أكثر من أيّ إنسان، بل يتمادى بعضهم فيطلب منه أن يحبّه لا سواه. هؤلاء يتجاهلون أنّ مراتب الحُبّ تختلف شدّة وضعفًا وتتنوّع كيفياته. 
إن أحسنَّا استثمار الحُبّ يطيب عيشنا، وإن أسأنا استثماره يتكدّر عيشنا. الحُبّ إن ‏استطعنا أن نجعل من شعورنا فيه وعيشنا به بمثابة الرّسم، سيرسم لنا أجمل صورة للحياة. ولو توهّمنا فجعلنا من شعورنا بالحُبّ وعيشنا فيه أوهامًا، نتطلع فيها لحصاد كلّ شيء، ولو كان يعاند طبيعتنا ويفوق طاقتنا وواقعنا المعيش، ونظلّ ندين ونشكو ونتذمّر ونضجر ونسأم من المحبوب، بلا امتنان ولا تثمين لمن منح حياتنا هذا المعنى الجميل، وأغناها بمعانقة روح محبّة سخيّة تعطينا بصدق ما يرفد حياتنا بالأمل والتّفاؤل والبهجة، وقتئذ يصير الحبّ مقبرة أحلامنا ومأساة حياتنا. بقدر ما يعمل الحُبّ على توحيد قلبي الحبيبين، ينبغي ألاّ ننسى تنوّع وإثنينية الحبيبين، ولا نتجاهل فرادة ذات كلّ إنسان واستقلال كينونته الوجوديّة، وألاّ يغيب عنّا أنّ كلّ ذات لا تطابق تمامًا إلاّ ذاتها. القاعدة الوحيدة في الحُبّ هي اللاقاعدة، كل منا يحب على شاكلته. 
‏الباطنيّة والغموض وتحوّل كلّ شيء في الحياة إلى سرّ يبدّد المحبّة. المحبّة بوح ووضوح وانكشاف، وإظهار المشتركات، الأعمق في تجذير المحبّة هو تحويل الاختلافات إلى مزايا، يتكامل فيها ما لدى الحبيبين من نقص، والتّعبير بلطف ورقة عن هذه المزايا. تلك منابع أساسيّة لبناء الثّقة وترسيخها، وتبعًا لذلك ترسيخ المحبّة وتكريس أركان المودّة. انهارت علاقات وثيقة بسبب غموض أحد الشّخصين وباطنيته. تشكو بعض الزّوجات من غموض مواقف وسلوك وحياة الأزواج. أعرف بعض حالات الطّلاق حدثت إثر ذلك.
 أخطر أنماط الحُبّ عندما يصير استعبادًا، وأعذب أنماطه عندما يصير محرِّرًا. الحُبّ مرآةُ الذات، كلُّ إنسان يحبّ على شاكلته، إن كان الحُبّ بمعنى الحرّية يكون مُلهِمًا ومحرّرًا، وإن كان الحُبّ بمعنى الامتلاك يكون استعبادًا مميتًا. الحُبّ وإن كان يمحو الصّفات المذمومة، أو يخفض فاعليةَ وتأثيرَ بعضها، إلاّ أنّه أحيانًا يمحو الذاتَ تمامًا ويستلبها ويمسخها. إن اشتدّ عشقُ القلب يعطّل العقلَ والإرادة، وحتى الذّوق أحيانًا. العقل يمكن أن يتحكّم بسلطةِ القلب، إن كان عقلًا نقديًّا، وأسعفته إرادةٌ صلبة شجاعة. العقل شيء، والقلب شيء آخر، والإرادة شيء ثالث. يحدث الصّراعُ داخل الإنسان بين ما يعرفه العقل ويرى ضرورة الامتناع عنه، وبين فائض اشتياق قلب يشاكس المعرفة وقرار العقل، وإرادة تخذل العقل. طالما عجز العقلُ عن إكراه القلب، أو قهر الإرادة على الفعل أو التّرك، مهما كانت حجج العقل منطقيّة.
 الإنسان النّكدي يحسب الحُبّ ممارسةَ استعبادٍ للمحبوب، واستئثارٍ بكلِّ شيء في حياته، والظفرِ بكلِّ شيء لديه، وانتهاكِ حرّياته وحقوقه الخاصّة، فيضيّع الحُبّ عندما يترقّب منه ما هو خارج حدوده، ويضيع هو في متاهات الحياة بضياع هذا الكنز النّفيس، الذي كان مؤنسًا لحياته وملهِمًا لأجمل معانيها، إذ أخفق في صيانته وتكريسه. الحُبّ توأم الحرّية، الحُبّ تكرّسه الحرّية وتمسخه العبوديّة. الإنسان غير الواقعي يعمل بمعادلةٍ صفريّة، إمّا أن يكون الحُبّ استحواذًا واستملاكًا لكلِّ شيء في حياة المحبوب، أو خسارةً للمحُبوب ولكلّ شيء. هذا الإنسان يعجز عن أن يجعل من الحُبّ محرِّرًا للذّات ومبهِجًا للقلب.
 حين يصير الحُبّ مكوِّنًا عميقًا للقلب، لن يموت أبدًا مادام المرءُ حيًّا. الحُبّ لا ينهزم، العقل مهما كان حاذقًا لا يهزم الحُبّ، حتّى الإرادة يخذلها الحُبّ أحيانًا، قوّة الحُبّ تعطّل العقلَ والإرادةَ وحتّى الذّوقَ أحيانًا. مَن يحاول قهرَ قوانين الطّبيعة كقانون الجاذبيّة تقهره وتحطمه، ومَن يتنكّر لطبيعته الإنسانيّة ويصرّ على قهرها تقهره وتحطمه في خاتمة المطاف. القوانين البايلوجيّة كالقوانين الطّبيعيّة، تحدّيها يدفع ضريبتَه الجسدُ ويفتك به. القوانين السّيكولوجيّة وإن كانت لا يتعذّر تحدّيها، إذ تستجيب النّفسُ لها ابتداء مرغمة، لكنّها تعاندها في مرحلةٍ لاحقة وترفضها بعد إنهاكها، وأحيانًا تكون الضّريبةُ كبتها وتمزّقها.
 من أعنف معاندات الإنسان لطبيعته، وتنكيله العبثي باحتياجاته العاطفيّة، أن يعاند نفسَه ويقهرها بإرغامها على هجران مَن يحبّ، إن كان محبوبُه أخلاقيًّا نبيلًا. عندما يعمل الإنسانُ على قهر الحُبّ وتناسيه يتعذَّر عليه انتزاعَه من قلبه، حتّى لو غطس بعد مضيّ مدةٍ طويلة من المعاناة المريرة، فإنّه يترسّب في اللاّوعي جروحًا منقوعةً بسموم قاتلة، تتفجّر بصورةٍ مباغتة على شكل اكتئابٍ مظلم مجهول الأسباب.
 يمكن أن يتنكّر الإنسانُ للاحتياجات الأساسيّة في حياته، ويكبتها بعنفٍ لسنوات، إلاّ أنّ هذا التّنكّرَ يتحوّل إلى سموم بمرور الأيام تستنزفه وتحطّمه من الدّاخل. تستجيب الذّاتُ لإكراه الإنسان لها ابتداء، غير أنّ الإكراهَ المتواصل للذّات على ما لا تطيقه يستنزفها ويصيّرها رميمًا. التّصوّف الطّرقي والرّهبنة في الأديان غالبًا ما تستنزف الجسد، وتنهك القلب، وتبلّد العقل. أكثرُ تمارين الارتياض تقهر طبيعةَ الإنسان، وتفتك بجسده واحتياجاته الغريزيّة العميقة، ولا تكرّس المحبّة.