عبق التراث

بقلم
خالد إغبارية
اللهجات الفلسطينية والتراث الفلسطيني (2-4)
  العلاقة بين الإرث التّاريخي والحضارة:
التّراث هو الحاضنة التّاريخيّة للشّعوب على اختلافها، وهو ما يمنحها هويتها المميّزة، كما أنّه مصدر الشّعور بالانتماء والأمان بالنّسبة للمجتمعات الحديثة، كما أنّ التّراث قد يكون الدّليل الذي يمكن للإنسان من خلاله تفسير الحاضر وحلّ مشكلاته والتّنبؤ بالمستقبل، وهو الأمر الذي يعدّ أساس قيام الحضارات على تنوّعها؛ ومن هنا فإنّ الحفاظ على التّراث يُعتبر من أولى الأولويّات على الإطلاق، غير أنّ العولمة ونمط الحياة المتسارع صعَّب المهمّة بشكل كبير على المهتمين بحفظ تراثهم وتوريثه للأجيال اللاّحقة.
إنّ مسؤوليّة الحفاظ على التّراث تقع على عاتق الدّولة كما تقع على عاتق الأفراد أنفسهم؛ فسعي الدّولة إلى التّطوّر لا يجب أن يمنعها من الحفاظ على تراثها، وأصالتها، وعاداتها، وتقاليدها، وهناك العديد من التّجارب النّاجحة التي تؤكّد على إمكانيّة الجمع بين الأصالة والمعاصرة، ممّا يعني ضرورة اتخاذ الدّولة لبعض التّدابير التي تضمن الحفاظ على التّراث وتطويره، حيث بات حاجة ملحّة في عصرنا الحالي. وتتمثّل هذه التّدابير في تطوير البحوث والدّراسات العلميّة والتّقنيّة التي تجعل من الدّولة قادرة على مواجهة الأخطار التي قد تهدّد تراثها، بالإضافة إلى اتخاذ التّدابير القانونيّة والماليّة والإداريّة بغية تحديد هذا التّراث وصيانته ومتابعته مع تشجيع البحث العلمي في هذا المجال، كما يجب عليها أيضاً تخصيص المؤسّسات وتزويدها بالكوادر اللاّزمة لأسباب عرض التّراث وحفظه وحمايته.
يكاد مصطلح التّراث أن يكون مرادفاً لمصطلح التّاريخ إن لم يكن هو الجزء الأهم منه أو أنّه هو الرّوح النّابضة لهذا التّاريخ والتي بدونه يصبح مجرّد أحداث عبثيّة، ويتّحد التّاريخ والتّراث معا ليشكّلا جذور أيّة جماعة إنسانيّة، وبالتّالي يفسّران سلوك تلك الجماعة ويلقيان مزيداً من الضّوء على اهتماماتها ونظرتها للأشياء وعلاقتها الإنسانيّة الدّاخلية بين أبنائها والخارجيّة أي بينها وبين الآخرين، ومدى انفتاحها وانغلاقها وتشدّدها ، وكلّ هذا يصبّ في النّهاية في بوتقة تحديد الشّخصيّة والهويّة الإنسانيّة والاجتماعيّة والسّياسيّة والثّقافيّة. من هنا نستطيع أن نقول أنّ التّراث الفلسطيني ليس مجرد ذاكرة للشّعب ولكنّه حضور حيّ وفاعل في الوقت الرّاهن، لذا يجب علينا أن نعمل لإعادة تشغيله وصياغته.
أهمّية التّراث الفلسطيني:
* تكمن أهمّية التّراث الفلسطيني في أنّه يستطيع أن يعطي للشّعب هويّته الخاصّة التي تميّزه عن الشّعوب الأخرى وتضعه في مصاف الشّعوب التي لها تاريخ عريق تحتفي به، والأجمل هنا أنّ هذا التّاريخ العريق له مساهمات في تطوير الشّعوب الأخرى.
* يعمل التّراث على حفظ ذاكرة الشّعب الفلسطيني وهو سلاح ضدّ السّياسة الاحتلاليّة ورسالة نضاليّة تتناقلها الأجيال ووسيلة مقاومة لا يمكن قهرها.
* يتأثّر التّراث الفلسطيني بتباين التّضاريس الفلسطينيّة أيّا كانت بحريّة أو ساحليّة أو سهليّة أو جبليّة أو صحراويّة، ويتأثّر بحيثيّات وأبجديّات العادات والتّقاليد والممارسات اليوميّة ويظهر هذا جلياً في الأغاني والأهازيج الوطنيّة وفي الصّناعات اليدويّة التي تعتمد على المادّة الخام الموجودة في المنطقة الجغرافيّة وكذلك في الزّي الذي نلاحظ تباينه حسب اختلاف تلك المناطق.
* نجد أهمّية التّراث في مساهمته الكبيرة في تراكم المعرفة، وهو إرث عظيم ليس لشعب من الشّعوب فقط بل للإنسانيّة جمعاء وهو المحور الأول والأخير لثقافة شعب من الشّعوب، وهو ما يسهم بشكل رئيسي في تكوين العقل الجمعي، فنحن أحوج ما يكون إلى تراث موحّد ورموز مشتركة تحافظ على ترابطنا ووحدتنا كشعب واحد متماسك أكثر من أيّ وقت مضى نظراً لما يواجهه الشّعب الفلسطيني من تهويد وتهجير.
* لا يعيق التّراث أبداً عجلة الحضارة لأنّه أساسها، أمّا ما يخصّ روح العصر فهنا تكمن وظيفتنا كدارسين للتّراث حيث علينا القيام بتطويره وتحديثه وعرضه بصورة جديدة تلائم العصر، وإن كان تراثا قديما لا يمكننا العمل على تطويره يتمّ الاحتفاظ به في الذّاكرة الشّعبيّة.
* يمكن للتّراث الشّعبي أن يسهم بشكل مباشر في التّنمية الاقتصاديّة، فهو ثروة اقتصاديّة يمكن استغلالها في مجالات وفعاليّات معاصرة سواء في الهندسة المعماريّة أو اللّباس أو السّياحة أو الأدوات والإبداعات الفنيّة الأخرى، إضافة إلى أنّه يشكّل العنصر الأساسي لكثير من المهرجانات السّياحيّة والفنيّة.
* نستطيع من خلال دراسة التّراث التّعرّف على تاريخ المدن الفلسطينيّة والعهود التي مرّت بها والعناصر التي ميّزت أبنيتها في كلّ فترة من الفترات، ومن ثمّ القيام بعمليّات صيانة الآثار وترميمها والمحافظة عليها على أسس وقواعد علميّة، ودراسة المباني من حيث المواد المستخدمة أو طرق إنجازها سواء الهندسيّة أو الإنشائيّة أو الفنّية.
* تقودنا دراسة التّراث إلى التّعرّف على عظمة تاريخنا الفلسطيني وروعة الحضارات التي عاشت على أرضنا وسكنت مدننا، ممّا يولد لدينا الدّافع الذّاتي لحماية هذه الآثار والمحافظة عليها، وهنا يُخلق نوع من الوعي الشّعبي بأهمّية التّراث الفلسطيني وقيمته الثّمينة.
* تسهم دراسة التّراث في دراسة النّواحي الاجتماعيّة والفئات البشريّة داخل المجتمع وانتماءاتهم من خلال دراسة ثقافاتهم التي تعكس العقليّة السّائدة، ومن هذه الدّراسة يمكننا إصدار أحكامنا ووضع الحلول المناسبة للمشاكل الاجتماعيّة داخل المجتمع، فدراسة تراث قرية فلسطينيّة تعتبر جزء من الرّيف الفلسطيني بسكّانه وعاداته وتقاليده وعقليّة أبنائه هو دراسة لتراث كلّ القرى الفلسطينيّة بروحه ومعناه فالأعراس والمآتم والمعتقدات والأعياد والممارسات والطّبّ الشّعبي والأمثال والصّناعات الشّعبيّة تكاد تكون واحدة في كلّ أنحاء الرّيف الفلسطيني بشكله ومحتواه وأسلوبه وتكمن الاختلافات الصّغيرة حسب طبيعة المناخ أو التّضاريس وتفاعل السّكان معها في أسلوب اللّباس أو أسلوب المعيشة أو المادّة الخام المتوفّرة والتي يستخدمها السّكان في صناعة أدواتهم.
* توجد علاقة واضحة بين التّراث وبين الأدب الشعبي سواء كان شعرا أوحكاية أومثلا، ولهذه العلاقة تاريخ طويل يعود لتاريخ نشأة الحكاية ونشأة الشّعر الذي تحوّل في كثير من الأحيان إلى أغانٍ تغنّى على أنغام وموسيقى شعبيّة، وغالباً ما يتخلّل تلك الأغاني حكم وأمثال وحكايات متداولة على ألسنة الصّغار والكبار جميعها مستقاة من حياة الشّعب وتجاربه ومعاناته وآماله وطبيعة حياته، حيث عمل الأدب الشّعبي جاهداً على رصد الحياة الشّعبيّة، فدوّن وقائع وأحداث كبيرة وصغيرة، وجاء التّدوين بمثابة سجلّ تاريخيّ للشّعب الفلسطيني على مدى سنين طويلة.
* تساعد الألعاب والأغاني الشعبيّة على تقوية الرّوابط في المجتمع لا سيما مجتمع الأطفال الذي يشهد ضعفا في العلاقات، فالكثير من الألعاب الشّعبيّة التي يشترك فيها عدد كبير من الأطفال تخلق تجمّعاً متجاوباً، ممّا يؤدّي إلى تقوية الرّوابط الاجتماعيّة بشكل عام، ومن بين تلك الألعاب نذكر «نطّ الحبل» و«الغمّاية» و«السّبع حجار» و«رن رن يا جرس»، ويجب التّنويه هنا أنّ الألعاب الشّعبيّة تجمع الفئات العمريّة بحسب اللّعبة إضافة إلى أنّ هناك ألعاب للبنات وأخرى للأولاد، وكان أطفال فلسطين يستغلّون المواد الخام المتوفّرة في بيوتهم من المهملات والمتروكات المنزليّة أو التي يعثرون عليها ملقاة على الأرض في الشّوارع والحارات مثل قطع الخشب والحجارة وعلب القصدير الفارغة والأسلاك وبقايا القماش ليصنعوا منها ألعابهم، فكان الأولاد يصنعون الكرات من الأقمشة القديمة ويطلقون الطّائرات الورقيّة في الفضاء، في حين كانت الفتيات تصنعن الدّمى من بواقي الأقمشة وعيدان الخشب.
* يساعد التّراث في المحافظة على جذورنا المتأصّلة في الأرض، وقيمنا وثوابتنا وهو دلالة على حقّنا الشّرعي في أرض فلسطين، وبمعرفتنا لهذا التّراث ودراستنا له دراسة معمّقة وبالحفاظ عليه والتّرويج له، وبالبحث عن أساليب تطويره بما يتلاءم مع الحياة المعاصرة تكون لدينا القدرة على دحض أيّ محاولات لنسب هذه الأرض والتراث الذي تملكه إلى الكيان الصّهيوني.
 واجب الأفراد في حفظ التّراث: 
من أهمّ طرق حفاظ الأفراد على التّراث تعريف النّشء الجديد به في المدارس ومنذ الصّغر؛ حيث يكون ذلك من خلال الطّرق التي تتناسب مع كافّة المراحل العمريّة، إلى جانب ذلك فإنّ مسؤوليّة الحفاظ على التّراث تقع أيضاً على عاتق الأهل في البيت، فتنصّل الأهل من هذه المسؤوليّة مع ميل البعض منهم إلى حشو أدمغة الأطفال بمبادئ الثّقافات الدّخيلة واللاّإنسانيّة في بعض الأحيان قد يعمل على استبدال التّراث بما يتضمّنه من مكوّنات جميلة وسامية بالأفكار الهدّامة، ممّا سيؤدّي في نهاية المطاف إلى ضياع الهويّات الخاصّة بالشّعوب المختلفة، وتجدر الإشارة إلى أنّ حفظ التّراث يستلزم من الأفراد النّظر إليه باعتباره مكوناً مهمّاً وأساسيّاً لشخصيّاتهم، وأنّه نبراس المستقبل في حين تتأثّر هذه الرّؤية بمستوى تعليم الفرد وإيمانه بضرورة حفظ هذا التّراث وإيلائه الجهود اللاّزمة لتقديره وحفظه.