تمتمات

بقلم
رفيق الشاهد
قبل أن يصفّر الحكم
 مقدّمة المؤلّف
مواطن تونسي، موظف بإحدى مؤسّسات الدّولة، ومن خريجي مدارسها الثّانويّة ومن روّاد مدارجها الجامعيّة. كنت قرأت مثل أترابي الفرحة والنّخوة في عيون أبي كما تعلّمت الصّدق في القول والإخلاص في العمل مع معلّمي الذي كان شديد الاعتقاد أنّه يعدّ جيلا، الوطن في أشدّ الحاجة إليه. مازلت أتوق ويحملني الشّوق والذّكريات الحلوة لصفحات ذلك الزّمن ومازلت أتلمسها ورديّة ألوانها في مزهريّة مجلة «عرفان» وغيرها .... 
واليوم أنا متقاعد، أتلمّس بفضل اللّه ومنّه نوعا من الاستقلاليّة والرّعاية وشيئا من تحقيق الذّات ومنسوبا مرضيّا من الكرامة، كلّها مبادئ أساسيّة تتعلّق بالصّحة الجيّدة والرّفاه الذي اتخذته الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة هدفا من أهداف التّنمية المستدامة. وكلّها محدّدة بحدود ما تسمح به الصّحة البدنيّة والنّفسيّة والعقليّة غير المضمونة في المستقبل القريب.   
 وعلى قدر امتناني اليوم بما أتمتّع به من صحّة وعافية أتذوّق بها شعورا جديدا لذيذا عنوانه الانعتاق، على قدر خوفي من يوم غد من زوال الصّحة وزوال كلّ شيء. ويزيد خوفي كلّ يوم ويزيد يقيني أن لا شيء أغلى من الكرامة الإنسانيّة. فجعلتها نصب عيني هدفا أوحدا وعنوانا لذاتي ووجّهت اهتمامي كلّه لتحقيقها وضمانها ليوم لا ينفع فيه إلاّ ما أعددته مسبقا ممّا تستحقّه من رعاية. واليوم متمتّع بمداركي، ولديّ من الاستقلاليّة ما يمكّنني من أخذ القرار المناسب لتحقيق ذاتي وتسجيل الهدف قبل أن يصفّر الحكم انتهاء الشّوط الأخير. 
كنت ولا زلت مؤمنا بمفهوم الدّولة الحديثة وموقعي منها وما يربطني بها كمواطن. أدفع ضرائبي بصفة تلقائيّة ومستمرّة خصما من الرّاتب مباشرة وسعيا دون تردّد لبناء وطن حديث إستقلال رغم عمق جذوره في التّاريخ.  تونس عميقة في القدم راكمت تجارب أمم في سجلّ من ثلاثة آلاف ورقة نصفها تقريبا سوداويّة وتراوحت ذات النّصف الأخر بين طيف الرّمادي تتخلّله من حين لآخر وريقات مشرقة بلون وردي. وتعلمت، فأدركت أبعاد عقد المواطنة، فما هو إلاّ جزء من عقد اجتماعي. وإن كان العقد الأخير ينظّم الحقوق والواجبات بين مكوّناته، أفرادا وجماعات مثل المنظمات والجمعيّات والهياكل وكذلك الجغرافيا والعناصر الطّبيعيّة فوق الأرض وتحتها إضافة إلى العلاقات التي تجمع بينها والقوانين التي تحدّدها، فالعقد الأول، عقد المواطنة يرتّب حقوق الفرد وواجباته تجاه الدّولة وتجاه غيره من الأفراد طبقا لقيم المساواة وتكافؤ الفرص والعدالة والأمن والحرّيات.
إلى أيّ مدى يكون الفرد راض عن منسوب هذه القيم؟ كم كيلو وميجا أو جيقا وتيرا من هذه أو تلك تجعل المواطن يشعر بالكرامة؟ 
والكرامة ما حكايتها؟ لماذا نجدها في كلّ تظاهرة تتمظهر وفي كلّ مظاهرة تقوم ولا تقعد قبل أن تقلب الدّنيا رأسا على عقب؟ أليست الكرامة محرارَ حالة المواطن ومزاجه؟ أليست الكرامة معدية في هبوطها وتحليقها؟ والشّعور بالكرامة ألا يرتفع ويهبط مع منسوب القيم؟ أليس هو الذي يجعل الإنسان أنسانا والمواطن مواطنا ويعزّز الانتماء لديه في حالة فرح كان أو حزن(1)؟ 
وخابرتنا التجارب مدى تأثيرات الأزمات السياسية وانعكاساتها السلبية مباشرة على سلامة الدولة ومؤسساتها وما يتبعها من هشاشة تصيب الاستقرار الأمني وما يترتب عليها من انهيار للمنظومات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. عايشنا خلال هذه الأزمات تقلبات الكرامة بين أعلى تجلياتها وفي حضيضها عندما يرمي شبابنا بأنفسهم في المتوسط بعد حرق أوراق هوياتهم.
ولكنني لم أعد شابّا ولم تعد لي القدرة على مواجهة هبوط الكرامة ولا الهروب منه، وليس لي من بدّ إلّا العمل فيما تبقى من مساحة الحركة والقرار، للاستثمار في المستقبل لتأمين الكرامة لي ولمثلي من كبار السّنّ وحمايتهم دون أن يكونوا عبئا على أحد وبالخصوص أولادهم وبناتهم. 
أعود إلى المنشئ وإلى أصل الأشياء. التّكافؤ الاجتماعي من عناصر الأنظمة السّياسيّة الاشتراكيّة، ولكنّه قطاع مربح يمكن أن يغري رأس المال للخوض فيه وتعمّ الفائدة على الجميع. وهذا دور الدّولة في وضع الخطط الاستراتيجيّة لحماية كبار السّن من ضياع السّند وأن تراقب تنفيذها. 
نعود إلى ما عرف بدار المسنّين لا دار العجّز. كما جاء على لسان الأم سلمى: «ولكنّها ليست دار العجز بالمعنى المتعارف الذي ترمي إليه. ليست دارا فقط لإيواء الذين ليس لهم سند. هذه فلسفة جديدة ستنقِذ كبرياء المسنّين وتسترجع لهم كرامتهم حتّى أولائك الذين يلتقطونهم من على أرصفة الشّوارع. المبدأ وحده أعجبني. ما حاجتي بجراية تقاعد إذا ما وُفّر لي كلّ ما أحتاجه؟ وفي الأخير ماذا يمكنني أن أحتاج في مثل هذا العمر؟ فلنكن واقعيين». فعلا، لمّا تزول الصّحة نفقد الاستقلاليّة والقدرة على تحقيق الذّات، ونصبح في حاجة إلى مزيد رعاية للاحتفاظ بمسحوق الكرامة.
للجميع الحق في الحلم وإن ضاقت مساحة المستقبل لدى بعضهم، فلهم أن يروا ما تبقى منه مزهرا.