خواطر

بقلم
شكري سلطاني
خلق فسوّى
 إنّ البحث في كينونة الإنسان كوجود محض وككائن فرد غير صمد، فانٍ غير باقّ، يُحيل وجوبا إلى تناول ذات هذا المخلوق من منظور بيولوجي -فيزيولوجي كجسد وتعدّد وظائف أعضائه، وكذلك كمشاعر وعواطف وتمثّلات وأفكار من جهة وجدانه وذهنيته وعقليته، وكسلوك من جهة الفعل البشري، فهو «الجُرم الصّغير الذّي إنطوى فيه العالم الأكبر».
بحضوره يُتعقّل معنى الوجود ويستحيل بغيابه، وتبقى صيرورة حياته رهين سعيه وكدحه والتفاته لشؤونه وانصرافه واختياراته وتعلّقاته. إذ أنّ عديد المؤثّرات تُحدّد وجهة سيره ونوعيّة حياته كالمستوى المادّي والإجتماعي والوظيفة والعلاقات والصُحبة.
للإنسان دعامة وجود ،فالمتأمّل مليّا للذّات البشريّة من وراء الصّورة والحركة ومن خلال زاوية باطن وجوده وظاهر أفعاله يستنتج بما لا يدع مجالا للشّكّ أنّ بنيته التّكوينيّة ليست ذاتيّة، فلا يمكن أن يكون مصدرها الإنسان ولا منشؤها الطبيعة، فلا الطبيعة قادرة على صياغته على ما هو عليه بِنية ولا الإنسان بحوله وقوّته قادر على تكوين نفسه بنيويّا كما هو. فكما أنّ هيكله العظمي دعامة لبنيته الجسديّة واستواء بدنه فلوجوده حتما دعامة معنويّة لذاته.
إنّ المصدر البنيوي التّكويني للوجود البشري لا يُمكن أن يكون إلاّ إلهيّا بحتا، ويبقى الفعل الإنساني وظيفي صرف ضمن حريّة الإختيار. فقد يظهر للإنسان حول وقوّة وقدرة وإرادة ومشيئة بشريّة، ولكن في حقيقة الأمر - ومن مضمون بواطن المعاني وجواهرها- تتكشّف لكلّ عاقل صاحّ حصيف منتبه عن حول اللّه وقوّته في إدارته لمملكته وشؤون عباده تسهيلا وتيسيرا وتسييرا، ولولاه سبحانه وتعالى لم نَشَأْ ما نَشَاءُ إلاّ أن يشاء بحكمته وقدرته النّافذة النّاجزة في الملك والملكوت، وفي عباده وإن أنكروا لفظا وقولا بغرورهم ووهمهم، فذاك شأنهم، فلن يُغيروا من واقع الحال شيئا:﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ...﴾(الإنسان: 30). فالسرّ الربّاني مُستودع في الأشباح والنّفوس والأرواح:﴿ٱلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ * وَٱلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ﴾(الروم: 2-3).
فليستحكم من وعى وفهم الإشارة أمره ويشُدّ أزره ويعزم على رُشده فلا يعبث ويلهو ويجهل جهالته بربّه وبالوجود تفريطا أو إفراطا زيادة أو نقصانا ،فلا يُضيع ما بقي من فرصة العمر فيستغل زمانه بإكتساب المعارف والخبرات التّي تجعل لوجوده معنى ومن سلوكه أثرا صالحا يبقى بعد رحيله. فأُسّ البدايات إصلاح وتغيير ذاتي نفسي والصورة الكاملة تُحيل الإنسان الرّاشد العاقل للاتجاه صوب كينونته يُصلح ما ألمّ بها من نقائص وعيوب .
نجاح مسار الإصلاح والصلاح يتعلّق بالأسلوب المُتّبع وبالطريقة المُوجّهة للسّلوك وبالأفكار العمليّة المُحفّزة المؤطّرة للفعل. فليجعل الإنسان الكادح سالك طريق الحقيقة ديدنه وقاعدة سلوكه «اللّفظ العمل والتوجّه الهمم». فلعلّ اللّه عزّ وجلّ يُصلح حاله بسعيه الجّاد وبصدقه وبإخلاصه لتغيير ما بنفسه:﴿وَٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾(العنكبوت : 69).
فعوضا عن تتالي عمليّة الإسقاط إلى الخارج الذي دأب عليها عموم البشر مع السّكون في منطقة الرّاحة، فالأجدى والأنفع بالإنسان الإتجاه نحو المصدر والأصل وهي كينونته وفردانيته وغُربته، ولا يكترث بالفروع والهوامش فهي قواطع مانعة عن التّحوّل والتّرقّي.
فليبحث عن كنزه المَخْبوء بداخله، في أعماقه وباطنه، فقيمه الجوهريّة تقوده إلى تذوّق سرّ الوجود، كما أنّ قيمه الخارجيّة لن تُجديه نفعا مادام منغمسا في جواذب طينته ومادّيته وتعلّقه بالكثائف والمحسوسات والملموسات. فالحياة الدّنيا ساحة الصّراع ودار الضّرب والمِحكّ، والإنسان صاحب الكرة فلينتبه جيّدا إلى أين سيُسدّد رميته.