بحوث

بقلم
موسى المودن
عائلة الغوانمة المغربيّة في فلسطين (الأصول والأثر)
 لم تكن علاقة المغاربة بفلسطين دائما علاقة دفاع عن القضية الفلسطينيّة التي بدأت تطفو على السّاحة في بداية القرن المنصرم، بل كان المغاربة بالخصوص والمغاربيّون بالعموم ينزلون على الدّيار المقدّسة (مكّة والمدينة) بقصد الحجّ والعمرة، ومنها إلى بلاد الشّام إمّا لزيارة المسجد الأقصى والمعالم الدّينيّة القريبة منه (المسجد الإبراهيمي، قبور الأنبياء والصّالحين)، أو بغرض طلب العلم في مراكز الثّقل الثّقافي في كلّ من بلاد العراق أو سوريا، لهذا نجد حضورا مهمّا لعدد من أضرحة العلماء والصّالحين ذوي الأصول المغربيّة أو المغاربيّة. 
 لم تقتصر رحلات المغاربة إلى المشرق على الأغراض الدّينيّة كأداء فريضة الحجّ، أو مناسك العمرة، أو زيارة المسجد الأقصى، ولا على الأغراض العلميّة من قبيل الأخذ عن علماء وشيوخ التّصوّف في المشرق، بل كان المغاربة يذهبون في رحلات متتالية للذّود عن هذه البلاد التي كانت تعيش في توتّر مستمر نتيجة الهجمات الصّليبيّة المتوالية على المقدّسات الإسلاميّة، وعلى رأسها المسجد الأقصى الذي سقط في يد الاحتلال الصّليبي بعد معارك طويلة مع المسلمين، هذه الحرب التي ستبقى مستمرّة طيلة الحملات الصّليبية المتوالية التي كان هدفها الأساس قضم الدّول المجاورة لمملكة بيت المقدس الصّليبيّة، حتّى يتسنّى للصّليبيين القضاء تدريجيّا على قلب الأمّة الإسلاميّة، ليستفردوا بباقي الدّول الإسلاميّة في الشّمال الإفريقي والأندلس التي كانت في أوج قوّتها.
لم يقف المغاربة مكتوفي الأيدي أمام ما تعرّض له إخوانهم في بلاد الأندلس بعد تفكّك الخلافة الأمويّة من جهة، وما آلت إليه أوضاع المسلمين ومقدّساتهم في بلاد المشرق، لهذا نرى اندفاعا منقطع النّظير للخليفة المرابطي «يوسف بن تاشفين» للذّود عن البلاد الإسلاميّة المهدّدة في الأندلس، فكان من نتائج هذا العمل البطولي دحر الممالك الصّليبيّة وإعادة الهيبة للمسلمين فيها، أمّا في بلاد المشرق فقد كان الأمر مختلفا، إذ ساهم البعد الجغرافي في وصول محدود للقوّة الإسلاميّة للدّفاع عن بلاد المقدس وما جاورها من ممالك إسلاميّـة محتلّـة، فقد استعان الأمير «صلاح الدّين الأيوبي» بجزء كبير من المتطوّعين وأفراد الجيش المغربي المرسل من طرف الخلافة الموحّدية في تعزيز القوّات الإسلاميّة، وقد تمكّن سنة (583هـ /1187م) من طرد الصّليبيين بشكل كامل من المسجد الأقصى في معركة حطّين التّاريخيّة.
كانت عائلة «آل غانم» المغربيّة من أهمّ العائلات العلميّة المجاهدة التي التحقت بصفوف الجيش الإسلامي لتحرير المسجد الأقصى من الاحتلال الصّليبي. وبعد تحريره أقطعها الأمير «صلاح الدّين الأيوبي» جزءا من الأراضي المحاذية للمسجد الأقصى حتّى لا يقع مرّة أخرى في يد الصّليبيين، وحينما سئل عن سبب استقدام المغاربة إلى محيط بيت المقدس أجاب سائليه: «أسكنت هناك من يثبتون في البرّ ويبطشون في البحر، وخير من يؤتمنون على المسجد الأقصى وعلى هذه المدينة». وقد كان لهذه العائلة بعد التّحرير أدوار علميّة ودينيّة وإرشاديّة كبيرة، تولّى عدد من كبار العلماء في هذه العائلة القيام بها.
تعود أصول عائلة «آل غانم» المغربيّة إلى قبيلة غمارة الأمازيغيّة في شمال المغرب، وبالضّبط من نواحي مدينة الشّاون الحاليّة (لم تكن قد استحدثت بعد)، استقرّت أسرة «آل غانم» هذه في منطقة غمارة بعد الفتح الإسلامي لبلاد المغرب، وتعود أصول هذه الأسرة إلى أصول مشرقيّة، وبالضّبط إلى قبيلة الخزرج، التي استوطنت المدينة المنوّرة، وكانت من أهمّ القبائل التي ناصرت الحبيب المصطفى ﷺ، فسمّاها مع قبيلة الأوس بالأنصار، وكانت لها مواقف نبيلة في مواجهة المشركين، ومناصرة النّبي الكريم. ولعلّ هذه الأسرة هي نفسها أسرة العلاّمة الفقيه الصّوفي المفتي «ابن عسكر الشّفشاوني الغماري»، الذي كان من ألمع وجوه التّصوّف في بلاد غمارة والجبل خلال القرن العاشر.
انتقلت هذه الأسرة الشّريفة إلى بلاد فلسطين المحتلّة من طرف الصّليبيين في أواخر القرن الخامس وبداية القرن السّادس الهجري، وقد استوطنت قضاء «نابلس»، وبالضّبط بقرية «بورين»، حيث ستبدأ الأسرة في تعليم أبنائها القرآن الكريم ومبادئ الدّين الإسلامي الحنيف، وكان من بين ألمع أفراد هذه الأسرة وأشدّهم شجاعة ونبلا وشهرة، العلاّمة المجاهد القاضي «سيدي ابن غانم المقدسي الغمّاري»، الذي يعتبر من أجلّ العلماء المغاربة في بلاد المقدس وأشهرهم، فقد اشتهر بالعلم والشّجاعة والحلم والمواقف البطوليّة العظيمة.
 ولد القاضي والعلامة «سيدي غانم بن علي بن إبراهيم بن عساكر بن الحسين المقدسي الحنفي السّعدي العبادي الخزرجي الأنصاري» في بلدة «بورين» من قضاء «نابلس» سنة 562هـ، ونشأ بهذه القرية وتعلّم على يد فقهائها القرآن الكريم ومبادئ الدّين الإسلامي، ثم نهل من ينابيع علماء الشّام وفلسطين والعراق، واستمرّ في طلب العلم إلى أن اشتدّ عوده، وقوي رأيه، واستقام منهجه، فالتحق بالجهاد ضدّ الممالك النّصرانيّة التي كانت تحتلّ أجزاء واسعة من بلاد الشّام. وقد صاحب الشّيخ الجليل عدد من العلماء والفقهاء والمجاهدين، منهم شيوخ الحرم القدسي الشّريف وقضاة بيت المقدس ومعظم شيوخ الخانقاه الصّلاحية وأمراء ووزراء في بيت المقدس، فساهموا في بناء شخصيّته وصقل مواهبه العلميّة والمعرفيّة والجهاديّة وحتّى السّياسيّة.
عندما بلغ العشرين من عمره التحق بصفوف المجاهدين ضدّ الاحتلال الصّليبي، فوقع بالأسر عام 583هـ ، لكنّ السّلطان «النّاصر صلاح الدّين» أنقذه من أيدي الصّليبين. ثمّ شارك في تحرير بيت المقدس، فكان أمير سريّة أهل فلسطين والشّام، وكان ممّن شرّفهم اللّه عزّ وجل بالمشاركة في ملاحم تحرير بيت المقدس من دنس الصّليبيين، وتطهيره من رجسهم وجرائمهم؛ فكان النّصر حليف جيش المسلمين، وتمّ الفتح المبين للمسجد الأقصى المبارك.
بعد فتح المسجد الأقصى المبارك، ولّاه السّلطان «صلاح الدّين» مشيخة الحرم القدسي والخانقاه الصّلاحية لما رأى فيه من علم وفقه وورع، وكان أوّل من ولّي مشيخة الحرم القدسي والخانقاه الصّلاحيّة بعد تحرير بيت المقدس. بالإضافة إلى ذلك كان الشّيخ الجليل من أعيان ووجهاء بيت المقدس المقرّبين والمقدرين وأصحاب الكلمة والرّأي فيها، وقد سكن بالقرب من باب الوليد وهو أحد أبواب الحرم القدسي الشّريف، والذي يعرف الآن بباب الغوانمة، نسبة للعالم والقدوة «غانم بن علي» ونسله من بعده، وبهذا يكون للمغاربة بابان في بيت المقدس، الباب الأول معروف بباب المغاربة الذي يقع بالقرب من حائط البراق، والثّاني يعرف بباب الغوانمة نسبة إلى أسرة آل غانم الغماريّة المغربيّة، كما عرفت هذه الحارة عند المقدسيّين بحارة الغوانمة التي بُني فيها بعد مدّة جامع ومئذنة عرفت باسم عائلة الغوانمة.
لم يتوقّف عطاء أسرة آل غانم في شخص غانم ابن عساكر الأنصاري الغماري فقط، بل استمر عطاء هذه الأسرة عقودا كثيرة بعد وفاة الشّيخ المجاهد، فقد انتشرت ذرّيته في بلاد فسطين والشّام ومصر، وكانت حظوتها كبيرة بين العلماء والفقهاء والسّاسة، لنباغة أفرادها وعلمهم الغزير، فنبغ منهم الشّيخ سيدي عبد السّلام بن أحمد بن غانم المقدسي عزّ الدين الغماري، المتوفّى في سنة 678هـ/1280م، والشّيخ العلامة محمد بن حمائل بن علي الغماري، وكذلك الشّيخ إبراهيم بن أحمد بن محمد بن سليمان بن غانم المقدسي الغماري المتوفى سنة 761هـ، والشّيخ نور الدّين علي بن غانم المقدسي الغماري المتوفى سنة 700هـ، وغيرهم من نبغاء هذه الأسرة الأنصاريّة الشّريفة وفقهائها وعلمائها.
 وماتزال ظاهرة الأسر العلميّة في القبيلة الغماريّة حاضرة بين هذه الجبال، وقد اشتهرت منها في وقتنا المعاصر أسرة «ابن الصّديق الغماري»، وأسرة «التّجكاني» الغمارية، وأسرة «ابن عبد المؤمن» وغيرها. ولا شكّ أنّ أسرة «آل غانم» بعد استقرارها لقرون عديدة منذ الفتح الإسلامي تطبّعت بطباع أمازيغ بلاد غمارة الميّالة إلى تعظيم آل البيت وخدمتهم، وأخذت عنهم حبّ القرآن وأهله، لتستمرّ فيهم عادة تحفيظ القرآن والاهتمام به وبأهله، حتّى بعد هجرتهم واستقرارهم في بلاد المقدس والشّام ومصر والعراق أيضا.
ومن خلال ما سبق ذكره، نستنتج أنّ حضور العائلات والأسر المغربيّة في بلاد المقدس كان مهمّا، وأنّ هذه العائلات لم تستقر لأهداف دينيّة وعلميّة وتعبّديّة فقط، وإنّما استقرّت أيضا لأهداف جهاديّة خالصة، وهنا نستحضر نموذج أسرة بني غانم الغمارية، والتي لا تمثّل الاستثناء، فقد عرف عن الغماريين السّبق للتّطوع لمناصرة الأندلسيّين في حروب الاسترداد ضدّ الممالك المسيحيّة النّصرانيّة منذ الفتح الإسلامي، وإلى آخر معركة من معارك الدّفاع عن الأندلس.
المراجع 
(1) ابن خلدون، تاريخ ابن خلدون المسماة (ديوان المبتدأ والخبر في أخبار العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر)، بيروت، منشورات المكتبة العلمية، (ج/6).
(2)  محمد داود، (المسارة) تاريخ تطوان، مراجعة حسناء داود، (ط/2008م).
(3)  العسقلاني، الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، تحقيق محمد ضان، الهند، منشورات مجلس دائرة المعارف العثمانية، (ط/1972)، (ج/1).
(4)  الذهبي، تاريخ الإسلام وَوَفيات المشاهير وَالأعلام، تحقيق: الدّكتور بشار عوّاد معروف، بيروت، منشورات، دار الغرب الإسلامي، (ط/ 2003 م)، (ج/15).
(5)  خير الدين الزركلي، الأعلام، بيروت، منشورات دار العلم للملايين، (ط/2002م)، (ج/5).
(6) الغزي، الكواكب السائرة بأعيان المئة العاشرة، تحقيق خليل المنصور، بيروت، منشورات دار الكتب العلمية، (ط/1997م)، (ج/1).
(7) القسنطيني، سلم الوصول إلى طبقات الفحول، (ط/2010م)، (ج/2).
(8) الحسن الوزان، وصف إفريقيا، ترجمه إلى العربية عبد الرحمن احميدة، مصر، منشورات الهيئة المصرية (سلسلة التراث)، (ط/1396هـ)، (ج/1).
(9)محمد عزوز، مولاي اعلي بن راشد، تطوان، منشورات مطابع الشويخ، (ط/1998م)، (ج/1).
(10) التدمري، تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، بيروت، منشورات دار الكتاب العربي، (ط/1993م)، (ج/52).
(11) محمد شراب، معجم بلدان فلسطين، دمشق، منشورات دار المأمون للتراث.
(12) الحنبلي، شذرات الذهب في أخبار من ذهب، حققه محمد الأرناؤوط، بيروت، منشورات دار ابن كثير، (ط/1986م)، (ج/7).
(13) عبد الله المرابط الترغي، فهرس فهارس علماء المغرب، تطوان، منشورات كلية الأداب والعلوم الإنسانية بتطوان، سلسلة الأطروحات، (ط/1999م).
(14) موسى المودن، تاريخ القبائل الشمالية إعادة التركيب، ألمانيا، منشورات نور للنشر (بيوغرافية المكتبة الوطنية الألمانية)، (ط/2017).
(15) الحنبلي، الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل، تحقيق عدنان يوسف، عمان، منشورات مكتبة دنديس، (ج/2).
(16) ابراهيم حركات، المغرب عبر التاريخ، الدار البيضاء، منشورات دار الرشاد الحديثية، (ط/2009م)، (ج/1).
(17) الناصري، الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى، تحقيق: جعفر الناصري ومحمد الناصري، الدار البيضاء، منشورات دار الكتاب، (ج/2).
(18) موسى المودن، مقال: الحضور المغربي في بلاد الشام وفلسطين خلال العصر الوسيط، كتاب جماعي تحت عنوان: الذاكرة التاريخية المشتركة المغربية –الفلسطينية، تنسيق وجمع د، عبد الحميد المودن، و د، عبد الرحمن محمد مغربي، منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين أعضاء جيش التحرير، الطبعة الأولى سنة 2018م.