تطوير الذات

بقلم
محمد أمين هبيري
مبدأ التّنافس
 في قلب كلّ منظومة كيانيّة ينبض مبدأٌ أساسي يشكّل عموده الفقري، وهو مبدأ التّنافس السّياسي. إذ يعكس هذا المبدأ جوهر الحياة السّياسيّة التي كرّست مبدأي الحرّية والعدالة ضمن سياسات منظوماتها، حيث يتنافس الأفراد والأحزاب (ضمن إطار كياني) على السّلطة والنّفوذ من خلال عمليّة الانتخابات. إنّه تفعيل لأساسيّات الدّيمقراطيّة، حيث يُمكّن المواطنين من المشاركة الفعّالة في صنع القرارات وتحديد مستقبل بلادهم.
تترتّب على مبدأ التّنافس السّياسي مجموعة من الفوائد التي تجعله ركيزة أساسيّة في بناء النّظم السّياسيّة الفعّالة والمستقرة. 
أولاً، يسهم التّنافس السّياسي في تحفيز المواطنين على المشاركة في الحياة السّياسيّة، إذ يعتبر الاستحقاق الانتخابي فرصة للتّعبير عن آرائهم وتحقيق تأثير فعّال في اختيار من يمثّلهم. وبالتّالي، فإنّه يُحقّق تفعيلًا لمبدأ المساواة والشّموليّة في الدّيمقراطيّة.
ثانياً، يعزّز التّنافس السّياسي جودة صنع القرارات والخدمات العامّة التي تُقدّم للمنتفعين بالشّأن سواء كان عامّا أو خاصّا، إذ يُجبَر الفاعلون السّياسيّون على تقديم برامج وخطط واضحة وملموسة تلبّي تطلّعات النّاخبين واحتياجاتهم. وبذلك، ينعكس دور التّنافس السّياسي في تحقيق تنمية مستدامة وتقدّم اجتماعي واقتصادي للكيان.
وثالثًا، يساهم المبدأ في تعزيز الشّفافيّة والمساءلة في السّلطة السّياسيّة، إذ يُلزم السّاسة بتقديم حساب دقيق لأدائهم وتوجيهاتهم، وهو ما يُعزّز الثّقة بين الحاكم والمحكوم ويُعزّز من معنويات المواطنين في العمليّة الدّيمقراطيّة.
بهذه الطّريقة، يظهر أنّ مبدأ التّنافس السّياسي ليس مجرّد مبدأ نظري، بل هو عمليّة ديناميكيّة تعزّز التّطوّر والتّقدّم في المجتمعات الدّيمقراطيّة، وتجعل السّلطة حقًا يتبنّاه المواطنون ويخضع لإرادتهم.
تمثّل خصائص مبدأ التّنافس السّياسي أركاناً أساسيّة في بناء أنظمة ديمقراطيّة فاعلة وشاملة. يتضمّن هذا المبدأ تعدّد المكوّنات، حيث تتنافس الأفكار السّياسيّة على السّلطة. كما يقوم على التّعدديّة التي تمنح المنتفعين بالشّأن خيارات متنوّعة تمثّل آراءهم ومطالبهم. 
يعتمد التّنافس السّياسي على البرامج والأفكار، ممّا يسهم في رفع مستوى النّقاش الاستراتيجي وجذب الاهتمام نحو القضايا الهامّة. وتكمن أهمّية المساواة في الفرص لجميع الجهات المتنافسة، وضرورة الاحترام المتبادل والشّفافيّة في كافّة مراحل العمليّة الانتخابيّة. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ المساءلة والمشاركة الفعّالة تعزّز من مصداقيّة السّلطة السّياسيّة وشرعيّتها. فيمثل مبدأ التّنافس السّياسي الأساس الذي يعكس روح الشّرعيّة ويسهم في تحقيق التّقدّم والازدهار للكيانات، الأمر الذي يتّجه إلى دراسته في ذاته (الجزء الأول) وفي موضوعه (الجزء الثاني).
الجزء الأول: مبدأ التّنافس في ذاته 
يمكن تقسيم الجزء الأول إلى عنصرين؛ الأول أساس المبدأ (العنصر الأول) والثاني مبرّراته (العنصر الثّاني) 
العنصر الأول: أساس المبدأ  
تجتمع العديد من الأسس الفلسفيّة والدّينيّة لتشكّل أساسًا قويًّا لمبدأ التّنافس السّياسي. من النّاحية الفلسفيّة، ترتكز قاعدة التّنافس على مفاهيم مثل حرّية التّعبير وحرّية تكوين الجمعيّات وحرّية الانتخابات. إنّ حرّية التّعبير تعتبر أساسيّة لتمكين المواطنين من التّفاعل مع العمليّة السّياسيّة وتقديم آرائهم بشكل حرّ، بينما تمكينهم من تكوين الجمعيّات السّياسيّة يعزّز التّنوع والدّيمقراطيّة في الأفكار والبرامج السّياسيّة. ومن النّاحية الدّينيّة، يمكن العثور على أسس للتّنافس في قصص دينيّة تنافس أخوة يوسف على حبّ أبيهم. هذه القصص تبرز الطّبيعة الفطريّة للتّنافس بين البشر، وتظهر كيف يمكن لهذا التّنافس أن يؤدّي إلى نتائج متباينة. ومن خلال هذه الأسس الفلسفيّة والدّينيّة، يمكن الاستنتاج بأنّ التّنافس هو جزء لا يتجزّأ من الطّبيعة البشريّة ومن مبادئ الحكم السّياسي، حيث يعتبر مبدأً أساسيًّا يسهم في تعزيز الحرّية والدّيمقراطيّة وتقدّم الكيانات.
العنصر الثاني: مبرّرات المبدأ  
من بين المبرّرات الرّئيسيّة لمبدأ التّنافس السّياسي تأتي قدرته على منع الاستبداد وتفادي تركيز السّلطة في أيدي فرد أو جماعة معيّنة. بفضل هذا التّنافس، يتمّ توزيع السّلطة بشكل أكثر توازنًا، ممّا يقلّل من فرص حدوث الاستبداد ويحافظ على حقوق المواطنين وحرّياتهم. علاوة على ذلك، يسهم التّنافس السّياسي في تطوير الأفكار والحلول، حيث يتمّ تبادل الآراء والأفكار بين الأطراف المتنافسة. هذا التّفاعل يعزّز الابتكار والتّقدم في المجتمع، ممّا يؤدّي إلى إيجاد حلول أكثر فعّالية للمشكلات السّياسيّة والاجتماعيّة. وأخيرًا، يسهم التّنافس السّياسي في تحقيق التّوازن بين مختلف القوى والمصالح في الكيان، حيث يعمل كنظام توازن يمنع تمركز السّلطة في يد فئة معيّنة على حساب الآخرين، ممّا يضمن التّمثيل العادل لكافة الأطراف ويعزّز الشّموليّة والعدالة.
الجزء الثّاني: مبدأ التّنافس في موضوعه 
يمكن تقسيم الجزء الثّاني إلى عنصرين؛ الأول نتائج المبدأ (العنصر الأول) والثاني حدود المبدأ (العنصر الثاني) 
العنصر الأول: نتائج المبدأ  
تمتد نتائج مبدأ التّنافس السّياسي إلى عدّة مجالات تؤثّر بشكل كبير على الحياة السّياسيّة والاجتماعيّة في المجتمعات الدّيمقراطيّة. أحد هذه النّتائج الرّئيسيّة هو تغيير الحكومات(1) ، حيث يعمل التّنافس السياسي على تمكين المواطنين من اختيار من يمثلهم ويدير شؤونهم بشكل أفضل. يتيح هذا التغيير فرصة للتّجديد والتّحسين في السّياسات الحكوميّة والبرامج العامّة، ويساهم في تلبية احتياجات وتطلّعات المنتفعين بشكل أفضل.
علاوة على ذلك، يؤدّي التّنافس السّياسي إلى تحسين الأداء الحكومي، حيث يضطرّ المسؤولون السّياسيّون إلى تحسين أدائهم وتقديم خدمات أفضل للمواطنين كجزء من محاولتهم للفوز بالانتخابات والبقاء في السّلطة. هذا التّحسين في الأداء ينعكس على جودة الحياة في الكيان ويعزّز الثّقة في النّظام الّسياسي.
علاوة على ذلك، يعمل التّنافس السّياسي على تعزيز الاستقرار السّياسي، حيث يوفّر آليّة سلميّة لتغيير الحكومات وتجديد الشّرعيّة السّياسيّة. بدلاً من اللّجوء إلى العنف، يمكن للمنتفعين تغيير الحكومات من خلال الانتخابات وفقًا لإرادتهم واختيارهم تفعيلا لمبدأ الحرّية. هذا يعزّز الاستقرار والسّلم الاجتماعيين، ويمهّد الطّريق لتطوير المؤسّسات الدّيمقراطيّة وتعزيز الحوكمة السّليمة.
بهذه الطّريقة، يتبيّن أن مبدأ التّنافس السّياسي ليس مجرّد إجراء ديمقراطي، بل له تأثيرات عميقة وإيجابيّة على النّظام السّياسي في الكيانات.
العنصر الثاني: حدود المبدأ  
رغم أنّ مبدأ التّنافس السّياسي يحمل العديد من الفوائد، إلاّ أنّه يترتّب عليه أيضًا حدود وتحدّيات تعتبر مهمّة لفهم ديناميكيّات العمليّة التّشاوريّة داخل الكيان. أحد هذه الحدود هو التّنافس غير الشّريف، الذي قد يتمثّل في استخدام المال أو العنف من قبل الأطراف المتنافسة لتحقيق أهدافها السّياسيّة. هذا السّلوك يهدّد سلامة العمليّة السّياسيّة ونزاهتها وقد يقوّض الثّقة في النّظام السّياسي برمّته ما يؤدّي بالضّرورة الى فشل الكيان.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن للتّنافس السّياسي أن يفضي إلى ظهور أفكار متطرّفة ومتشدّدة، ممّا يشكّل تهديدًا للاستقرار والتّسامح في الكيان. فالتّشدّد السّياسي يؤدّي إلى تقسيم المجتمع وتفاقم الصّراعات الاجتماعيّة، ممّا يعرقل عمليّة بناء المجتمعات المتعايشة بسلام وازدهار. ولذلك لابدّ من الأطر المرجعيّة التي تمثّل الميثاق الغليظ لأيّة عمليّة سياسيّة. 
ومن بين الحدود الأخرى لمبدأ التّنافس السّياسي، تأتي اللاّمبالاة وعدم الثّقة في العمليّة السّياسيّة نفسها. إذ قد يؤدّي الشّعور بالتّشاؤم أو اللاّمبالاة نحو النّظام السّياسي إلى انخفاض معدّلات المشاركة السّياسيّة، ممّا يقلّل من شرعيّة الحكومة ويؤثّر سلبًا على فاعليّة العمليّة الدّيمقراطيّة.
يتبيّن في النّهاية، أنّه رغم أهمّية التّنافس السّياسي وفوائده،  يجب التعامل  معه بحذر وبرقابة دقيقة وصارمة ليكون مصدرًا للتّقدم والتّطور ولا يتحوّل إلى عامل للتّوتر والانقسام في الكيانات.
في الختام، يتضح أنّ التّنافس السّياسي ليس مجرّد جانب فنّي في أنظمة الحكم الدّيمقراطي، بل هو مبدأ أساسيّ يجسّد أحد أهمّ المبادئ التي تحكم الفعل السّياسي في إطار كياني. كما يعتبر التّنافس السّياسي ضمانًا حيويًّا لمشاركة الفاعلين السّياسيّين في صنع القرارات التي تؤثّر في حياتهم ومستقبلهم، ممّا يعزّز الشّرعيّة السّياسيّة في إطار الكيان.
بالإضافة إلى ذلك، يساهم التّنافس السّياسي في تحسين جودة الخدمات العامّة والخاصّة، حيث يضطرّ الفاعلون السّياسيّون إلى تقديم أفضل البرامج الاستراتيجيّة لتلبية الاحتياجات. هذا التّحسين في الأداء يسهم في تعزيز الرّفاهيّة العامّة والخاصّة وتحسين جودة الحياة للمنتفعين.
بهذه الطّريقة، يظهر مبدأ التّنافس السّياسي كعنصر أساسي وحيوي في بناء كيان متوازن ومتطوّر، حيث يعكس الثّقافة السّياسيّة للأفراد ويمهّد الطّريق لتحقيق العدالة والتّقدّم الشّامل. ومن خلال الالتزام بمبدأ التّنافس السّياسي، يمكن للكيانات أن تحقّق التّطوّر والازدهار بشكل مستدام، وأن تحقّق أهداف التّنمية الشّاملة والعادلة لجميع أفرادها.