للنقاش

بقلم
أ.د.اسعيد محمد الغزاوي
من أجل مراجعة متجدّدة لمنطلقات الفكر وآلياته وأساليب الخطاب ونظمه
  مبادئ ومنطلقات :
1 ـ تجديد التّفكير في مشروع متجدّد : ذلك هو المشروع الذي دعا إليه المفكّر المغربي الدّكتور محمد عابد الجابري منذ أكثر من عقد من الزّمان، بغاية تهيئة المغرب والعالم العربي والإسلامي لصورة جديدة لنسيج مجتمعيّ متعايش مع خصوصيّاته الثّقافيّة وإثنيّاته ورؤاه للتّغيير، إنّه مشروع تأسيس عصر تدوين جديد يقوم على «إعادة بناء تصوّرنا للموضوع في ضوء ما حصل من تطوّر، إن في الموضوعات نفسها أو في رؤيتنا لها وطريقة تعاملنا معها. وهذا ما يعبّر عنه بلفظ جديد على خطابنا ورؤيتنا، لفظ « التّحيين» من «الحين». ونعني به جعل المسألة في وضع مناسب للتّطوّر الحاصل حين طرحها. وكان المتكلّمون في الإسلام يعبّرون عن ذات المعنى بـ « تجديد النّظر» وهو ما عبّرنا عنه بـ « تجديد التّفكير».
وأنا أطالع «خواطر الصّباح» للمفكّر المغربي عبد اللّه العروي، وهي مذكّراته ما بين هزيمة حزيران 1967م وحرب تشرين الأول 1973م، وجدته يسبق الجابري في الدّعوة إلى تجديد الفكر بكتابيه «الإيديولوجية العربيّة» و«تاريخ المغرب»، ففي هذه المذكّرات نقد للنّاصريّة ومآلات الهزيمة التي لحقت الأمّة العربيّة، يختزلها في خلاصة عميقة الدّلالة « لا تحرير أبدا بمساندة الغير». وهي الخلاصة التي انتهى إليها المفكّر الجابري، بصورة أخرى، فيما سمّاه تهيئة المغرب والعالم العربي والإسلامي للتّعايش مع خصوصيّاته .
2 ـ التّوفيق بين المبادئ والقيم والنّسيج الحضاري المتكامل، وصياغة التّيّار الذي يحمي وجودنا الحضاري : ففي غمار الانطواء على الذّات بعيدا عن التّنبّه إلى الانتماء إلى المجتمع الصغير والكبير، فإنّ الشّعور بتحدّي التّيّار الوافد ليس منبثقا من قوّته وإنّما من العجز عن مواجهته، بسبب عدم بناء تيّار مقابل في الدّاخل يسدّ الثّغرات ويحمي المجتمع من الدّخيل، مع الاعتراف بحقّ كلّ أمّة بأن تكشف لنفسها نموذجها الخاصّ والفاعل في التّنمية والتّقدّم والحضارة .
3 ـ كيف نواجه فهما وتنظيرا وممارسة تحديّات الواقع المحلّي والعالمي المتغيّر على نحو انفجاري هائل ومفتوح؟ وكيف ننظر للحضارة الغربيّة لا على أنّها حضارة منهارة، ولكن على أنّها حضارة تحتاج للتّهذيب في داخلها، وفي علاقتها بالأمم والشّعوب الأخرى؟ .
4 ـ بناء مشروع حوار مفتوح غير مشروط إلاّ بشرطي الموضوعيّة العلميّة والإرادة الدّيموقراطيّة في بناء مجتمع عربي متحرّر ومتقدّم، يلتئم في إطاره، وضمن روح من المساواة والحرّية والعدالة والتّسامح، كلّ الفرقاء والتّيارات السّياسيّة والإيديولوجيّة، وبشكل خاصّ منها الإسلامي والقومي واللّيبرالي التّحديثي، وفق مبادئ الحرّية والتّعدديّة والعقلانيّة والمساواة والتّسامح تنطلق من مقولات قرآنيّة:﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ...﴾(البقرة:256)، و﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَة وِزرَ أُخرَىٰ﴾(فاطر:18)، و﴿قُل هَل يَستَوِي ٱلَّذِينَ يَعلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لَا يَعلَمُونَ... ﴾(الزمر:9).
كما تنطلق من مقولة غربيّة شهيرة قالها فولتير لروسو : « أنا لا أقرّ كلمة واحدة ممّا كتبت، ولكنّي سأقف حتّى الموت مدافعا عن حرّيتك، مؤيّدا حقّك في أن تقول ما تريد».
5 ـ بناء ثقافة متجدّدة توفّر الاستعداد النّفسي، والفاعليّة الاجتماعيّة التي تجعل المجتمع في حركة مستدامة تتولّد منها التّحوّلات، وتقبل متغيّرات المجتمعات. كما تعتبر الثّقافة بديلا عن السّياسة في معالجة الأزمات العالميّة.
6 ـ الانتقال من نظريّة نهاية التّاريخ عند النّموذج اللّيبرالي الحداثي، إلى « عقد اجتماعي جديد بين الشّمال والجنوب» وفق رؤية الرّئيس الفرنسي «فرانسوا ميتران»، الرّؤية العالميّة الواحدة للتّنمية على غرار الرّؤية المشتركة للبيئة التي أفرزتها قمّة «ريو ديجانيرو» في البرازيل. ممّا يوصل إلى «عقد اجتماعي عالمي» دعت إليه الدّول السّبع المصنّعة، يقوم على بناء مؤسّسات جديدة تتجاوز المنظّمات والآليّات التي تسجننا، وتقترح الحلول للمشاكل المطروحة.
7 ـ ستّة أعمدة جديدة للنّظام العالمي الجديد :
تنبغي إعادة تحميل النّظام العالمي الجديد بأسس/ أعمدة جديدة تعيد صياغته ليتلاءم مع القيم الإنسانيّة المشتركة، وهي في جوهرها وعند قراءتها بوعي وبصيرة قيم إسلاميّة أو كاديّة(1).
1.7ـ مفاهيم جديدة للتّنمية البشريّة تؤكّد على أمن النّاس لا أمن الدّول.
2.7 ـ استراتيجيّات جديدة لتنمية بشريّة دائمة تنسج التّنمية حول النّاس لا النّاس حول التّنمية.
3.7 ـ علاقات شراكة جديدة بين الدّول والأسواق للجمع بين كفاءة السّوق والتّعاطف الاجتماعي.
4.7 ـ أنماط جيّدة من الإدارة الوطنيّة والعالميّة.
5.7 ـ أشكال جديدة للتّعاون الدّولي لتركيز المعونة مباشرة على احتياجات النّاس بدلا من تركيزها على أفضليّات الحكومات.
6.7 ـ نظام عالمي ثقافي جديد، قوامه تعميم الثّقافة الأمريكيّة والأوروبيّة بالمعنى الواسع للثّقافة، بما فيها أنماط السّلوك والاستهلاك والنّماذج والتّطلّعات، ما يجعل صراع المستقبل صراعا ثقافيّا بالدّرجة الأولى. 
8 ـ من صراع الحضارات إلى تعارف الحضارات : هو انتقال بمستوى التّفكير من خطاب المؤامرة، إلى خطاب التّعايش والحوار والتّعارف من أجل بناء مشترك للمجتمع الإنساني الجديد. تعارف مستوحى من قوله تعالى : ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلنَٰكُم شُعُوبٗا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْ إِنَّ أَكرَمَكُم عِندَ ٱللَّهِ أَتقَىٰكُم إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير﴾(الحجرات:13). وهو تعامل على خلفيّة الأسرة الإنسانيّة المشتركة أو الواحدة، ممّا يعني إزالة الأحقاد والعصبيّات والكراهيّة بين النّاس .
وسائل العمل ونظم الخطاب :
1 ـ تجاوز السّعي إلى مقارعة الأنظمة الأجنبيّة الوافدة بالأنظمة الإسلاميّة، والنّظر إليها بوصفها تراثا إنسانيّا لا نستطيع الانفصال عنه أو تجاهله.
2 ـ التّحوّل من المقارعة غير المجدية إلى واجب التّبليغ والدّعوة : أي تأسيس حقائق الدّين في الأذهان والقلوب، بإيقاظ العقول والقلوب، وتبصرتها بحقائق الإسلام مرآة صافية لهويّة الإنسان، والانضباط بالتّعاليم والمنهاج الذي خاطب به ربّ العالمين عباده.
3 ـ تجديد الخطاب الإسلامي، بتحويله من إرهاب تلفظي إلى حوار تلفظي: لا ينطلق من «الأنا» التي تحتكر الخيريّة بل من « النّحن» التي توسع دائرة الانتماء، وتسمح للإنسان بالدّخول إلى رحمة الإسلام وعدله وسماحته.
4 ـ قبول التّعدديّة الدّلاليّة أو التّعدديّة القرائيّة للنّصوص، ممّا يمثّل منعطفا جديدا للفهم والتّأويل يؤدّي إلى نشوء حالات مفتوحة من إمكانيّة تعدديّة القراءة.
5 ـ الاستعانة بالعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة والتّاريخيّة والسّيكولوجيّة والبنيويّة، ومنها على نحو خاصّ علم اجتماع الدّين ونظريّة الثّقافة ونظريّة النّصّ، وإنجاز دراسات وبحوث ميدانيّة تستجيب لمشروع الجابري والعروي وطه عبد الرحمن وغيرهم من أقطاب الفكر العربي، دراسات للأوساط المثقّفة والسّياسيّة والدّينيّة ترصد تحوّلات الأفكار ومدى إمكان خلق نسيج مجتمعي مغربي جديد يقبل تنوّع الأفكار ومبادئ الإصلاح، ويؤسّس من تجميعها ما يشبه الفسيفساء المغربيّة التي تروقنا في الزّليج الفاسي المغربي، و لا تروقنا في الفكر المغربي والعربي والإسلامي.
6 ـ بناء العقل العربي الإسلامي المستقبلي: وهو يجعل من سماته التّقدم والإبداع والتّمثّل والعقلانيّة والتّنظيم والفاعليّة والإتقان والحرّية والمسؤوليّة والمشاركة والتّكيّف.
7 ـ توظيف آليّات العولمة لخدمة الإسلام والمسلمين: فثورة الاتصالات التي حقّقت العولمة، ودفعت بها قدما، تتيح فرصة للقائمين على أمر الأمّة للتّبصرة بحقائق الدّين وتاريخ المسلمين بعيدا عن محاولات الإساءة والتّشويه. كما تتيح للمجتمعات الإسلاميّة فرصا للتّواصل مع العالم بعدّة لغات، وتتيح التّواصل مع المجتمعات غير المسلمة للتّعريف بالدّين الإسلامي وقيمه وأصوله.
الهوامش
(1) هو مصطلح مستمدّ من قول الرّسول ﷺ عن أميّة بن أبي الصّلت  « إن كاد ليسلم» (صحيح مسلم) فهو يعني القرب من الإسلام