نافذة على الفلسفة

بقلم
أ.د. عبدالرزاق بلقروز
سؤال الحقيقة والفعل في فلسفة القيم إشكالات وإيضاحات(3-3)
 ثالثا. في ماهية الفعل ودلالاته
سبقت الإشارة إلى سؤال الفعل في المداخل الفلسفيّة، وكذا التّحولات التي رفعت الفعل إلى مرتبة المُحدّد للكينونة، وتشكّل الخطاب الفلسفي المهموم بسبل تجديد الفعل ووضع القيم التي تجعله فعلا أخلاقيّا وإنجازيّا، وضمن هذا المضمار يقول مارتن هيدجر M. Heidegger في (رسالة في النّزعة الإنسانية Lettre sur l’humanisme ): «إننا لا نفكر بعد في ماهية الممارسة بشكل حاسم، لذا فنحن لا ننظر إليها إلا باعتبارها نتاج أثر تكمن حقيقته الثمينة في ما يسديه من خدمات وصلاحيات. هذا في حين أن ماهية الممارسة تكمن في الإنجاز، والإنجاز معناه: بسط شيء ما في تمام ماهيته، وبلوغ ذلك التمام، بحيث يكون الإنجاز هو الإنتاج بمعناه الأصيل»(1).
إذن الممارسة لا تهدف فقط إلى جلب المصالح والحاجات، إنّما تهدف نحو الإنجاز الأصيل وليس الأنماط التّكراريّة لفاعليّات الإنسان سوى شكل من أشكال اغتراب عن الذّات، وقد ميّزت “هَنا أرندت” Hannah ARENDT في كتابها “وضعية الإنسان الحديث La condition de l’homme moderne ” بين ثلاثة أقسام للعمل «وهي الشّغل والصُّنع والعمل … فرأت في الشّغل عملا معاشيّا يوفي بضروريّات الحياة ويقوم على استهلاك المنتجات، بينما المحدثون بلغ من قوّة تعظيمهم للشّغل أن أدرجوا فيه كلّ أنواع الفعاليّة الإنسانيّة، مادّية كانت أو ذهنيّة، فرديّة كانت أو جماعيّة؛ لكن يبقى أنّ الشّغل، في نظرها، لا يعيد إلاّ إنتاج الحياة الفانية على الدّوام، إذ لا يتعدّى رتبة الفعاليّة التي تنهض بالضّروريات البيولوجيّة الدّورية للإنسان أمّا الصّنع فهو عندها، فعاليّة ترقى إلى رتبة بناء عالم إنساني لا يشغله حفظ الحياة الطّبيعيّة، وإنّما حفظ الحياة الإنسانيّة الحقيقيّة؛ إذ يكون الإنسان في هذا العالم، لا عبدا لحاجاته البيولوجيّة، وإنّما سيّد ذاته وأفعاله من بدايتها إلى نهايتها، فتكون مصنوعاته عبارة عن آثار باقية، لأنّه لم يصنعها بغرض الاستهلاك، وإنّما بغرض الاستعمال… وأمّا العمل … فلا يتعلّق بالمجال الخاصّ الذي ينحصر في قضاء الحاجات المعاشيّة، وإنّما يتعلّق بالمجال العامّ الذي يتّسع للعلاقات بين النّاس باعتبارهم متساويين؛ إذ فيه يتعاطى الإنسان للشّؤون العامّة، مبادرا إليها ومدبّرا لها، ويرتبط بالآخرين بواسطة الكلام، لا بواسطة الأشياء، كلّ ذلك يدخله في ذاكرة المجتمع وبالتّالي ينال نصيبه من البقاء…وعلى هذا الأساس فإنّ العمل السّياسي في نظر “هَنا أرندت” هو الذي يورث الإنسان البقاء… وهو ما عبّرت عنه بالانكشاف إذ ينكشف الفاعل السّياسي في كلامه وعمله حتّى يراه الآخرون ويسمعوه»(2).  وهذه الاقسام تؤشّر على معاودة سؤال الفعل والبحث عن التّمايزات بين الفعل الأصيل وغير الأصيل، بين الممارسة الإنجازيّة والوجود الانتفاعي المتناهي، بين النّشاط النّوعي للإنسان وبين الحياة الثّقافية الحزينة من الحياة، أي أنّ ثمّة مراتب للفعل والفعل الحقّ هو من يكون فعلا إنجازيا وليس فعلا تكراريا .
ثمّة تعدّد في استخدام الكلمة التي تعبّر عن مضمون الفعل أو العمل، والاستخدام الرّائج في الممارسة الفلسفيّة هو الفعل أكثر من العمل أو الممارسة مع حفظ قيمة الاستعمال مهما كان مأتاه، ويقتضي التّنبيه إلى أنّ لكلّ مقاربة أدلّتها الوجيهة. فالرّاغب الأصفهاني يجعل من الفعل أشمل من العمل، وذلك على الوجه الآتي «الفعل الإنساني ثلاثة أضرب: نفساني فقط، وهو الأفكار والعلوم وما ينسب إلى أفعال القلوب، وبدني وهو الحركات التي يفعلها الإنسان في بدنه كالمشي والقيام والقعود، وصناعي وهو ما يفعله الإنسان بمشاركة البدن والنّفس كالحرف والصّناعات»(3)، ويبدو أنّ هذا التّقسيم هو تقسيم ترتيبي، يتضمّن علاقة أثر بمؤثّر، وبيان ذلك «أنّ الأفكار والعلوم التي تقوم القلوب بفعلها هي التي تحفّز الإنسان على الفعل البدني، بما فيه من مقتضيات الإيمان والطّاعة وحسن الخلق، كما تحفزه على الفعل الصّناعي الذي يقتضي إتقان المهن والصّناعات المفيدة والقيام بخدمة النّاس بما تقتضيه حياتهمّ، فالعلم يثمر الإيمان، ويتبع الإيمان عمل وتطبيق»(4).
ويرى عبد العزيز العيادي أنّ الفعل أو الكَلم بلغة الفارابي «هو اللّفظ الدّال على المعنى وعلى زمانه، أي على جملة التحوّلات والتغيّرات التي تطرأ على الكلمة في هيئة تركيبها وتشكيل حروفها، وعلى ما يساوق تلك التّغيّرات من تغيّرات في المعنى تبعا للتّصريفات الزّمنيّة الأساسيّة الثّلاثة التي هي الماضي والمستقبل والحاضر»(5)، وواضح هنا الدّلالة اللّغويّة أكثر من الدّلالة الاجتراحيّة، أي التي تجترح فعلا في الواقع من لدن مؤثّر ذي غايات مخصوصة ومقصودة، ليتلو بعد هذه الدّلالة دلالة تظهر لنا فيها المعنى الذي نرغب في اقتناصه، ونقتبسه على النّحو الآتي «الفعل بجملة ما اشتق هو حركة لفاعل مؤثّر سببيّا في غيره، حركة جهد يصدر عنها أثر له دوامه مع قابليته للتّقويم حسنا وقبحا، صدقا وفرية، وله محلّه الذي هو فضاء تعمير وموقع متعة وحيّز حركة»(6).
وثمّة لفتة مفهوميّة نجدها في المعجم اليوناني «في اليونانيّة لفظان متمايزان إلاّ أنّهما متقاربان للدّلالة على كلمة الفعل agir فالفعلان اليونانيّان أركاين archein بدأ، قاد، ساس، وبرتاينprattein، اجتاز، ذهب إلى آخر المطاف، أتمّ، يناظرهما في اللاّتينية أجيراري agere ، حرّك، قاد،  أو أدار، والفعل جيرايراي الذي معناه الأول هو حمّل، في الصّيغتين اليونانيّة واللاّتينيّة يحمل الفعل دلالة مضاعفة، هي دلالة البدء ودلالة الإنجاز أو الإتمام، فمن يبدأ يقود ويسوس على أن لا تكون القيادة والسّياسة هيمنة  على الأشياء ولا على البشر وإنّما هما مبادأة ومبادرة، والقائم بهما محتاج بالضّرورة إلى من يؤازره في إتمام الفعل والوصول به إلى منتهاه، وهو ما يعني تضمّن الفعل لدلالة المشاركة المبدئيّة ولدلالة سيرورة التّحقّق التي يستحيل معها إنعزال المبادر أو استئثاره بما يوصل إليه الفعل إلاّ في حالة الفصل بين الدّلالتين : دلالة القيادة ودلالة الإتمام»(7) .
تدلّ إذن هذه المعاني اليونانيّة، على فكرة البدء أو المبادرة، ولا يكون فعلا هنا إلاّ إذا تضمّن القيادية، وهنا يمكن أن نفهم القيادة بما هي فعل سياسي جماعي، والقيادة بما هي قيادة النّفس وإخراجها من دائرة المكرورات والمتداولات، إلى دائرة الإنشاءات والإبداعات للسُّلوك الجديد والمختلف والواعي، بالإضافة إلى أنّ الفعل لن تكتمل دلالته إلاّ بالإتمام كي تبسط الذّات ماهيتها، وهنا قيم أساسيّة في الفعل موجّهة هي : المبادأة والقيادة والإتمام، وهذا يقود إلى التّداخل الحاصل بين الفعل والانفعال، بما أنّ الحياة تكون وتتحقَّق بالانفعال الذي ينقل النَّفس من وجودها السّاكن إلى وجودها المتحرّك، وإبداء الصّورة الخاصّة بالذّات، وإخراجها من المستور إلى المنظور، فالذّات السَّاكنة هي الذّات تعيش مع الأحلام والتّمنيات، وتسبح في الأوهام كما لو أنّها تنجز وتمارس، في حين أنّها تستيقظ على الواقع القاسي، فترتدُّ مجدّدا إلى تمنياتها»(8)، فالفعل انبساط وتجلّ يتماوج فيه الفردي بالجماعي، وليس فكر التّحليق، الذي يغرق في تأملاته النّظرية ولايرسم الوجود بالفعل.
وبالإضافة إلى هذه الحقيقة المانعة من تحويل المستور إلى منظور أو تخارج الباطنيّة وتبطّن الخارجيّة، فإنّ الارتباط بالتّاريخ أيضا يشلّ الحاضر عن الفعل وعن الإقدام، بخاصّة إذا كان هذا الارتباط بالماضي على حساب الحاضر، ولقد عدّد نيتشه في كتابه  نفع التاريخ وضرره بالنّسبة إلى الحياة الخمسة أشكال التّاريخيّة المعادية للحياة والحاضر «تعميق التَّعارض بين الجوّاني والبّراني وبالتّالي إضعاف الشّخصيّة، توليد الوهم في عصر ما على أنّه يملك أكثر من أي عصر آخر أرقى الفضائل وأندرها والتي هي فضيلة العدالة، إرباك قوى الشّعوب كما الأفراد ومنعها من بلوغ تمامها، تنمية الشّعور بالعقم وتعزيز الإحساس بالتّبعيّة إزاء ما فات وانقضى، تنمية عقليّة الارتياب والصّلف والتوجّه تبعا لذلك جهة الأنانيّة المؤدّية إلى شلّ القوّة الحيويّة وتخريبها» . وهنا، لا يقصد نيتشه العودة إلى التّاريخ التي تشلّ الحاضر دوما، وإنّما التّاريخ الذي يكون معبودا لمن يعيش في الماضي على حساب الحاضر. إنّ نيتشه أعجب بالأديان الشّرقية وأعجب بثقافة الإنسان الحرّ النّبيل، التي يرى بأنّها وجدت في الماضي وهيمنت عليها الثّقافة الارتكاسيّة ورسمت لها صورة كئيبة، فالماضي الذي يمقته نيتشه هو الماضي الميّت، الذي يمارس حضوره على حساب الحاضر والمستقبل»(9).
تلك إذن نماذج في موانع الفعل والحركة، وهذا يدفع سعينا إلى استخراج عناصر المبادأة والمبادرة أو عناصر الفعل، التي يجوز تحديدها في «الاستطاعة، التي تعني الإمكان والاقتدار والقدرة، والقيام بالفعل بمعنى أن كينونتي هي فعلي، والتّدخل بمعنى رسم الفعل وتنزيله في مسار العالم تنزيلا يتطابق فيه الحاضر والأن، والإيفاء بالعهد وهو ما يقتضي مواصلة الفعل والدّأب عليه والاستمرار فيه».
أمّا عناصر الفعل التي تدخل في تكوينه فيمكن رصدها كالآتي «الفرد الذي يحقّقه، والمادّة التي يحاول أن يمارس يبدو لنا على ضوء الوقوف والتَّحليل لمفاهيم الفعل، والعناصر المكوّنة له، ومدى شموليّة الفعل وذلك من الأوجه التّالية :
 «أنّ الأفعال ضربان : إلهي وإنساني. الإلهي: أربعة أضرب: إبداع، وتكوين، وتربية، وإحالة. وجميع ذلك يسمى خلقا من حيث كان وجود كل واحد بمقدار، والخلق في الأصل : التّقدير المستقيم. فالأول الإبداع: وهو إيجاد الشّيء دفعة لا عن موجود، ولا بترتيب، ولا عن نقص إلى كمال، وليس ذلك إلاّ للبارئ سبحانه وتعالى… والثاني التّكوين : وهو إيجاد الشّيء من عدم بترتيب، ومن نقص إلى كمال… والثالث ربّ الشّيء : وهو تغذيته، وذلك استخلاف ما تحلَّل من الأبدان فيما وجد عن كون ليبقى المدّة المضروبة له، وبه قيل له تعالى:رب العالمين. والرّابع إحالة الشّيء : وهو التّغايير اللاّحقة لجميع الكائنات في كيفياتها من طعم ولون ورائحة (10). أمّا الفعل الإنساني فقد أشرنا إليه سابقا، من أنّه نفساني وبدني وصناعي. فيها فعله. المقاومة التي يجب أن يتغلّب عليها، الجهد الذي يتمثل في النّشاط المبذول من أجل الفعل»(11).
رابعا. التّداولية و تفعيل الفعل :
يتأسّس الدّرس التّداولي في منظوره العام على تعيين مهمّته المتمثّلة في إدماج السّلوك اللّغوي داخل نظريّة الفعل، كما تتحدّد عند البعض الآخر كمجال اهتمام بالتّواصل وبكلّ أنواع التّفاعل الحيّة بين الأعضاء الحيّة، وينخرط أيضا داخل هذه الرّؤى الاتجاه الذي يرى في التّداوليّة pragmatique بوصفها استعمال العلامات ضمن السّياق، حتّى في مستوى الاسم يقترح البعض تسمية «السياقية»، لذلك تقتضي منّا الضّرورة المنهجيّة تقديم تعريف أوَّلي للتّداوليّة وذلك باعتبارها تتطرّق إلى اللّغة كظاهرة خطابيّة وتواصليّة واجتماعيّة في آن واحد كما يقول «فرنسيس جاك»، وتستلهم من فلسفة اللّغة النّموذج الفلسفي الكامن بخاصّة على النّحو الذي أرساه «فتجنشتين» و«كارناب» و«أوستين»، بما هو نموذج يعمل على استكشاف البعد البرغماتي والإستعمالي للّغة أكثر من حصر الاهتمام في البعد الدّلالي والتّركيبي، إنّها المهمّة التي أوكلها فلاسفة الوضعيّة المنطقيّة لأنفسهم حينما عملوا على تطهير اللّغة من كلّ الألفاظ الخالية من المعنى، وإرساء منهج التحقّق بماهو منهج يصرف النّظر عن اللّغة الميتافيزيقيّة الخالية من المعنى، ويحقّق الشّروط المنطقيّة التي تجعل من اللّغة العلميّة ممكنة، وهذا التّوظيف البرغماتي للّغة من قبل رواد مدرسة الوضعيّة المنطقيّة هو ماعمل «هابر ماس» على استثماره وتوظيفه في نظريته التّواصلية. 
إن إدراك المعنى الحقيقي والّدقيق للتّواصل وآليّات اشتغاله يتأسّس على النّظر إلى العلاقة التّخاطبيّة بوصفها عبارة عن إلقاء جانبين لأقوال مخصوصة بغرض إفهام كلّ منهما الآخر مقصودا معيّنا، وهذا الإلقاء للأقوال لا ينفصل عن الإتيان بالأفعال أو السّلوكيّات بغرض إنهاض أحدهما الآخر للعمل وفق ذلك المقصود، وإذا كان الأمر هكذا فقد لزم أن تنضبط هذه الأقوال والأفعال بقواعد خاصّة تحقّق مقاصد المتكلّمين أو بعبارة أخرى تحقّق الفائدة التّواصلية، هذه القواعد تتبدّى في وجهين:
–الوجه التّبليغي: أو قواعد التّبليغ التي تضبط الأقوال والعبارات.
–الوجه التّهذيبي: أو قواعد التّهذيب التي تختصّ بالقواعد العمليّة وموضوعة للدّلالة على التّعامل  الأخلاقي.
والفرع المعرفي الذي يختصّ بتناول قواعد التّبليغ هو فرع «الحجاج والحوار»، بينما تتولّى التّداوليّات من اللّسانيّات الحديثة النّظر فيه لاهتمامه بدراسة الاستعمالات اللّغويّة خاصّة في تعلّقها بمقامات الكلام وسياقات التّلقّي والتّعامل، من أجل هذا احتلت مفاهيم كالفعل والسّياق والإنجاز حيّزا مركزيّا في الدّرس التّداولي، وهي مفاهيم كانت غائبة عن فلسفة اللّغة واللّسانيّات» (12)
فالفعل ينبّه أنّ اللّغة لا تخدم فقط تمثيل العالم أو تصويره بل تخدم إنجاز أفعال، فالكلام هو أن نفعل، وبمعنى غير ظاهر ولكنّه غير واقعي، تدشين معنى والقيام على كل حال بـ «فعل الكلام»، إذ يوجّه مفهوم الفعل هذا نحو مفاهيم أكثر دقّة وشموليّة للتّفاعل والتّسوية، أمّا مفهوم السّياق فالمقصود به الوضعية الملموسة التي توضع وتنطق من خلالها مقاصد تخص المكان و الزمان وهوية المتكلّمين وكلّ ما يحتاج إليه من أجل فهم وتقييم ما يقال، ودون السّياق تصبح المقاصد مبهمة ودون قيمة، لكنّ التّداوليّة تضيف مفهوما آخر إلى جانب هذه المفاهيم، هو مفهوم الإنجاز ويقصد به إنجاز الفعل في السّياق، إمّا بمحايثة لقدرات المتكلّمين، أي معرفتهم وإلمامهم بالقواعد وإمّا بتوجّب إدماج التمرُّس اللّساني بمفهوم أكثر تفهّما، كالقدرة التّواصليّة أو التّداوليّة بوصفها الأداة التّقنيّة الملائمة لتعضيد فلسفة تعالي التّواصل مثل كارل أوتو آبل وهابرماس».(13)
والمناحي الثّورية والتَّجديديّة التي نجدها في الدّرس التّداولي هي الثّورة على الأفكار التّالية :
• أسبقيّة الاستعمال الوصفي والتّمثيلي للّغة.
• أسبقيّة النّظام والبنية على الاستعمال .
• أسبقيّة القدرة على الإنجاز.
• أسبقيّة اللّغة على الكلام.
إنّ التّداولية على اختلاف مدارسها تظهر بوصفها إدراكا متأخّرا بأهمّية الفعل والسّياق والإنجاز، الذي يمكن للّغة أن تقوم به، بما يرفع صور الغموض والإبهام عن مقاصد المتكلّمين، ولمّا كان فعل الكلام هو الذي يتمظهر في الإنجاز، توجّهت جهود التّداوليين إلى وضع الشّروط التّبليغيّة والتّوجيهيّة لكي يؤدّي الكلام أغراضه، وتبعا لهذا التّجديد التّداولي للّغة تغيّرت دلالات مفردات قارّة في الفكر الفلسفي منها :
• الذّاتية: التي لم تصبح الأنا التي ترتدّ إلى وعيها الخاصّ في فعل التّفكير، فالذّات لمّا كانت متكلّمة فإن ذاتيتها نقاربها انطلاقا من التّواصل والتّداول، لا التّفكير والتأمل.
• الغيريّة: هنا ثمّة لفتة ذات وزن في صلة الأنا بالأخر، فالغير ليس كيانا ساكنا، وإنّما ينكشف في التّخاطب معه، وعندما أبني معه علاقة ترابط في التّخاطب اللّغوي، الذي يكون في مجتمع شبكته النّاظمة هي التواصل.
• الكوجيطو الدّيكارتي : إنّ فعل التّفكير ليس حركة أنا واعية في صميم داخليتها، وإنّما الفكر يوجد بقدر ما أتلفظ، أي من خلال ضرورة تداوليّة»(14).
هكذا إذن، تستأثر فلسفة الفعل في الفكر المعاصر باهتمام جليّ، وتستقطب جماعات علميّة متعدّدة في مشاربها الفكريّة ومتنوعة في أدواتها المنهجيّة، فبعد رُكُونِ الفلسفة لحِقب معرفيّة طويلة إلى البحث عن الحقيقة النّظريّة والمجردّة؛ مُعرِضة بذلك عن الحركة والحياة، هي اليوم تستفيق من هذا النّسيان لسؤال الفعل وتبدأ في رسم خريطة جديدة للفكر تروم من ورائها استكشاف السُّبل المنهجيّة التي تدلّ على كيفيّة إنجاز الفعل الأصيل والإبداعي والمتجدِّد، تنجز الفعل الذي يجعل الإنسان يخرج من الأفعال النَّمطيّة إلى الأفعال التي يؤكّد بها ذاته وينفتح بها على اللّه في الآن نفسه. من هنا أضحى الفعل وُجهة جديدة للاهتمامات المعرفيّة التي تتوزّع بين علم الأخلاق وعلم الاجتماع وعلم النّفس والتصوُّف، وجميع هذه الطّرق المعرفيّة  أوكلت إلى نفسها مهمّة تجديد الذّات الإنسانيّة بنقلها من فتور الوجود إلى حماسة الحضور، ومن ضيق السُّلوكيّات القائمة الشَّكليّة إلى بثّ روح الإخلاص فيها.
خاتمة أو قيمة الإيضاح للإشكال :
لقد كانت جولتنا المعرفيّة ومساءلة قيمتيّ الحقيقة والفعل في فلسفة القيم، ذات أبعاد توضيحيّة في صميمها، والتّوضيح كما هو معلوم أحد وظائف الفلسفة، لكنّه ليس توضيحا منطقيّا كما هو منتشر في مباحث الوضعيّة المنطقيّة، وإنّما هو توضيح يبيّن مناحي الخفاء في أنظمة الفكر، فالحقيقة كما تناولناها هنا، ليست مقولة فلسفيّة تخترق إنتاجات الفلاسفة وترسم مقاصدهم، وإنّما ثمّة انعطافة لم يلتفت لها في تاريخ المعرفة الفلسفيّة، هي الانعطافة التي نقلت العقل من الإرتكاز على القداسة، إلى الإرتكاز على الدّليل، لكنّها انعطافة احتفظت بالمضمون الدّيني وصرفت الشّكل إلى الإجراءات البرهانيّة  الفلسفيّة، بينما سؤال الفعل، فقد شكّل أخطر انتقال للذّات من تمحورها حول اللُّوغوس، إلى التّحرّر من هذا الوهم، وربط الفلسفة بالحياة أكثر، بحيث أضحى الفعل ملتقى اتجاهات فروع معرفيّة متعدّدة : تاريخ الأخلاق، والعلوم الاجتماعيّة واستشراف المستقبل، بما رفعه من ميتافيزيقا النّسيان إلى  فيزيقا الحضور، فأضحت مفردات الغريزة والجسد والجمال والحياة، هي الملامح الكبرى على نسق في الفكر الفلسفي، يمكننا نعته بأنّه لوغوس الفيزيس، وبهذا، فالحقيقة هي الوجه والفعل هو القفا، والصلة بينهما تكامليّة حيويّة تبادليّة، تبادليّة من جهة إغناء أحدهما للأخر، وتكامليّة من جهة حاجة الفعل إلى نور من شعاع الحقيقة، وحاجة الحقيقة إلى جماليّات الفعل كي تتمظهر وتتخارج وتتعيّن.
الهوامش
(1)  http://www.aljabriabed.net/n11_11miftah.htm
(2) أوردها طه عبد الرحمن، سؤال العمل، مرجع سابق، ص 21.
 (3) الراغب الاصفهاني، الذّريعة إلى مكارم الشريعة، تعليق محمود بيجو، دمشق: دار أقرأ، 2001، ص 304.
 (4) فتحي حسن ملكاوي، البناء الفكري، مفهومه ومستوياته وخرائطه، أمريكا : المعهد العالمي للفكر الاسلامي، 2015، ص 55.
(5) عبد العزيز العيادي، فلسفة الفعل، مرجع سابق، ص 15.
(6) المرجع نفسه، ص 15.
(7) نفسه، ص 19.
(8) يقول سارتر ” فلسفة التاريخ والتاريخ و الأخلاق التاريخية عليها أن تتساءل بدءا عن طبيعة  الفعل، يجب استئناف الأمر على الصعيد الأنطولوجي ذاته، بما أن التاريخ يدرس فعل الناس في العالم و فعل الإنسان في الناس ورد الناس و العالم على الفعل الأول، فالفعل مقولة أساسية في التاريخ كما في الأخلاق” في كتاب : محاولات من أجل الأخلاق، دار غاليمار، باريس، 1983، ص 56.
(9) أنظر،  العيادي، فلسفة الفعل، مرجع سابق.
(10) الراغب الأصفهاني، الذّريعة إلى مكارم الشريعة، مرجع سابق، ص 416.
(11) زكريا إبراهيم، مشكلة الحياة، مرجع سابق، ص 64.
(12) أنظر، طه عبد الرحمن، اللَّسان و الميزان أو التكوثر العقلي، المغرب، بيروت: المركز الثقافي العربي، 2006.
(13) أنظر،  فرونسواز أرمينكو، المقاربة التّداولية، ترجمة سعيد علّوش، منشورات مركز الإنماء القومي، 1987. 
(14)  المرجع  نفسه.