رسالة فلسطين

بقلم
أ. د. محسن محمد صالح
ظاهرة التكامل والتآكل ومستقبل الكيان الصهيوني (*)
 بعد 76 عاماً على إنشائه، هل وصل الكيان الصّهيوني إلى أقصى درجات علوه، وبدأت عوامل الضّعف تَقوَى على عوامل الصّعود، ووصل إلى «النّقطة الحرجة»، التي تعادلت عواملُ الشدّ إلى أسفل (أو تجاوزت) عواملَ الاندفاع إلى أعلى، وبدأ المؤشّر يؤذن بالهبوط؟!!
ظاهرة التّكامل والتّآكل:
ظاهرة «التّكامل والتّآكل» من الظّواهر المعروفة في حركة التّاريخ وحركة الحياة؛ إذ لا يتسنَّى لأيِّ دولة أو قوّة استمرار الصّعود، كما لا يتسنّى لها البقاء في القمّة أمداً بعيداً، وهذه من سنن اللّه سبحانه في الحضارات والدّول.
ونجد المعنى العام لهذه الظّاهرة في الفهم الإسلامي في قوله سبحانه ﴿...وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ...﴾(آل عمران: 140)، وفي قوله سبحانه وتعالى ﴿...حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ...﴾(يونس: 24). ونجده في حديث رسول اللّه ﷺ الذي رواه أنس بن مالك «حقٌّ على اللّه ألاّ يرتفع شيءٌ من الدّنيا إلّا وضعه». رواه البخاري.
وفي شعر الإمام الشّافعي:
ما طار طير وارتفع   **    إلاّ كما طار وقع
وفي شعر أبو البقاء الرّندي رحمه اللّه:
لكلّ شيء إذا ما تمّ نُقصان  ** فلا يُغَرّ بطيب العيش إنسان
على أنّ ممّا يُعجّل سقوط الدّول والحضارات انتشارُ الظّلم والفساد، كما في قوله سبحانه: ﴿الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ* إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ﴾(الفجر: 11-14)، وقوله سبحانه: ﴿وَتِلْكَ الْقُرَىٰ أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا ...﴾ (الكهف: 59).
ولعلّ عوامل الطّغيان والظّلم والإفساد التي تَميّز بها المشروع الصّهيوني، وظهرت في أسوأ تجلياتها في الحرب على غزّة، ستكون عنصراً معجّلاً لتآكل الكيان الإسرائيلي وتراجعه، حيث نرى العديد من مظاهر هذا التّآكل داخليّاً وإقليميّاً ودوليّاً.
ومما يُعجّل السقوط كذلك ظاهرة التَّرف والمترفين، كما في قوله تعالى: ﴿وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا ٱلْقَوْلُ فَدَمَّرْنَٰهَا تَدْمِيرًا﴾ (الإسراء: 16). وظاهرة التّرف تأتي عادة لاحقة في عمر الدّول بعد مراحل التّأسيس والنّهوض.
ونحن إنّما نمرّ هنا على ظاهرة التّكامل والتّآكل مروراً سريعاً يتناسب مع حجم هذا المقال.
ويظهر لنا أنّ الكيان الإسرائيلي قد دخل هذه المرحلة، بعد أن وصل إلى أقصى درجات عُلوِّه وطغيانه، وبدأت مظاهر التَّرهل تنخَرُ في كيانه.
العلوّ الكبير (التّكامل):
نجح الكيان الإسرائيلي في تجميع نحو 45 % من يهود العالم، وبلغ عدد اليهود في فلسطين التّاريخية في سنة 2022، نحو سبعة ملايين و100 ألف يهودي.
ونجح في تثبيت نفسه كـ «دولة فوق القانون»، من خلال نفوذ عالمي هائل ولوبيّات مؤثّرة في صناعة القرار في الدّول الكبرى؛ وتعامل بلا مبالاة مع أكثر من 900 قرار من الأمم المتّحدة ومؤسّساتها بحقّه، واستند لاستخدام الأمريكان لحقّ النّقض «الفيتو» ضدّ أيّ إجراء أو موقف يمسّه.
واستطاع الكيان الوصول إلى مستوى اقتصادي متقدّم، وحقّق ناتجاً محليّاً إجماليّا ًبلغ، وفق تقديرات دائرة الإحصاء المركزيّة الإسرائيليّة نحو 525 مليار دولار سنة 2022، وبلغ معدّل دخل الفرد 55 ألف دولار سنويّاً، وهو ما يضارع مستويات الدّخل في أوروبا الغربيّة؛ وبرز الكيان في ريادة صناعة «الهاي تيك»، وحاز لنفسه مكانة عالميّة.
كما برز كأقوى قوّة عسكريّة في المنطقة، مدجّجة بأكثر من 200 قنبلة نوويّة وبأسلحة الدّمار الشّامل، وأخذ يلعب دور شرطي المنطقة؛ ويسعى لفرض الأجندة الإسرائيليّة الأمريكيّة عليها.
وتمكّن الكيان من توظيف مسار «التّسوية السّلميّة» لصالحه، وفي تثبيت كيانه ومصادرة المزيد من الأرض والمقدّسات، وإيجاد سلطة فلسطينيّة تخدم مصالحه الأمنيّة وتقمع شعبها.
وحقّق الكيان اختراقاً تطبيعيّاً كبيراً في المنطقة، على أساس «السّلام مقابل السّلام» وليس حتّى «الأرض مقابل السّلام»؛ وتمكّن من إيجاد بيئات رسميّة عربيّة وإسلاميّة تخطب ودَّه، وتحارب المقاومة كما تحارب التّوجّهات الإصلاحيّة والاتجاهات الإسلاميّة.
وأخذ الكيان يكشف في السّنوات الأخيرة عن هويّة يهوديّة أكثر وضوحاً وتعصّباً، وعن حكومة ذات ميول دينيّة وقوميّة متطرّفة، ومشاعر أكثر فوقية وعجرفة، وعن سعيٍ للسّيطرة الكاملة على الأرض وإغلاق الملف الفلسطيني.
مخاطر وتهديدات (التّآكل):
في المقابل، ثمّة مخاطر حقيقيّة وتهديدات يواجهها الكيان الإسرائيلي:
إذ ما زال الفلسطينيون مُتجذِّرون في أرضهم، حيث تجاوزت أعدادُ الفلسطينيّين أعدادَ اليهود في فلسطين التّاريخيّة (فلسطين المحتلة 1948 والضّفة الغربيّة وقطاع غزّة) منذ سنة 2022، بنحو 40 ألفاً، فبلغت سبعة ملايين و130 ألفاً؛ وبحسب معطيات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني من المتوقّع أن يتجاوز عددُ الفلسطينيّين عددَ اليهود بنحو 450 ألف نسمة في سنة 2030 (مع استبعادنا أن يبقى مسار النّمو السّكاني على حاله، في ضوء احتدام الصّراع).
وتصاعدت قوّة المقاومة في داخل فلسطين في الضّفة الغربيّة وقطاع غزّة، وفي خارج فلسطين، وتحوّلت إلى خطر استراتيجي واضح خصوصاً بعد عمليّة طوفان الأقصى. كما تزايد التفاف الشّعب الفلسطيني حولها؛ وانفضَّ الشّعب الفلسطيني عن سلطة رام اللّه وقيادتها، التي تابعت أداء أدوار وظيفيّة تخدم الاحتلال أكثر ممّا تخدم شعبها.
وسقط مسار التّسوية السّلميّة وفقد بريقه وجاذبيته، ولم يعد يصلح لمتابعة المفاوضات مع الفلسطينيّين، ولا غطاء لمتابعة الكيان الصّهيوني اختراقاته التّطبيعيّة في المنطقة. وفشل الكيان في التّحوّل إلى كيان طبيعي في المنطقة، وما زالت الأغلبيّة السّاحقة من الشّعوب العربيّة والإسلاميّة تنظر إليه كعدوّ وكسرطان، ولم يتجاوز التّطبيع القشرة السّطحيّة للأنظمة الرّسميّة.
وما زالت البيئة الاستراتيجيّة، وخصوصاً المحيطة بالكيان، تعيش حالة من اللاّ استقرار ومن التشكّل وإعادة التّشكّل، تُنذر بموجة أقوى وأشدّ عنفاً وأقدر على التّغيير من موجة «الرّبيع العربي» السّابقة.
ويعاني المجتمع الصّهيوني من تزايد مشاكله الدّاخليّة، حيث تصاعدت الصّراعات ذات الخلفيّات العرقيّة والقوميّة، وزادت النّزاعات بين التّيارات الدّينيّة وبين التّيارات القوميّة.
كما يعاني المجتمع الصّهيوني من انتشار مظاهر العولمة والتّرهّل والتَّرف والرّغبة في الاستمتاع بالحياة، وانتشار الشّذوذ الجنسي، والتَّهرب من التّجنيد، وتراجع نوعيّة الجندي الإسرائيلي وقدرته على القتال.
ويفتقد المجتمع الصّهيوني القيادات من الطّراز الأول، كالتي حملت عبء إنشاء الكيان وعُلوِّه في العقود الأولى.
بالإضافة إلى ذلك، يتحوّل الكيان الصّهيوني تدريجيّاً من ذخر استراتيجي إلى عبء على الولايات المتّحدة والقوى الغربيّة التي تقف خلفه، مع تزايد عجرفته وتكاليفه وانكشاف وحشيته، وتصاعد عزلته الدّوليّة وانقطاع «حبل النّاس».
تدافعٌ يتجه للانحدار:
وهذا يعني أنّ الكيان الصّهيوني يعيش حالة من «التّدافع» بين عناصر قوّته وبين المخاطر والتّهديدات المتصاعدة؛ بحيث أنّه لم يعد قادراً على تحقيق مزيد من الصّعود، كما أنّ عناصر الشدِّ إلى أسفل تتزايد قوّتها، ولن تلبث طويلاً حتّى تبدأ مظاهر الترّاجع بالبروز.
لقد هزّت عمليّة طوفان الأقصى الكيان الإسرائيلي بعمق، وضربت نظريّته الأمنيّة، كما أسقطت فكرة الملاذ الآمن لليهود التي نشأ على أساسها المشروع الصّهيوني، وضربت فكرة القلعة المتقدّمة للغرب وشرطي المنطقة، وضربت اقتصاده؛ وهشَّمت أبرز أسس عمليّة التّطبيع ومبرّراتها. وأظهرت أنّ هزيمة الكيان هي فكرة عمليّة واقعيّة وليست مستحيلة، وأنّ مظاهر القوّة والهيمنة لدى الكيان هي أقلّ ممّا تبدو عليه، وأقلّ ممّا رسخ في الوعي واللاّ وعي العربي والإسلامي وحتّى العالمي؛ وأنّ جوهر العجز يكمن في الأنظمة الرّسميّة العربيّة والإسلاميّة.
ولعلّ هذا يُفسّر خلفيّة الوحشيّة الهائلة للحرب الإسرائيليّة على قطاع غزّة، وتصريحات قادة الصّهاينة بأنّ هذه الحرب هي معركة «الاستقلال» الثّانية للكيان؛ في محاولة لاسترجاع الصّورة التي فقدتها أو بعضاً منها. ولعلّ قدرة المقاومة على الصّمود في قطاع غزّة، وفشل الاحتلال الإسرائيلي في تحقيق أهدافه، سيكون علامة تاريخيّة فارقة. وهو ما جعل قادة الكيان أنفسهم يُحذّرون من أن «إسرائيل» إن لم تنجح في سحق حماس، وإنهاء وضع قطاع غزّة كمصدر للتّهديد، فسيكون ذلك بداية العدّ العكسي للكيان، وأن لا مستقبل بالتّالي للكيان في «الشّرق الأوسط».
والخلاصة أنّ الكيان استنفذ حالة الصّعود، وهو يصارع من أجل ألاّ يدخل في مرحلة الهبوط، غير أنّه يشهد انحداراً تدريجيّاً يَظهر بطيئاً في البدايات، قبل أن تبدأ عجلته في التّسارع على المدى الوسيط والبعيد. واللّه أعلم.