نحو أفق جديد

بقلم
أ.د.عبدالجبار الرفاعي
لن تموت الحرب مادام الإنسانُ إنسانًا أحلام جودت سعيد بموت الحرب
 1 - داعية اللاعنف
زرتُ جودت سعيد في دمشق قبل ربع قرن تقريبًا، فوجئت بفلّاح تلقائي مباشر في تعامله مع كلِّ النّاس مهما تكن مقاماتُهم، يخلو كلُّ شيء في حياته من البروتوكولات المتعارفة عند الزّعماء السّياسيّين والوجهاء. كان كلُّ شيء في شخصيّته عفويًّا يشبه أبي الفلّاح، إلاّ قبّعته وملابسه التي لا تشبه لباسَ الفلّاحين في جنوب العراق. أوّل مرّة ألتقي برجل دينٍ يتعامل بوصفه فلَّاحًا، قبل أن يظهر للنّاس بأيّة صفة أو عنوان آخر، حتّى بناء منزله يشبه بيتَ فلّاح نقله بكلِّ ما فيه من قريته إلى المدينة.كان يمضي بعضَ الوقت في المدينة حين ينتهي موسمُ الزّراعة. يعيشُ في بيتٍ يقع في منطقة شعبيّة فقيرة بدمشق، أزقّتُها ضيقة تربض على منحدر جبل قاسيون، لا تصل السّيارةُ إليها إلاّ بعد أن تمرّ بمنعرجات ضيّقة، يتطلّب الوصول إلى بيته المشيَ في أزقّة متشعّبة. المفاجأة السّارّة كانت اكتشافَ ضريح الشّيخ محيي الدّين بن عربي، وأنا في طريقي لزيارة الشّيخ جودت، من دون دراية بموضعه الدّقيق بدمشق من قبل. اقترنتْ زيارةُ الشّيخين محيي الدّين بن عربي وجودت فكانتا من أبهج ما أحظى به كلَّ مرّة حين أكونُ في الشّام. 
ولد جودت سعيد في قرية بئر عجم التّابعة للقنيطرة بسوريا عام 1931 وتوفّي في إسطنبول يوم السّبت 29-1-2022. تخرّج في الأزهر بالقاهرة، إذ أرسله والده بعمر 15 سنة، ليكمل دراستَه الثّانويّة والجامعيّة فيه.كان يقضي أغلبَ أيامه بمزرعته في بئر عجم، منشغلًا بالزّراعة وتربية النّحل. أمضى جودت سعيد حياتَه يعيش على فلاحة الأرض، الفلاحةُ مهنةٌ تتيح للإنسان معانقةَ الطّبيعة، والإصغاءَ لصوت الحياة الذي تنشده النّباتاتُ والحيوانات والحشرات وكلّ الكائنات.كلُّ يوم يسقي المزرعةَ بالماء، الماء ليس منبعًا لحياة النّبات خاصّة، بل لـ « كُلِّ شَيْءٍ حَيٍّ». في مهنة الفلاحة تنبعث حياةُ الإنسان وتتجدّد حيويتُه كلَّ يوم. الفلّاح صديقُ الأرض، صديقُ الأرض قلبُه كحجر كريم مشعّ تكتنزه الأرض، شخصيّةُ صديق الأرض مضيئةٌ كالشّمس، عذبٌة كالماء. مولعٌ بإنتاج ما يقوّم الحياة، الحياةُ شغفُه، متيمٌ بالإنصات لصوت الطّبيعة. عاشقٌ للبناء، وذلك ما يجعلُ الفلّاحَ أقلَّ البشر عنفًا وأحرصَهم على العيش بسلام. تقول عائلةُ جودت أنّه كان يبتهج بالماء والنّبات والطّبيعة أكثر من أيّ شيء آخر، وأظنّ أنّ نزوعَ الشّيخ جودت للاّعنف عزّزه الحضورُ اليومي في المزرعة، والمثابرةُ على الإصغاء لصوت الطّبيعة. المعروفُ عنه أنّه كان يؤمن بالأساليب الحديثة في الزّراعة وتربية النّحل، يُقال في أحد السّنوات الباردة أهلك النّحلَ الصّقيعُ في خلاياه في مزارع بئر عجم، ولم يُهلك الصّقيعُ نحلَ جودت لأنّه يحمي الخلايا من تساقط الثّلج. ظنّ النّاسُ أنّ اللّهَ يختصُّه بعناية غيبيّة، لكن علموا لاحقًا أنّه كان يتبع أساليبَ علميّة تحمي النّحلَ من صقيع الشّتاء.
يقول أبناءُ جودت سعيد إنّه كان لا يفارق القرآنَ الكريم، من عاداته كتابةُ آيات القرآن على الورق، ويعلّل ذلك بقوله: «كلّ نصّ نفهمُه أكثر حين نعيد كتابتَه بأيدينا». عندما يسأله أحدٌ ماذا تنصحنا أن نقرأ؟ يجيب: «اقرأوا القرآنَ وافهموه جيدًا. اقرؤا القرآن مرّةً من حيث هو عمل الإنسان، ومرّة أخرى من حيث هو عمل اللّه. هناك فعلٌ إلهي يتحدّث عنه القرآن، وفعلٌ بشري يتحدّث عنه القرآن». 
يجتمع بعائلته مساءً كلّ يوم بعد الصّلاة، وينشغل معهم بإعراب آيات القرآن. الإعرابُ كما يرى جودت أداةٌ للفهم وتدبّر وتأمل المعاني. خطبُه وأحاديثُه ومواقفُه وكتاباتُه يوظّف فيها آياتِ القرآن، ويدلّل دائمًا على ما ينشده بآياته. وهكذا كان ينتقي عناوين مؤلّفاته من القرآن، كما يقول: «أختار عناوين لكتبي أجزاء من آيات قرآنيّة»، مثل: حتّى يغيروا ما بأنفسهم، اقرأ وربّك الأكرم، لا إكراه في الدّين.  
بعد ظهور بوادر تورّط الجماعات الدّينيّة بالعنف، أدرك الشّيخُ جودت سعيد مبكّرًا ‏أنّ القتلَ وسفكَ الدّماء أحدُ أعمق عوامل المأزق التّاريخي ‏الذي يعيشه المسلمون، فبادر لتأليف كتابه «مذهب ابن آدم الأوّل: مشكلة العنف في العمل الإسلامي» صدر الكتاب سنة 1966. كان هذا الكتابُ خطابًا صريحًا ودعوةً مباشرة للذين يتبنّون العنفَ منهجًا في الدّعوة إلى اللّه من بعض الجماعات الدّينيّة. على الرّغم من أن صفحاتِ هذا الكتاب محدودةٌ إلاّ أنّه كان بيانًا استثنائيًّا للسّلام والمناداة باللاّعنف يخترقُ دعواتِ العنف في أدبيّات الجماعات المتشدّدة. 
يذهبُ الشيخُ جودت الى أنّ المقصدَ المحوري للقرآن هو السّلام لا الحرب، وينطلق من الآية الكريمة: ﴿لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ﴾(المائدة:28) ، يقرؤها قراءةً إنسانيّة أخلاقيّة، يؤسّس عليها دعوتَه للاّعنف. يكتب جودت: «إنّ مرض العنف ليس مرض الشّباب فقط، وإن كانوا أجرأ على حمله. إنّ العالَم كلّه مريض بتلك الجرثومة، اليمين منه واليسار على السّواء، وحتّى الزّوايا المطويّة من سرائر الصّوفيّة تجد فيها الجينات التي تحمل هذه المورثات الثّقافيّة. إنّ الموضوع يحتاج إلى انقلاب شامل في سلوك البشر، فنحن لا نزال في تهمة الملائكة لبني آدم في الفساد في الأرض وسفك الدّماء، ﴿قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾(البقرة:30). إنّنا نحمل جرثومة ابن آدم الفاشل الذي لم يُتقبّل قربانه، والذي كان أسلوبه في علاج المشكلة أن قال لأخيه: ﴿لَأَقْتُلَنَّكَ﴾(المائدة:27)»(1). 
كثيرًا ما يستدل جودت بالآية: ﴿وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا﴾(الفرقان:52). ويعني بذلك الجهادَ الأكبر الذي يبدأ ببناءِ النّفس وتغييرِها، وتحصيلِ العلم والمعرفة، وهي عناصر القوّة والتّمكّن والغلبة اليوم، وليس الحروب التي لا تتوالد منها إلاّ الحروب. الكفرُ ليس سببًا للجهاد، الكافرُ لا يجوز قتالُه بوصفه مختلفًا في المعتقَد. الموقفُ من المختلِف في المعتقَد هو البرُّ والقسط،كما نصّت على ذلك الآية:﴿لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾(الممتحنة:8). يدعو جودت إلى أن يتأسّس التّعاملُ مع المختلِف في المعتقَد بوصفه إنسانًا قبل كلّ تصنيفٍ ديني وهوياتي، ويحذِّر الجماعاتِ الدّينيّة من الخلط بين مفهومِ الجهاد الذي قام به الرّسول ﷺ واختلاطِ هذا المفهوم بخروج الخوارج بعنوان الجهاد، ويخاطب هذه الجماعاتِ بقوله: «المشكلة التي ضاعت مفاتيحها وإدراك سُننها وشروطها الدّقيقة في خضم الفتن المتتالية، هي تحليل مفهوم الجهاد الذي قام به الرّسول ﷺ، واختلاط هذا الجهاد بجهاد الخوارج»(2).   
رحل جودت إلى الملكوت الأعلى، لكن الواقعَ الذي فرضته الجماعاتُ الدّينيّة المتشدّدة على المسلمين أضيقَ من أن يتّسع لاستيعاب دعوة اللاّعنف التي كرّس لها جهوده. على امتداد عمره الذي تخطّى 90 سنة كان ينادي بنبذ العنف، ويؤكّد على أنّ العنفَ لا ينتج إلاّ العنفَ المضاد. يشاهد جودت سعيد أغلبيّةً تتطلّع لدعوته وغيره للسّلام في السّرّ وتتمنّى أن تسود، غير أنّ هذه الأغلبيّة تظلّ صامتةً لخوفها من إعلان موقفها، بعد أن أفزعتها وأسكتتها شعاراتُ الجماعات العنيفة الصّاخبة، ودعواتُ مناهضةِ غير المسلم وإعلانِ القطيعة معه، انطلاقًا من مقولات علم الكلام القديم، وما انبثق في سياقها من أحكام وفتاوى مماثلة في المدوّنة الفقهيّة.   
كان جودت سعيد رائيًا رَاعَهُ ظلامُ نهايات النّفق الذي تسوق المسلمين إليه الجماعاتُ الدّينيّة المتشدّدة قبل أن يراه غيره. للأسف لم تكترث بدعوته تلك الجماعاتُ العنيفة، التي تتحمّس وتزهو بصوت مَنْ يجيدون ترتيلَ آياتِ القرآن على ضجيج الدّماء. كأن هناك تواطُؤًا غيرَ معلنٍ بين السّلطة وأهل الثّروة وهذه الجماعات على تجاهل دعوات السّلام في كتابات جودت سعيد وأمثاله. 
بالغ جودتُ سعيد في دعوته للاّعنف، إلى الحدّ الذي ابتكر معادلةً تجعل إيمانَ المرء يتلوّثُ بالوثنيّة بمقدار حنينه للعنف، إذ يقول: «ينقص من عقله بقدر ما يمارس من عنف، ويتلوّث إيمانه بالوثنيّة والشّرك بقدر ما يبقى في قلبه من حنين للعنف». كلُّ إنسان أخلاقي يطمحُ أن يسودَ اللاّعنفُ الحياة، إلّا أنّ هذه الأمنية الجميلة لن تتحقّق مالم تتبدّل طبيعةُ الإنسان.
لا يمكن الخلاصُ من العنف بالنّوايا الطّيبة. العنفُ ليس طارئًا، العنفُ من الثّوابت الأبديّة في الطّبيعة الإنسانيّة،كما يقول: علمُ النّفس، وعلمُ الأعصاب المعرفي(3)، وعلمُ الاجتماع والأنثربولوجيا، والعلومُ الإنسانيّة الحديثة. دعوةُ اللاّعنف غيرُ واقعيّة في عالَم لا يتكلّم إلاّ لغة العنف، عالَم بدأ العنفُ فيه بابن آدم الأوّل، ومايزال العنفُ مقيمًا حتّى اليوم. 
-2 لن تموت الحرب مادام الإنسانُ إنسانًا
كرّس الشّيخ جودت سعيد حياتَه لمناهضة كلّ أشكال العنف. وظلّ يتحدثُ ويكتبُ عن أنّ اللاّعنفَ ضرورةٌ تسبقُ كلَّ عمليّة بناء للإنسان والعيش المشترك وسلام المجتمعات والأوطان. كان مصرًّا على مواقفه يكرّرها بلا ملل في مختلف المناسبات، وهو يستضيء بقول محمد إقبال: «ولحرفٍ واحد ألف مقال»، ويؤسّس عليه ليقول: «وكذلك الفكرة الواحدة كي تستوي على قدميها تحتاج إلى ألف مقال»(4). 
تطور موقفُ جودت سعيد فرأى اللاّعنفَ أساسًا ينبغي اعتماده في مختلف المواقف، واتخاذه مبدأ شاملًا في الحياة، وكرّس جهوده في الكتابة والخطابة من أجل توضيح ما يرمي إليه. يلخص جودت سعيد دعوتَه للاّعنف في بعض كتاباته الأخيرة بكلمتين؛ هما: «موت الحرب»، وهذا شعار رومانسي متخيّل نتمنّاه جميعًا، ومازالت البشريّةُ وستظلّ تحلم فيه حتّى آخر إنسان يعيش على الأرض. لا يدلّل عيشُ الإنسان وصراعاتُه وحروبُه منذ أوّل عائلة في الأرض على واقعيّة شعار: «موت الحرب»، بدأ القتلُ بابن آدم الأول وسيبقى القتلُ إلى أن يموت أو يُقتل ابنُ آدم الأخير. 
«موت الحرب» يُذكِّر القرّاءَ بمقولات: موت اللّه، موت الميتافيزيقا، نهاية التّاريخ، وغير ذلك. الواقع يتنكّر لهذه الدّعاوى، التّاريخ يمضي عبر صيرورة متواصلة ولن يقف عند نهايٍة مادام هناك إنسانٌ في الأرض، الميتافيزيقا لن تموت مادام هناك عقلٌ يتساءل عن معنى الوجود والمبدأ والمصير، «اللّهُ حيٌّ لا يموت» ما يموتُ هو صورُ اللّه المشتقّة من الظّلم والاضطهاد والاستبداد والطّغيان. لن تموتَ الحربُ ولن يختفي العنفُ مادام هناك إنسانٌ يعيشُ في الأرض. «موتُ الحرب» بشرى سارة، لكن هذه البشرى تقفز للنّتائج دون المرور بالمقدّمات. إثباتُها يتطلّب أن نكتشف ما يختبئ في أعماق الإنسان أولًا، وندرس تاريخَ العنف والحروب في مختلف مراحل تاريخ الإنسان ثانيًا. ونختبر ما تستبطنه النفسُ الإنسانيّة من استعدادات ودوافع كامنة للتّعصب والكراهيّة والشرّ، وتأثيرَ نمط عيش الإنسان، ونوعَ ثقافته، ومستوى تطوّره الحضاري في إنتاج العنف. 
الإنسانُ هو الكائنُ الأكثر غموضًا والأعقدُ والأغربُ، والأشدُّ شعورًا بالألم في العالَم.كلّما اكتشف الإنسانُ سرًّا وحلَّ لغزًا في طبيعته، وظنّ بأنّه أدرك حقيقتَه بتمامها، رأى سرًّا خفيًّا لم يكن يعرفه من قبل، فيعود ليعلن عن جهله بالمعرفة الكاملة للإنسان(5). يكتب دوستويفسكي: «الإنسان لغز محيّر ومن الضّروري أن تعمل على تحليل رموزه، وأن تصرف عمرك كلّه محاولًا فكّ طلاسمه، فلا تقل عندها أنّك أضعت وقتك في ذلك، فأنا أقوم بدراسة ذلك اللّغز لأنّني أريد أن أكون كائنًا بشريًّا»(6).
لم يتحدّث جودت سعيد عن الخوف والقلق والألم الذي يستعر في باطن أكثر النّاس، ولم يتنبه في كتاباته لبواعث العنف المستترة في النّفس الإنسانيّة، وما تثيره الغيرةُ والتّنافسُ والشّعورُ بالإحباط عندما تستفزّ الإنسانَ نجاحاتُ غيره وتفوقُهم ومنجزاتُهم. ولم يتحدّث عن التّمثّلات الرّمزيّة للعنف وتعبيراته اللّفظيّة وغيرها، وحضوره بأشكال مختلفة تتنوّع بتنوع الأديان والثّقافات والحضارات. يكتب دوستويفسكي: «يُقَال أحيانًا إنّ الإنسان حيوان كاسر، إلاّ أنّ في هذا القول إهانة للحيوان لا داعي إليها؛ فالحيوانات لا تبلغ مبلغ البشر في القسوة أبدًا، وهي لا تتفنَّنُ في قسوتها تَفَنُّنَ الإنسان. النّمر يكتفي بتمزيق فريسته والتهامها، إنّه لا يمضي إلى أبعد من ذلك، ولا يخطر بباله يومًا أن يُسَمِّرَ أحدًا من أذنيه بسياج، ولو قدر على ذلك»(7). 
عندما نتأمّل النّفس الإنسانيّة نرى بواعث العنف كامنة فيها، من هذه البواعث الحاجة للتّملّكِ في حياة الإنسان، وهي ضروريّةٌ لاستمرار الحياة، ومواصلة العمل والمثابرة والإنجاز. التملّك يشعر معه الإنسان بنوع من الأمان والثّقة والسّلطة. هذه الحاجة إذا لم تخضع لقوانين عادلة لا تقف عند حدّ نهائي، بل تنقلبُ الحاجةُ للتّملّكِ إلى مشكلةٍ لحظةَ تتضخّم ليصبح موضوعُها امتلاك البشر بدلًا من امتلاك الأشياء، ومصادرة حرّياتهم وحقوقهم، والتّسلّط عليهم والتّحكّم بمصائرهم. الشّغف بالسّلطة المطلقة ناتج عن حاجة الإنسان للخلود، لذلك عندما يستحوذُ شخصٌ على مثل هذه السّلطة يستعبد مَنْ يتسلّط عليه، ويمارس كلَّ أشكال العنف ضده حين يشاء؛ وذلك يجعله يعيش حالة زهو وإحساس هائل بمتعة، وشعور زائف بالخلود، لا يجد ذلك في غير السّلطة.
وإن كان شعارُ «موت الحرب» ليس واقعيًّا، غير أنّه يكشف عن تشبّع روح جودت سعيد بالسّلام في باطنه وظاهره، ويعبّر عن أمانيه الأخلاقيّة المتفائلة، أكثر ممّا يتكشف فيه الواقعُ المركّب المتشابك، وما يباغت الإنسانَ فيه من عنف ينبعث من شتّى العوامل، وما يهدّد الأمنَ البشري من حروب مريرة، كانت ومازالت وستظل تواكب تاريخَ الإنسان. العنف بما هو ظاهرةٌ مجتمعيّة بدأت بظهور الإنسان في الأرض. مادام هناك إنسانٌ هناك تنافسٌ ونزاعٌ وصراعٌ على الاستئثار بالسّلطة والثّروة واحتكار المعرفة وغير ذلك، ذلك هو وقودُ العنف والحرب. لا تخمد الحربُ إلاّ بتسويات واقعيّة تحسم النّزاعاتِ سلميًّا في كثير من الحالات. 
يقول هيراقليطس: «الحرب أو الصّراع هو أب الأشياء جميعًا»، «موتُ الحرب» أمنيةٌ مستحيلة التّحقّق مادام الإنسانُ إنسانًا. الحربُ ليست طارئةً في التّاريخ، قوةُ العنف واستمرارُ الحروب قاد فلاسفةَ التّاريخ للقول بأنّها عاملٌ أساسي في نشأة الحضارات وازدهارها وانهيارها. ‏الحضاراتُ الكبرى ولدت في مخاضات حروب كبرى، ‏لولا حروبُ أوروبا الاستعماريّة وإخضاعُ ‏مساحات شاسعة من الأرض لهيمنتها ونهبُ ثروات أهلها في أفريقيا وآسيا والأمريكتين، ‏لم تحدث الثّورةُ الصّناعيّة، ولا التقدّم الذي وصلت إليه أوروبا ‏في العصر الحديث. لولا حروبُ الفتوحات ما ساد الإسلامُ العالَمَ القديم من الأندلس إلى حدود الصّين. 
في كتابات جودت لم يتميز بوضوح: العنفُ الذي تعتقده الجماعات الدّينيّة المقاتلة بأنّه مكوّنٌ أساسي لماهية الدّين، عن العنفِ بدوافع غير دينيّة النّاتجِ عن بواعث الغيرة والتّعصّب العميقة في الإنسان، والصّراعاتِ على السّلطة والثّروة وشبكات المصالح المختلفة. عقائدُ القتل مشتقةٌ في الأديان من طريقةِ تعريفها للدّين، وفهمِها لوظيفته في الحياة، وكيفيّةِ تفسيرها لنصوصه، ونظامِ إنتاجها للمتخيَّل، وطريقة تعريفها لنفسها في فضاء المتخيَّل. قبضةُ المتخيَّل شديدةُ الوطأة، يفرضُ المتخيَّلُ حضورَ الماضي بشدّة، وإذا طغى الماضي يحجبُ الحاضرَ والمستقبل. ‏النّزاعاتُ والكراهيّات والعنف والحروب تعيشُ على كراهيّات وإكراهات المتخيَّل. 
مَنْ يريدُ تحريرَ التّديّن من العنف عليه أن يحدّد أولًا تعريفَه للدّين، وكيفيّةَ تفسيره لنصوصه في ضوء ما ينشده من الدّين ثانيًا، والتّخلّص من تعليم المقولات الكلاميّة للتّكفير والفرقة النّاجية والفرق الهالكة في معاهد التّعليم الديني التّقليديّة والجامعات الإسلاميّة الحديثة، وما يبتني عليها من فتاوى الارتداد والتّكفير. لا يمكن تحريرُ التّديّن من العنف مالم يتأسّس ذلك على: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾(البقرة:254)، وما ينطق بمضمونها في القرآن الكريم، بشرط وضع أسس لكيفيّة التّعامل مع الآيات المعارضة لمضمونها. وتوظيف آراء المجتهدين وفتاويهم المواكبة للحياة في التّعليم الدّيني، مثل قول الشّيخ محمد عبده: «إذا صدر قولٌ من قائلٍ يحتملُ الكفرَ من مائة وجه ويحتملُ الإيمانَ من وجهٍ واحد حُمِل على الإيمان، ولا يجوزُ حملُه على الكفر»(8).
كلُّ مَنْ يحاولُ أن يؤسّسَ للسّلام في الدّين عليه أن يُعيدَ تعريفَ الدّين، ويكتشفَ رسالتَه في حياة الإنسان، وأفقَ انتظار الإنسان منه. بلا إعادةِ تعريف الدّين، وعدمِ بيان حدود وظيفته في الأرض بشكلٍ واضح، تظلّ دعواتُ السّلام يلفّها الغموضُ واللاّواقعيّة، ولا تخرج عن كونها شعاراتٍ حالمةً في واقعٍ يتكلّمُ لغةً ويخضعُ لمعاييرَ ترفض لغةَ السّلام ومعاييره. الدّينُ -كما أفهمه – حياةٌ في أُفق المعنى، يوقظ المعنى الرّوحي والأخلاقي والجمالي الذي يحتاجه الإنسانُ كي يشعر بالأمن والسّكينة. في ضوء هذا التّعريف لن يجدَ العنفُ موضعًا بما هو مقوّم للدّين، ولا يكون العنفُ مكونًا أساسيًّا له، بل ينقضُ العنفُ تعريفَ الدّين، ويُعطِّل المعنى الذي يُلهِمُه لحياة الإنسان(9).
النّوايا الطّيبة والقناعاتُ والتّفكيرُ الرّغبوي لا تغيِّر الواقعَ المرير. النّصوصُ الدّينيّة المنتقاة وحدَها لا تكفي لتغيير الواقع. كان جودت سعيد كغيره انتقائيًّا؛ يلتقط آيةً من القرآن الكريم أو حديثًا من مصنفات السُنّة النّبويّة الشّريفة، ويغضّ النّظرَ عما يعارض الآيةَ أو الحديث الذي يستدلّ به. ركزَّ جودت على حديث جاء فيه: «قلت يارسول اللّه أرأيت إن دخل عليّ بيتي، وبسط يده ليقتلني؟! قال: فقال رسول اللّه: كن كابن آدم»(10). في الوقت الذي يلتقط جودت هذا الحديث، لا يضع قاعدةً تعالج أحاديثَ شهيرة تدعو للقتال والجهاد في مصنّفات الحديث، وهكذا أمثالها في آيات القرآن، ولا ينظر لأحكام الجهاد المتوارثة في مدوّنة الفقه. اتخذ جودت: «كن كابن آدم» شعارًا استند إليه في أحاديثه وكتاباته، ولم ينشغل بإعادةِ تعريف الدّين، وبناءِ قاعدة تحلّ التّعارضَ بين هذا الحديث والأحاديث الأخرى العديدة المخالفة له في دلالتها، ولم يؤسّس قاعدةً ترجّح دلالتَه وتتّخذها أصلًا ينفي دلالةَ كلّ ما يعارضه.
الثّغرةُ المنهجيّة في هذه الكتابات وأمثالها أنّها لم تنشغل ببناءِ رؤيةٍ منهجيّة شاملة لكيفيّةِ تفسير آيات الجهاد والقتال والحرب في القرآن الكريم وبيانِ موقف المسلم اليوم منها. لم تتأسّس هذه القناعاتُ على رؤيةٍ نظريّة ومنهجٍ واضح للتّعامل مع آيات القرآن والسُّنة التي تتحدّث عن الجهاد وحمل السّيف، ولم تنشغل ببيان كيفيّة التّعامل مع الأحاديث المتنوّعة في هذه الأبواب من مصنّفات الحديث، لذلك تظلّ المواقفُ في كتابات جودت سعيد وغيره انتقائيّة، تفتقر لبناء رؤيةٍ شاملة يمكن اعتمادُها أداةً محوريّة لتفسيرِ مثل تلك الآيات في القرآن وفهمِ تلك الأحاديث في السُّنة. 
 3 - كتابة رغبويّة تفتقر لرؤية نظريّة
تفتقر كتاباتُ جودت سعيد لتفكيرٍ متأمّل صبور. تفكيرٌ يستخلصُ رؤيةً نظريّة من النّصوص الدّينيّة، ويتكشّفُ فيه النّسيجُ المركّب للواقع. مؤلّفاتُه أقرب لخطب الجمعة الوعظيّة منها للغة الكتابة. لم يطوّر لغتَه الشّفاهيّة ويغادر بيانَه، لا يراجع قناعتَه ورأيَه في تعميم دعوة اللاّعنف لمختلف المواقف وإعلانه أخيرًا «موت الحرب». 
مكثَ جودتُ أكثر من نصف قرن يقدّم كتابات وأحاديث يكرّر فيها كلامَه عن اللاّعنف،كلّما مرّ زمنٌ كانت تتجذّر هذه المقولةُ لديه. الدّعوة للاّعنف دعوة إنسانيّة أخلاقيّة، غير أنّ الدّعوةَ شيءٌ ووجود مجتمع بلا عنف شيءٌ آخر. الاعتقاد بوجود مجتمع يسوده السّلامُ وتموت فيه الحربُ ويتخلّص الإنسانُ فيه من كلّ أشكال العنف ليس واقعيًّا. «موتُ الحرب» ووجود مجتمع اللاّعنف على الأرض صورةٌ خياليّةٌ تنتجها انطباعاتٌ وتمنياتٌ متعجّلة، وتدلّل على طوباويتها الرّؤيةُ التّدقيقيّة المنسوجة على مَهل، الخبيرة بطبيعة الإنسان والواقع الذي يعيش فيه. كلماتُ جودت سعيد لا صدى لها في واقع عالمي مازال محكومًا بتغليب منطق السّلاح على منطق السّلام، ولغة العنف على لغة اللاّعنف.كتاباتُه تغضّ النّظرَ عن الإرهاب المختبيء في مقولات التّكفير وفتاوى الارتداد في التّراث، وعن واقعٍ تعيشه مجتمعاتُنا يتفشّى فيه العنفُ الجسدي واللّغوي والرّمزي. 
لا يعكس كلامُ جودت سعيد تاريخَ الأديان في مختلف محطّاتها. لا ديانةَ في الأرض تخلو مراحلُ تاريخها من العنف، كما تمنّاه جودتُ سعيد، وأتمنّاه أنا ويتمنّاه كلُّ المولعين بصناعة السّلام في العالَم. لا يكفي الحكمُ على أيّة ديانة بما ورد في كتبها المقدّسة ونصوصها فقط، بل لابدّ من اختبار قوّة حضور قيمها الرّوحيّة والأخلاقيّة في الواقع، وتحقّق تلك القيم في سلوك مَنْ يعتنقها أفرادًا ومجتمعاتٍ وفي مواقفهم، وقدرتها على توظيف الأخلاق الإنسانيّة في تعاملها مع المختلِف في الدّين والمعتقَد داخل مجتمعاتها.
لا يصحّ الحكمُ على الدّين بمعزل عن أخلاقيّةِ الإنسان الذي يعتنقه، ونوعِ ما ينتجه الدّينُ من علاقات محكومة بقيم إنسانيّة في الحرب والسّلام. الدّين يمكن استثماره في السّلام والعيش المشترَك، كما يمكن استغلالُه أسوأ استغلال في العنف وسفك دماء الأبرياء،كما نراه في سلوك الجماعات العنيفة في الأديان. 
تأثّر جودت سعيد في وقت مبكّر من حياته بكتابات المفكر الجزائري مالك بن نبي «1905-1973م». يتحدّث عن بداية تعرّفه على فكر مالك فيقول: «تخرّجت من الأزهر في أواسط الخمسينات من هذا القرن الميلادي (يقصد القرن العشرين). فوقع في يدي كتاب(شروط النّهضة) لمالك بن نبي، فكانت المحطّة الكبرى في المسيرة الفكريّة. أوّل مرّة لم أفهم جيدًا ماذا يريد، ولكن أحسست بنموذج جديد للفهم والتّحليل، فقرأت وقرأت ودرست. بعد ذلك كنت أقرأ كلّ كتاب كان يصدر له بتأمّل حرفًا حرفًا سطرًا سطرًا، أجمع المتماثلات المبعثرة في كتبه من أماكنها، وأقرّبها للنّظر، ثمّ أبعدها وأتأمّل فيها. ربّما قرأت كتاب (الإفريقيّة الآسيويّة) أكثر من ثلاثين مرّة، وكنت أبدأ عند تدريسه بالفصل الخاصّ بالأفروآسيويّة والعالم الإسلامي، وأعظم ما أثر فيّ فكرة (القابليّة للاستعمار)»(11).
اقتبس جودت سعيد بعضَ أفكاره في سلسلة «سنن النّفس والمجتمع» من مالك بن نبي، وعرضها بلغته الخاصّة العاجزة عن تركيب المفاهيم في منظومة متّسقة منطقيًّا. أفكارُ جودت لم تنتظم نظريًّا خلافًا لأفكار بن نبي المصاغة في ضوء رؤية نظريّة. لغة جودت عجزت عن الارتقاء للغةِ بن نبيّ وسبكِه النّظري للأفكار، وتميّزه بموهبة صياغة المفاهيم وتركيبها بما يشبه المعادلات الرّياضيّة.‏ 
تكوينُ مالك بن نبي وطريقةُ تفكيره أعمق بكثير من جودت، يرى القارئُ معادلاتِ المهندس الكهربائي الخبير بالرّياضيات بوضوح في «مشكلات الحضارة»، وإن وقع فكرُ بن نبي أسيرًا لآماله وطموحاته الواسعة بسعة مواجع أهله وآلام وطنه، لذلك تستمع في كتاباته أصداءَ لوعة استعمار الجزائر وكفاحَ شعبها في حرب التّحرير. 
الهوامش
(1) سعيد، جودت، مذهب ابن آدم الأول: مشكلة العنف في العمل الإسلامي، ص 236، ط5، 1993، دار الفكر المعاصر، دمشق.
(2) سعيد، جودت، المصدر السابق، ص 233.
(3) «علم الأعصاب المعرفي هو مجال أكاديمي يهتم بدراسة العمليات الحيوية والمناحي المكونة للمعرفة، مع التركيز الخاص على الاتصالات العصبية للعمليات العقلية». ويكيبديا.
(4) سعيد، جودت، مذهب ابن آدم الأول: مشكلة العنف في العمل الإسلامي، ص 16.
(5) الرفاعي، عبد الجبار، الدين والكرامة الإنسانية، مركز دراسات فلسفة الدين ببغداد، ودار التنوير ببيروت.
(6) دوستويفسكي، الرسائل، رسالة إلى أخيه 16 آب 1839.
(7) الإخوة كارامازوف، دوستويفسكي، ترجمة: سامي الدروبي، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية 2015، الجزء الثاني، ص 167.
(8)عبده، محمد، الإسلام بين العلم والمدنية، ص76 ــ 77، دار المصري للثقافة والنشر، دمشق. 
(9) الرفاعي، عبدالجبار، الدين والكرامة الإنسانية، مركز دراسات فلسفة الدين ببغداد، ودار التنوير ببيروت.
(10) سعيد، جودت، مصدر سابق، ص 234.
(11) حوار مع جودت سعيد، مجلة قضايا إسلامية معاصرة، العدد 4، «1998».