همسة

بقلم
محمد المرنيسي‎
في انتظار التوقيع
 فوق الثّرى مدن وقرى، وهاد وربى، سهول فسيحة وذرى، جبال ومرتفعات، سفوح ومنحدرات، جداول ووديان وشعاب، خنادق وسهوب، كهوف ومغارات، طرق وممرّات، بساتين وأشجار، حدائق وأزهار وأنوار... تلك أرضنا وأرض من سبقنا ومن سيأتي بعدنا إلى ما شاء اللّه، منها نقتات، وفيها نموت، ومنها نبعث للحساب والجزاء، فإمّا إلى نعيم، وإمّا إلى جحيم، والعاقل من يختار الطّريق السّالك قبل أن يسقط في المهالك.
نحن في سوق فسيح لا تحده العين، تختلط فيه أصوات البشر بخوار البقر، وأحاديث العقلاء والحكماء برفث الفسّاق والسّفهاء، وعواء الذّئاب بنباح الكلاب، ونصائح الدّعاة بثرثرة الرّعاة.
الكلّ فيه يولدون ويتعلّمون ويعملون ويتكاثرون، وفيه يحيون ويموتون، وتحت هذا السّوق أسواق خلت لم يبق منها إلاّ عظام نخرة، كان أصحابها كمن فوقهم يضحكون ويمرحون، ويحزنون ويتألّمون، جمعوا وكنزوا من المال والمتاع ما قدروا عليه، ثم نزلوا إلى مساكنهم الجديدة مكرهين مجرّدين ممّا ملكوا، ولم يجدوا أمامهم غير ما قدّموا من خير أو شر، لا يقدرون على شيء، ويودّ المسيء لو أنّ له فرصة أخرى للعودة إلى السّوق ليتّجر فيما ينفع ولكن هيهات !
فيه يتحابّون ويتباغضون، يتصدّقون ويبخلون، فيه يتحالفون ويتقاتلون، فيه حفدة النّمرود وفرعون وهامان ونيرون وهتلر وعشّاقهم في الغرب والشّرق، يقتلون ويحرقون ويدمّرون ويغتصبون ويهدّدون من بقي بمصير من مضى وقضى، وليتهم اتعظوا بما صار إليه من اقتدوا بهم، وتدبّروا ما كتب التّاريخ عن هؤلاء وأولئك من مخازٍ ومآسٍ.
سوق فيه العبيد والأحرار، فيه الأبرار والفجار، فيه الأخيار والأشرار، فيه اللّصوص والبغاة والطّغاة والعصاة... فيه من الأخبار والأسرار ما شاع وانتشر، وما ضاع واندثر.
عالم لا يكلّ ولا يعيا أهله من الصّراع والعنف، ولا يرون فيه إلاّ فرصة للنّهب والنّصب والخطف، عالم يمجّد الشّياطين ويسخر من الملائكة، يرفع الأشرار ويصلب الأخيار، شعارهم:جفّف منابع الحقّ والعدل، واسق حدائق الأهواء، وعظّم الفسّاق والسّراق، للتّضييق على  الأصفياء والأولياء.
عالم مفتون بعقدة التّفوّق والتّميّز، والصّراع على أشده بين جيوش الباطل وعصابة الحقّ، ولم يعد للقيم الإنسانيّة حماة ومدافعون، وأصبحت المصالح والمنافع هي المرجعيّات الأساسيّة لأيّ مشروع فردي أو جماعي، الكلّ يتغيّر كما يتغيّرالمناخ، تفكّكت روابط الأسرة، وأهملت حقوق الجيران، وماتت النّجدة، ولا يشعر بمرارة هذا الواقع إلاّ من يملك نصيبا من الإيمان الحقّ الذي لا تؤثّر فيه الشّدائد والأزمات، ولا تغره المبشّرات والمكرمات.
عالم غارق في الوحل والدّجل والعلل التي لا مخرج منها ولا منجى إلاّ بالرجوع الى الحقّ وإقامة العدل بين النّاس، اعتمادا على رسالة الإسلام التي اختارها اللّه لعباده ورضيها لهم، ولن يجد المرء في حياته الرّاحة والسّكينة إلاّ بالاستجابة للّه ولرسوله في الأمر والنّهي والفعل والتّرك، واللّه خبير بما نسر وما نعلن، وإليه المرجع والمآب، فلا تغفل عن النّهاية التي لا نملك فيها اختيار الزّمان ولا المكان، وكلّنا ننتظر التّوقيع. 
خفّف من أثقالك في السّفر والحضر، واحمل ما ينفع، واحرص على ما يشفع، ولا تغتر، وابتغ فيما عندك ما عند ربك، لأنّك وما تملك من عطائه وفضله. 
عليك بربط اللّسان،  وحماية عرضك من كيد الشّيطان وجنوده من الذّئاب والغربان؛ لتنجو من عذاب الرّحمان، وإلاّ شهدا عليك وبؤت بالخسران.
راجع سيرتك، صحّح أخطاءك، أصلح بيتك وأهلك، تفقّد إخوانك وأصدقاءك وتجاوز عن هفواتهم وأحسن إليهم إن أساؤوا إليك، فليس هناك دواء للإساءة أفضل من الإحسان.
انشر الخير أينما كنت بمالك ولسانك وعملك، فإنّك لا تدري ما يؤثّر في النّاس على اختلاف مستوياتهم في الوعي والإدراك لمصالحهم في العاجلة والآجلة، 
كلّنا ننتظر التّوقيع، ولكن لا أحد يعلم متى وأين تحلّ المصيبة؟
كن على استعداد دائم للنّزول في محطتّك الأخيرة بسلام وأمان، فإن وفّقت لذلك فقد افلحت ونجوت، وإن أجّلت وسوّفت فقد أسرفت وعرضت نفسك للمهالك.فاغتنم السّاعة التي بين يديك،ولا تكسل،﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾(يوسف: 21).