تطوير الذات

بقلم
مبدأ الشرعية
 المقدمة
يمثّل مبدأ الشّرعيّة عصب الحياة القانونيّة والعمود الفقري لبناء النّظام القانوني للكيان (دولة، منظّمة، أسرة) كونه المعيار الوحيد الذي يمكن التّعويل عليه في التّفرقة بين الكيان القانوني المنظّم عن الكيان التّسلّطي العبثي، فضلاً عن كونه الأساس الذي ترتكز عليه، خاصّة إخضاع أعمال الإدارة ومختلف نشاطاتها للرّقابة الإداريّة(1) .
يمكن تعريف الشّرعيّة لغة بكونها مصدر صناعي يؤدّي نفس المعني الذي يؤدّيه مصدره القياسي «الشّروع»، وهي مشتّقة من جذرها اللّغوي الشّين والرّاء والعين، ومعناها كون الشّيء قائمًا على أساس شرعيّ، ونقيضه اللاّشرعيّة وهي حالة من الفوضى وغياب الشّرائع والنّظم والعهود.
كما يمكن تعريف الشّرعيّة قانونا بكونها، «خضوع كلّ من الحكّام والمحكومين للقانون بمعناه الواسع»، بمعني سيادة حكم القانون وخضوع جميع السّلطات الحاكمة في الدّولة لأحكامه(2). فالمقصود منه ضرورة احترام القواعد القانونيّة القائمة بأن تكون جميع تصرّفات السّلطات العامّة في الدّولة متّفقة وأحكام القانون بمدلوله العام، سواء كانت هذه السّلطات تشريعيّة أو قضائيّة أو تنفيذيّة(3).
هناك فرق لفظي بين عبارة الشّرعيّة والمشروعيّة، فالمشروعيّة تعني تمتّع السّلطة بمشروعيّة الحكم، وقد قسّم «ماكس ويبر» المشروعيّة إلى ثلاثة أصناف؛ مشروعيّة العقل (الانتخابات) والمشروعيّة التّقليديّة (القرابة في اللّغة الأنثروبولوجيا، أو العصبيّة في اللّغة الخلدونيّة) والمشروعيّة الكاريزميّة (مشروعيّة الزّعيم القائد)، وأمّا الشّرعيّة فتعني اكتساب الإطار القانوني لصيغة عمل معيّن سواء كان إداريّا، سياسيّا أو اقتصاديّا.
تعني الشّرعيّة سيادة حكم القانون، وهذه السّيادة لا يمكن أن تتحقّق إلاّ من خلال خضوع الحكّام والمحكومين لأحكام القانون، فضلاً عن امتثال كافّة السّلطات العامّة في الدّولة في كلّ ما تباشره من أنشطة وما تصدره من تصرّفات وما تجريه من أعمال لأحكام القانون(4).
يشكّل مبدأ الشّرعيّة الأساس لتنظيم الكيانات واستقرارها، سواء كانت دولًا أو منظّمات أو أسرا. في السّياق الدّولي، يضمن مبدأ الشّرعيّة القانونيّة والشّرعيّة للحكومة ويحدّ من التّمرّد والفوضى. في المنظّمات، يجعل الالتزام بالشّرعيّة قراراتها وأفعالها مقبولة وموثوقا بها. بالنّسبة للأسر، يساهم مبدأ الشّرعيّة في تعزيز الاستقرار والرّوابط العائليّة من خلال احترام حقوق الأفراد والالتزام بالقيم والأخلاقيّات. إذا تمّ احترام الشّرعيّة في هذه الكيانات، يمكن أن تزدهر وتنمو وتحافظ على التّوازن والعدالة في مختلف جوانب حياتها وأنشطتها. فكيف يمكن تأصيل مبدأ الشّرعيّة في الكيان أبستمولوجيّا؟
الجزء الأول: مبدأ الشرعية في ذاته
يمكن تقسيم الجزء الأول إلى عنصرين؛ أمّا الأول فسنتحدث فيه عن أساس المبدأ (العنصر الأول) وأما الثاني فسنتحدث فيه عن مبرّرات المبدأ (العنصر الثّاني)
العنصر الأول: أساس المبدأ 
يمثّل مبدأ الشّرعيّة مفهوما أساسيّا في مجموعة متنوّعة من السّياقات، إذ يستند عادة إلى مصادر محدّدة تتفاوت باختلاف الثّقافات والأنظمة القانونيّة. في السّياق الإسلامي مثلا، تأتي مفاهيم الشّرعيّة من القرآن الكريم والسّنّة النّبويّة. يعتقد المسلمون أنّ اللّه قد وضع مبادئ وتوجيهات دينيّة تحكم الحياة الإنسانيّة وتحدّد الشّرعيّة في الأفعال والقرارات.
أمّا في القانون الدّولي والعلاقات الدّوليّة، تستند مفاهيم الشّرعيّة إلى مبادئ مثل ميثاق الأمم المتحدة والقوانين والأعراف الدّولية. هنا، تعني الشّرعيّة أنّ الدّول والمنظمات الدّوليّة يجب أن تتحرّك وفقًا للقوانين المعترف بها دوليًّا وتلتزم بالمعايير الأخلاقيّة.
وفي السّياق الدّاخلي للدّولة، تعتمد الشّرعيّة على الدّستور والقوانين المحلّية. يجب أن يتمثّل القادة الحكوميّون والمؤسّسات في إطار القانون ويجب أن يكونوا مختارين أو معترفا بهم بشكل شرعي. تعكس هذه المصادر المختلفة تفاوت المفهوم والتّطبيقات لمبدأ الشرعيّة في مختلف الثّقافات والنّظم القانونيّة، ممّا يجعلها موضوع تحليل ونقاش دائم. ومن المهم أن يتمّ التّوازن بين الشّرعيّة وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعيّة لضمان استدامة المجتمعات والكيانات وتطويرها  بشكل عادل ومستدام.
العنصر الثّاني: مبرّرات المبدأ 
مبدأ الشّرعيّة هو أساس أساسي في العديد من النّظم القانونيّة والسّياسيّة حول العالم، ويعتبر مهمًّا للعديد من الأسباب:
أولًا، يضمن مبدأ الشّرعيّة الاستقرار والنّظام في المجتمع. عندما يكون هناك نظام قانوني معترف به ومحدّد لتنظيم السّلوك واتخاذ القرارات، يتمّ تجنّب الفوضى والتّمرّد. يمكن للمواطنين الاعتماد على هذا المبدأ لحماية حقوقهم ومصالحهم.
ثانيًا، يساعد مبدأ الشّرعيّة في تحقيق الشّرعيّة الحكوميّة. عندما تتماشى حكومة أو كيان مع الشّرعيّة، فإنّها تحظى بالدّعم والاعتراف من قبل مواطنيها والمجتمع الدّولي. هذا يقلّل من خطر الصّراعات والأزمات السّياسيّة.
ثالثًا، يعزّز مبدأ الشّرعيّة حقوق الإنسان. من خلال الالتزام بالشّرعيّة، يتمّ حماية حقوق الأفراد وتجنّب التّعديات عليها. يكمن في هذا المبدأ أيضًا حماية الحرّيات الأساسيّة وضمان تحقيق العدالة.
وأخيرًا، يساهم مبدأ الشّرعيّة في بناء الثّقة بين الأطراف المختلفة في السّياقات المختلفة. إذا تمّ احترام الشّرعيّة، يمكن تحقيق التّعاون والتّنمية المستدامة بين الدّول والمنظّمات والأفراد. باختصار، يعكس مبدأ الشّرعيّة توازنًا مهمًّا بين السّلطة والحقوق، وهو أساس لبناء مجتمعات عادلة ومستقرّة.
الجزء الثّاني: مبدأ الشّرعيّة في موضوعه
يمكن تقسيم الجزء الثّاني إلى عنصرين؛ الأول سنتحدث فيه عن نتائج المبدأ (العنصر الأول) والثاني عن حدود المبدأ (العنصر الثّاني)
العنصر الأول: نتائج المبدأ 
تمثّل نتائج مبدأ الشّرعيّة الإطار الذي يشكّل الأساس للحكم والتّنظيم في الحياة. على سبيل المثال، نأخذ الدّولة ككيان كلّي، عندما يتمّ التّمسّك بالشّرعيّة، يتحقّق الاستقرار والنّظام داخل الدّولة أو المنظّمة، ممّا يقلّل من احتماليّة وقوع الصّراعات والتّمرّد. هذا الامتثال للشّرعيّة يضمن أيضًا حكم القانون والعدالة، حيث يكون الجميع متساوين أمام القانون وملزمين بالامتثال له.
بالإضافة إلى ذلك، يعزّز مبدأ الشّرعيّة الثّقة بين الحكومة والمواطنين والمجتمع الدّولي. يعني ذلك أنّ الحكومات والكيانات المعترف بها بشرعيّة تحظى بدعم أوسع من قبل المواطنين والمجتمع الدّولي، ممّا يعزّز التّعاون والتّنمية المستدامة.
إنّ مبدأ الشّرعيّة يحمل معه نتائج مهمّة وإيجابيّة تؤثّر بشكل كبير على الأنظمة والمجتمعات. أحد أبرز هذه النّتائج هو تحقيق الاستقرار والسّلام الاجتماعي، حيث يسهم الالتزام بالشّرعيّة في تجنّب الصّراعات والاضطرابات التي قد تنشأ نتيجة للشّكوك في الشّرعيّة. بالإضافة إلى ذلك، يقوّي مبدأ الشّرعيّة حكم القانون، حيث يتطلّب من الجميع الامتثال للقوانين واللّوائح المعترف بها، ممّا يقلّل من حدوث الفساد ويزيد من التّعدّد والعدالة في المجتمع. كما يعزّز الامتثال لمبدأ الشّرعيّة شرعيّة الحكومة وتأييد المواطنين، ممّا يسهم في تحقيق استقرار الحكم وتفاهم أفضل بين الحكومة والشّعب. بالإضافة إلى ذلك، يعزّز مبدأ الشّرعيّة حقوق النّاس وكرامتهم وحريّاتهم، ويبني الثّقة والتّعاون بين الأطراف المختلفة في العلاقات الدّوليّة والمحلّية، ويساهم أيضًا في منع النّزاعات والأزمات التي يمكن أن تنشأ عندما يتعارض المصداق فيما يتعلّق بالشّرعيّة.
بشكل عام، نتائج مبدأ الشّرعيّة تشمل الاستقرار والحكم العادل وحماية حقوق الإنسان، وهي أسس أساسيّة لبناء مجتمعات مزدهرة ومستدامة.
العنصر الثّاني: حدود المبدأ 
مبدأ الشّرعيّة هو مفهوم أساسي في مجالات متعددة، ومع ذلك، هناك حدود لتطبيقه ومدى صلاحيته في بعض السياقات. يجب مراعاة أن مفهوم الشرعية يعتمد على المصادر والقيم الثقافية والدينية في كل مجتمع، وبالتالي، قد يختل التّفسير والتطبيق من مكان لآخر.
على سبيل المثال، في بعض الثّقافات والأنظمة القانونيّة، يمكن أن يكون لمفهوم الشّرعيّة تفسيرات محددة قد لا تنطبق على ثقافات أخرى. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تتعارض مفاهيم الشّرعيّة في بعض الأحيان مع المعايير الدّوليّة لحقوق الإنسان، ممّا يثير تساؤلات حول مدى جواز تطبيقها في بعض السّياقات الدّوليّة. علاوة على ذلك، يجب أن يتمّ التّفكير بعناية في توازن بين مبدأ الشّرعيّة والضّرورة العامّة للمجتمع، حيث يمكن أن تؤدّي تفسيرات ضيّقة للشّرعيّة إلى تجاوز حقوق الأفراد أو تجاهل مصالح المجتمع.
في الختام، يمثل مفهوم الشّرعيّة له حدوده ويجب مراعاتها بعناية، ويتعيّن على المجتمعات والكيانات التّفكير في كيفيّة تطبيق هذا المبدأ بشكل مناسب وعادل في سياقاتها المحدّدة. كما يظلّ مبدأ الشّرعيّة أساسيّا لتحقيق الاستقرار والعدالة في الحياة السّياسيّة بصفة عامّة بما هي تدبير أمر الكيان في أبعاده الأربع المختلفة. إلاّ أنّه يجب أيضًا أن نفهم حدوده وتعقيده، وضرورة توازنه مع القيم. من خلال توجيه الجهود نحو تحقيق هذا التّوازن، يمكننا بناء كيانات أكثر عدالة وسلامًا، حيث يمكن للشّرعيّة والحقوق الإنسانيّة أن تزهر جنبًا إلى جنب.
الهوامش
(1)  د. داوود الباز – القضاء الإداري – صفحة 7، د. محمد عبده إمام – القضاء الإداري – صفحة 9.
(2) د. محمود حافظ، القضاء الإداري، ط.7، ص 19، د. سليمان الطماوي – النظرية العامة للقرارات الإدارية- ط.4 ،1976 ص 14، 
(3) د. رمزي الشاعر – تدرج البطلان في القرارات الإدارية – طبعة 1997 – صفحة 261
(4)  د. سليمان الطماوي – القضاء الإداري – الكتاب الأول – طبعة 1986 – صفحة 21