الدولة في الحديث النبوي

بقلم
الهادي بريك
كيف السبيل إلى دولة الإسلام في زماننا؟
 قبل الخلوص إلى حصائل هذا الموضوع المعاصر الملحّ (دولة الإسلام) إستجماعا لما أنف منها في الحلقات الإحدى عشرة المنصرمة، لا مناص لنا من معالجة هذا السّؤال العمليّ أن تكون المقاربة نظريّة فحسب. هو سؤال ذو شقّين : أوّلهما أنّى السّبيل إلى إعادة تأسيس دولة الإسلام؟، وهو يستبطن كذلك سؤالا جانبيا مهمّا وهو هل أخفقت فعلا كلّ المناهج التّغييريّة الإصلاحيّة التي حبّر بها المنظّرون والمفكّرون ما حبّروا؟ الشّقّ الثّاني هو ما هي رسالة تلك الدّولة : تطبيق الشّريعة الإسلاميّة كما لا يكفّ قلم واحد عن ذلك ولا لسان، أم هي رسالة تحريريّة كما ينضح بذلك الخطاب الإسلاميّ الذي يصف نفسه بالعقلانيّة ويوصف بالحكمة؟ 
هل أخفقت كلّ المناهج الإصلاحيّة لإعادة إستئناف الحياة الإسلاميّة؟
ممّا كنّا ندرسه في محاضننا الفكريّة والتّربويّة في بداية ثمانينات القرن الميلاديّ المنصرم ـ وكنّا عليه عكوفا معبّئين ـ أيّ المناهج التّغييريّة الممكنة عقلا وواقعا لأجل إعادة إستئناف الحياة الإسلاميّة تحت سقف دولة إسلاميّة. كانت البدائل الممكنة عقلا كثيرة أبرزها : 
- البديل الإنقلابيّ العسكريّ، على غرار ما فعل القوميّون في أكثر من بلاد عربية. 
- البديل الثّوريّ الشّعبيّ على غرار (ثورة) إيران التي كنّا بها في تلك الأيّام مفعمين منفعلين بغفلة كبيرة عن محمولاتها الطّائفية. 
- البديل الدّيمقراطيّ الذي كنّا مشدودين إليه وفي الآن نفسه مستبعدين لإمكان قيامه كلّ إستبعاد. 
وبالتّوازي مع ذلك كانت بعض البدائل مطروحة، عدا أنّ بعض الغموض يكتنفها، وعلى رأسها ما يمكن أن نسمّيه البديل الإخوانيّ، وعنوانه مباشرة الإصلاح المتدرّج بدء من جذر الشّجرة حتّى أعلاها، أي إصلاح الفرد الذي به تنصلح الأسرة ثمّ ينصلح المجتمع نفسه في إثر ذلك، وبعد ذلك تنصلح الحكومة نفسها. وهنا موضع الفراغ والغموض، أي المسافة الفاصلة بين انصلاح المجتمع وانصلاح الحكومة.
معلوم أنّ مردّ كلّ ذلك وبإطلاق هو أنّ كلّ تلك التّجارب التي تقدّم نفسها بديلا كانت تحبو على شطآن التّغيير والإصلاح وخاصّة في آفاقه العامّة وبصفة أخصّ في أبعاده السّياسيّة. ومن ذا جاءت كلّ تلك البدائل تقريبا نظريّة تعكس ما يحبّ أصحابها ويهوون، وليس ما هو ممكن. 
كما تجدر الإشارة هنا إلى بديل آخر يسمّي نفسه المباشرة الفعليّة للإصلاح في حقول مجتمعيّة غير سياسيّة ولا حزبيّة. بعض هؤلاء يوهم نفسه أنّه إذا انصلح هذا الحقل أو ذاك فإنّ الإصلاح السياسيّ قادم لا محالة. وبعضهم يعلم أنّ ذلك حلم جميل. وإذ لا سبيل إلى إصلاح سياسيّ بحقّ فإنّهم لا يلزمون السّلبيّة العدميّة، بل يفعلون الخير قدر الإمكان في المساحات التي لا تقضّ مضاجع الدّولة والمهيمنين على دواليبها. 
اليوم وبعد أيلولة ثورات الرّبيع العربيّ إلى ما يشبه الجمود أو التّعويق أو التّأجيل إلى آجال أخرى فإنّ السّؤال لدى كثيرين هو : ها قد جرّبت كلّ البدائل الممكنة عقلا (من الإنقلاب العسكريّ حتّى برداء إسلاميّ كما وقع في السّودان، حتّى الثّورة التي أطاحت برأس الدّولة في أكثر من تجربة، مرورا بتجارب ديمقراطيّة سواء من خارج الدّولة العميقة الأولى ـ تونس مثلا بعد الثّورة ـ أو من داخل تلك الدّولة نفسها في أكثر من بلاد عربية، وحتّى مع إعتبار الخيار الإخوانيّ الذي صاغه المؤسّس الأوّل وقد أنفت الإشارة إليه على غموضه وكذلك الخيار المجتمعيّ الذي كان يظنّ أهله أنّ انصلاح البنى التّحتيّة المجتمعيّة كفيلة بانصلاح الدّولة) ولكنّ الدّولة العربية ـ دون الدّولة غير العربيّة في المحيط الإسلاميّ التي سجّلت تجاربها إختلافات معتبرة ـ ظلّت هي هي، متأبّية عن الانصلاح، وقادرة كلّ قدرة وبأعاجيب عجيبة على إستعادة أنفاسها وقيادة ثورة مضادّة عصفت بكلّ شيء. 
السّؤال هو : أيّ بديل وأيّ خيار وكيف العمل؟ هل نتأخّر عمّا انتدبت لها نفسها أجيال في إثر أجيال؟ هل ننخرط في صفوف الإستذلال والهوان ونعيش ـ وليس نحيا ـ دوابّا أليفة تشكر رازقيها بحركة ذنب ذات دلالة. كلّ الخيارات الإصلاحيّة جرّبت، ماذا بعد؟ ولكن مازال ممّن يخوض معركة ضارية مع نفسه ومع النّاس أنّ الخيار الثّوريّ ـ على غرار ثورات الرّبيع العربيّ ـ لم توأد بالكلّية، وأنّ تعويقها وتجميدها ممكن، وقد تحدّث به التّاريخ. ولكنّ الثّورة الشّعبيّة لا تموت حتّى لو لزمت غرفة الإنعاش لعقود طويلات. وممّا بعث حياة جديدة في هذا التّفكير (طوفان الأقصى). ولا أرب لنا الآن في محاكمة كلّ ذلك أو ضرورة التّمييز بين مقاومة عدوّ محتلّ للأرض إحتلالا عسكريّا إستيطانيّا وبين مقاومة مستبدّ محليّ إستبدادا سياسيّا. 
ما يمكن أن يكون خلاصة مشتركة بين كلّ المقاومين اليوم هو أنّ الخيار الدّيمقراطيّ سواء من داخل الدّولة العميقة أو من خارجها هو خيار محكوم بسقوف دوليّة صارمة ومحروس بشروط هي حمى الملك التي لا يطؤها واطىء حتّى يحرق بالنّار. الخيار الدّيمقراطيّ خيار هشّ ولا يصمد من دون حرس وعسس وثكنة شعبيّة يقظة أو دولة حقيقيّة، وليس وهميّة، ذات مؤسّسات دستوريّة عليا حقيقيّة وليس وهميّة. دولة مستقلّة عن الفلك الدّوليّ، وليس تابعة أو قابلة للتّبعيّة. الثّكنات العربية بعد تجارب قوميّة هدّد بعضها المنتظم الدّوليّ النّافذ ولو نسبيّا (التّجربة النّاصرية خاصّة) في قبضة ذلك المنتظم الحاكم. الفكرة مهما كانت صحيحة وشفاء لما يرزح تحته النّاس من صنوف من القهر لا يمكن أن تثمر إصلاحا سياسيّا يجعل الدّولة في خدمة المجتمع، حتّى لو كانت فكرة إسلاميّة قحّة. 
الفكرة تؤمّن البديل الثّقافيّ فحسب أو الإتّجاه الحضاريّ، ولكنّها مثل الدّيمقراطيّة عارية الظّهر : جميلة مرغوبة. ولكنّها أمل فحسب. لك أن تقول أنّ البديل الثّوريّ مازال قيد التّجربة وأنّ حداثة ميلاده لا تسمح بالحكم له أو عليه. هذا صحيح، إلاّ أن يكون ذرّا من بعضهم لبذور أمل زائفة رغم حاجة المقاومين إلى الأمل حاجتهم إلى النّفس الذي به تكون الحياة. 
ما العمل إذن؟
هذه مقاربتي : لا مناص من سلوك مسار ذي خطّين متوازيين (خطّ يقوم على مواصلة الإصلاح المجتمعيّ المنهمك خاصّة في تعميق الوعي بحيويّة الإصلاح السياسيّ وضرورة المقاومة وغير ذلك من القيم التي تشيّد بطانة فكريّة صحيحة لكلّ مقاومة سياسيّة قابلة. وهو خطّ ممكن وميسور بسبب أنّ الدّولة التّابعة القاهرة لا يمكن لها إحصاء خطواته مهما فعلت. وهو يتّخذ ما لا يحصى من الوسائل ذات الطّبيعة غير الحزبيّة، وكلّ ما هو غير حزبيّ مباشر عادة ما لا تقاومه الدّولة المستبدّة بمثابرة وعنف. وخطّ آخر يوازيه كلّ موازاة ويقوم على مواصلة المقاومة السّياسيّة بشكل حزبيّ ومستقل وبكلّ شكل ممكن، وكذلك بمحاولات التّسلّل إلى العمق الحكوميّ نفسه في تلك الدّولة واختراق الدّولة العميقة وبكلّ الأشكال الممكنة. إذ الدّولة العميقة سرطان خبيث ككلّ سرطان لا مناص من رصد كلّ منابته أنّى وجدت. 
وظيفة الخطّ الأوّل هو توفير التّيار الشّعبيّ العريض الموالي لقيم الوعي التّحريريّ المطلوب، ووظيفة الخطّ الثّاني هو توظيف فعاليّات ذلك التّيار واستثمار مؤهّلاته. ممّا يقوّي حظوظ هذا المسار عوامل كثيرة منها : فقرة الرّبيع العربيّ المنصرم وثورة المواصلات التي هدّمت كلّ الحدود وجنوح النّاس عامّة إلى التّحرّر والانعتاق ونشوء حركات وعي وتثاقف واسعة ومنها الحركات الحقوقيّة وصمود كثير من قيادات المقاومة السّياسيّة ورموزها وبروز الإسلام في العقود الأخيرة بديلا تحرّريّا وسياسيّا يؤمّن العدالة والسّيادة. وليس مادّة تخديريّة قاتلة. 
بخلاصة : طرق كلّ الأبواب وعدم تحقير أيّ منها بما فيها مؤدّب ضرير يعلّم بعض الأطفال الفقراء القرآن الكريم في كوخ لا يرضى به الكلب مأوى. أسّ هذه المقاربة هو : الدّولة العربيّة دولة مغتصبة من لدن المنتظم الدّوليّ النّافذ اغتصابا شنيعا مازلنا لا نعلم شيئا كثيرا عن تفاصيله وتوافقاته السّريّة. هي دولة تابعة كلّ تبعيّة لذلك المنتظم (الحلفاء المنتصرون أساسا في 1945) وليس الاستقلال عدا أكذوبة سمجة استبدّ بنا الطّرب بها عقودا. وهي دولة تمرّست كثيرا داخليّا على شؤون الإدارة والتّصرف وسوس النّاس ترغيبا وترهيبا. ومن ذا أضحت وجودا عميقا صحيحا قويّا وفاعلا وراسخا لا يمكن اقتلاعه إلاّ من بعد مقاومات وتضحيات لعقود طويلات، بل ربّما لقرون. ولا يصبر على لأواء تلك المقاومات وعذاباتها منّا إلاّ قليل من قليل من قليل، والسّاقطون منّا أكثر من الصّامدين بكثير. 
نحن جميعا وبكلّ ألواننا الإيديولوجيّة مبتدئون وهواة، ولسنا محترفين. وكلّ مقاومة لأيّ دولة مستبدّة في أيّ بقعة من الأرض هي مقاومة ضدّ الدّول النّافذة المعربدة التي نجحت في غرس الخنجر الإسرائيليّ المسموم في أمّ فؤادنا وسويداء قلبنا، وهو معولها الذي به ترغّب وترهّب. 
المجتمعات متعلّقة ببعض القيم الصّحيحة. ولكن طال عليها الأمد وإهترأت بفعل القصف الفكريّ الطّويل. رأسمالها القيميّ غير جاهز الآن لاستخدامه سلاحا في المقاومة. النّخب في أكثرها وبغضّ النّظر عن ألوانها تقلّ في الضّراء وحين البأس، وتكثر في السّراء والنّعيم. واقع شديد الفساد والسّوء على كلّ المستويات الشّعبيّة والنّخبويّة والرّسميّة والدّوليّة. ولكن لا مناص من المقاومة التي لا تفوّت في أيّ حقل مهما دقّ أو صغر مجتمعيّا وسياسيّا، لأنّ ترك المقاومة كفيل بقهر أكبر واسترقاق أشنع. لسنا نحن من سيقطف ثمرة واحدة من ثمرات تلك المقاومة، ولكن سيذكر التّاريخ ذلك كما يذكر لنا هو نفسه اليوم مآثر صلاح الدّين الأيوّبيّ وغيره. 
أيّة رسالة لدولة الإسلام؟
كنّا في بداية الثّمانينات عاكفين على سؤال البديل الثّقافيّ عكوفا عجيبا لا يعكس سوى ضمور وعينا. كنّا نظنّ أوّلا أنّنا على مرمى حجر من تشييد دولة الإسلام. ثمّ بدا لنا من بعد تجارب كثيرة أنّنا كلّما اقتربنا ابتعدنا. كان وعينا بتضاريس المنتظم الدّوليّ النّافذ وعيا تعيسا بئيسا. كنّا في هذا المستوى بصفة خاصّة أطفالا نلهو، ولا يعبأ حتّى للهونا الكبار الذين يمسكون بمقاليد الحكم. كنّا نظنّ أنّ البديل أطنانا من الأسفار محبّرة، ثمّ تبيّن لنا أنّ البديل الذي لم نكن نفكّر فيه البتّة هو القوّة التي تجعلك تستخلص الدّولة أو تؤثّر فيها على الأقلّ تأثيرا معتبرا. ثمّ تجعلك تلك القوّة نفسها تدير تلك الدّولة بقيمك وتعالج مشكلاتها بقيمك. ثمّ تحول تلك القوّة نفسها دونك ودون من يريد إجهاض تجربتك.
ما هي تلك القوّة؟ هي قوّة متعدّدة متنوّعة، منها القوّة الإجتماعيّة ومنها القوّة الفكريّة ومنها القوّة الماليّة ومنها القوّة الإقليميّة التي تعترف بك أو تكفّ عنك شرّها ومنها القوّة الدّوليّة التي تفعل معك بمثل ذلك، فلا تقرّر محوك وشطبك. ذلك هو البديل الذي لم نكن نفكّر فيه ولا نحسب له حسابا. ثمّ جاءت بدعة تطبيق الشّريعة بصعود التّيار السّلفيّ الذي أنشأته بعض الدّول الخليجية زعما أنّ كلّ شيء جاهز، فلا ينتظر عدا تطبيق شريعة. والحقّ أنّ من يظنّ أنّ الشّريعة نفسها جاهزة للتّطبيق في أوّل يوم يتسلّم فيها أصحابها الحكم هو الوهم الفاسد نفسه. وعينا نحن بفضل اللّه بعد وقت قصير أنّ عنوان تطبيق الشّريعة لا يعني سوى تنزيل ما قدّمته تلك الشّريعة نفسها كلّ تقديم قولا وعملا، أي تأمين الحرّيات والكرامات والحرمات والحقوق. وهو ما يفضي إلى تأمين العدالة الإجتماعيّة والمساواة في تكافؤ الفرص الإقتصاديّة. وأنّ ذلك يفضي إلى الوحدة الوطنيّة والسّلم الإجتماعيّ وتوقان المجتمع إلى التّكافل وليس التّغاصب والتّعاون وليس التمزّق، ثمّ يؤول الأمر إلى نوع من السّيادة مع الأيّام. وعينا أنّ المجتمعات مسلمة مؤمنة، وليست هي للفتح من جديد رغم أنّ القيم بحاجة شديدة إلى إحياء وبعث وتجديد وشحذ وتوظيف لخدمة مشروع التّحرير والعدالة والسّيادة والصّف الواحد حتّى وهو شديد التنوّع. 
بخلاصة واحدة : وعينا بقوّة أنّ السّبيل الوحيد في ظلّ واقعنا إلى سيادة الإسلام شريعة في كلّ الحقول هو سبيل الحرّيات والحرمات والكرامات والدّيمقراطيّة، بمعناها الإجرائيّ التّجزيئيّ، لا الفلسفيّ. ومازال هذا الوعي مبثوثا ومؤهّلا لعمارة العقول رغم منافسات شديدة بسبب بؤس الوعي الشّعبيّ العامّ. 
أيّ جواب إذن عن سؤالنا (أيّ رسالة : تطبيق الشّريعة أم تأمين الحرّيات) : الجواب هو أنّ الأمرين يتكاملان وليسا في حالة خصومة، ولكنّ الأولويّة المطلقة هي لاجتراح كلّ مسالك التّحرّر وبقدر اندياح هذه في النّاس وخاصّة في النّخب المؤثّرة تتحرّر البلاد من ربقة التّأثيرات الدّوليّة ولكنّه مسار لعقود وقرون. فإذا حقّق مسار التّحرير أشواطا كافية فإنّ لأهله فحسب ـ وهم أجيال يأتون بعدنا بعقود وقرون ـ أن يقرّروا أيّ شريعة يختارون. ولأنّهم مسلمون فإنّهم لا يبغون عن شريعة الإسلام حولا، قطعا مقطوعا لا جدال فيه. 
كلمة الشّريعة مخيفة وظلالها سوداء حتّى عند كثير منّا، فكيف بغيرنا؟ رسالتنا هي:تقديم الشّريعة للنّاس كلّهم أنّها أفضل بديل تحريريّ يؤمّن العدالة والكرامة والصفّ الواحد المتنوّع والسّيادة والإستقلال والأمن والقوّة وإمكانات الإصلاح. عندما ننجح في هذه الرّسالة التّوعويّة قولا وعملا قدر الإمكان في كلّ مستوى مجتمعيّ وحكوميّ نكون قد عبرنا شوطا مهمّا، وما بقي تتوّلاه أجيال قابلة. 
خلاصة عامّة مركّزة
دولة الإسلام دولة ديمقراطيّة إجتماعيّة إصلاحيّة. تؤمّن صفّا واحدا ولكنّه متنوّع بالضّرورة دينا وملّة ومذهبا وتفكيرا. كما تؤمّن السّيادة للمجتمع على أرضه ومقدّراته، وهي دولة مقاومة دائمة تعالج كلّ تحدّ بسلاحه الأنسب. دولة ليس فيها من المشكلات الغربيّة من مثل الصّراع بين الرّجل والمرأة أو بين الدّين والعلم أو بين التّراث والحاضر، إذ تقوم العلاقة فيها على أسّ المواطنة فحسب، ولا شيء غير المواطنة. ولكنّ الموالاة والطّاعة لتلك الدّولة نفسها مشروطة بحصول أمرين إثنين لا تنازل عنهما، هما: الشّرعيّة الشّعبيّة التي تجعل من الدّولة خادمة للنّاس بأجر محدّد ولمدّة محدّدة، وليس صكّا أبيض يحرّر فيه صاحب الدّولة ما يشاء. والمشروعيّة وهي تحكيم قيم الإسلام بحسب تراتبيتها في الشّريعة ذاتها وبحسب علويتها ومركزيتها وكما أنزلها صاحب الرّسالة نفسه، أي محمّد عليه الصّلاة والسّلام. وهي دون ريب قيمة التّحرير والتّكريم أوّلا، ثمّ قيمة العدالة ثانيا، ثمّ قيمة الصفّ الواحد مع ضمان حقّ التنوّع حتّى دينا ثالثا، ثمّ قيمة السّيادة الوطنيّة ومقاومة كّل معتد بغضّ النّظر عن قربه منّا أو بعده عنّا. ولا طاعة لأيّ دولة تسربلت بدثار الإسلام أو تطبيق الشّريعة أو إمارة المؤمنين أو النّسب القرشيّ ما لم تكن حائزة على ذينك الشّرطين (الشّرعية الشّعبيّة والمشروعيّة المضمونيّة لرسالتها). 
وليس تاريخنا الذي إضطرّ لتقديم المشروعيّة على الشّرعيّة بملزم لنا البتّة. إن هو إلاّ إجتهاد متلبّس بملابساته. ومن ذا يكون الخروج على تلك الدّولة مقاومة سلميّة بالأصل الأوّل واجبا موجوبا على كلّ مواطن بغضّ النّظر عن دينه، ولكنّه على المواطن المسلم أشدّ فرضية. ولا شيء يمنع شرعا إستخدام القوّة العسكريّة أو الأمنيّة أو المادّية لإسقاط تلك الدّولة العارية من الشّرعيّة أو المشروعيّة أو منهما معا ما قدّر المقاومون الجادّون أنّ ذلك كيّا بنار لا مناص منه، وأنّه لا يثمر فتنة مثل فتنة القهر أو أكبر منها. وليس هناك في الحياة فتنة أشدّ من فتنة القهر وإسترقاق الإنسان الذي خلقه خالقه حرّا كطيف النّسيم. 
آخر كلمة في هذه الخلاصة وهذه السّلسلة هي : في الوحي الكريم من الأسّ النّظريّة ومن المقترفات العمليّة (السّيرة النّبوية وسيرة الخلفاء الرّاشدين الأربعة خاصّة) ما يكفي لاجتراح مشروع راشد لدولة إسلاميّة صحيحة، سواء من حيث الطّريق إليها أو من حيث معالجتها في السّراء أو البأس أو من حيث إدارتها وسوسها. ولكنّ هذا لا يمنع البتّة من الإفادة من علوم ومعارف غربيّة وشرقيّة وتجارب هنا وهناك. الدّولة في الإسلام محلول مركّب من الدّين والعقل معا دون خصام. والله أعلم.