دراسات

بقلم
آمنة مدوخي
العمل الميداني وقاية الانقطاع عن التعليم وإكسير التعلم
 مقدمة:
الإصلاح التّربوي مجال بحث يشدّ اهتمام العالم أجمع لما لهذا المجال من أهمّية بالغة على المستوى الوطني وعلى المستوى الفردي، وإذا ما أردنا أن ننهض بأمّة ما وننمّيها في شتّى المجالات سواء اجتماعيّا أو اقتصاديّا أو صحيّا أو حتّى سياسيّا وعسكريّا، فعلينا بسلاح التّعلّم والتّعليم والتّربية، هذا المجال هو قطب الرّحى تدور حوله كلّ المجالات، بازدهاره تزدهر وبانتكاسه تنتكس. ولا يخفى علينا ما تبذله دول العالم المتقدّمة وحتّى النّامية من جهد في سبيل إصلاح هذا المجال واثماره.
وإذا ما تحدثنا عن الإصلاح، فهو معلوم عكس الإفساد، ولهذا المصطلح حضور كبير في ديننا الحنيف حيث يقول تعالى في كتابه الكريم ﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا﴾(الأعراف: 56). كما يقول: ﴿وَإِن تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ﴾ (النساء: 129). كما قال أيضا عن نبيّه شعيب: ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ (هود: 88).
فالإصلاح إذا مطلوب وهو التّعديل والتّصحيح والصّقل وصولا الى الصّورة المرجوّة أو الصّورة المثلى. وإذا ما ارتبط هذا المصطلح بالمجال التّربوي التّعليمي فإنّ الحاجة إليه تصبح ضرورة حتميّة ولا سيّما في تونس. وقد مرّ الإصلاح التّربوي في تونس بمحطّات عديدة خاض فيها أساتذتنا الكرام، ونحاول نحن هنا أن نسلّط الضّوء على مواطن الخلل التي يجب أن تدخل تحت جبّة الإصلاح وتحت يد الصّقل والتّجويد، لتبعث من جديد على أنّها مواطن قوّة وتميّز.                      
ومن الخطأ قولبة التّعليم الوطني على قوالب غربيّة جاهزة، حتّى وإن نجحت في مجتمعات ودول أخرى فليس بالضّرورة أن تُؤتي أكلها في تونس، فلكلّ وطن خصوصيّاته الاجتماعيّة وجغرافيّته المعرفيّة والعرفيّة والعقائديّة. 
وممّا يجب أن يؤخذ بيد الإصلاح والصّقل والتّجديد مستوى حرفيّة الباثّ (المعلّم)، فما شاهدناه في الآونة الأخيرة هو غياب الحرفيّة والتّخصّص الدّقيق للمربّي وللمعلم سواء في حقل التّعليم الابتدائي أو الثّانوي أو حتّى التّعليم العالي. 
ومن النّقاط الأخرى التي لا بدّ من الاشتغال عليها في الإصلاح التّربوي ترسيخَ التّعليم المستمر طويل المدى في عقليّة طالب العلم، فلا يجب أن نتعامل مع التّعليم على أنّه مجرّد تأشيرة للعبور إلى شهادة التّخرّج، وبعدها يصطدم الطّالب بسوق شغل لا تجزئ فيها شهادته العلميّة. ومن النّقاط المهمّة جدّا في الإصلاح التّربوي أيضا الرّبط بين البحث العلمي والعمل الميداني، وهو موضوع هذا المقال.
الفرع الأول: تعريف مصطلح البحث العلمي
أوّلا: البحث لغة: «بَحَثَ موضوعه بحثا دقيقا: رسمه وعرف دقائقه وحقائقه، الجمع بحوث وأبحاث، والبحث بذل الجهد في موضوع ما وجمع المسائل التي تتّصل به(1).  والبحث «أن تسأل عن شيء وتستخبر...اسْتَبحَثْتُ وابْتَحَثْتُ وتَبَحّْثتُ عن الشّيء، بمعنى واحد أي فتّشت عنه(2). فالبحث في اللّغة «بمعنى الكشف والتّفتيش عن الشّيء، بحثت عن الشّيء أبحث بحثا، إذا كشفت عنه، وكأن (بحث) أصل ذلك ابتحاثك التّراب عن الشّيء المدفون فيه...وكلّ شيء بحثت عنه فقد كشفت عنه»(3)   
وما نخلص إليه أنّ البحث خطّة أو دراسة محكمة منظّمة بهدف الوصول إلى حقائق في ميدان ما.
ثانيا: العلم لغة: جذر كلمة العلم هو عَلِمَ يَعْلَمُ وهي عكس الجهل وفي المعجم الوسيط كلمة العلم تعني «إدراك الشّيء بحقيقته وتعني اليقين، وقيل: العلم يقال لإدراك الكلّي والمركب» (4). 
والعلم اصطلاحا: نشاط إنساني يهدف إلى فهم الظّواهر المختلفة من خلال إيجاد العلاقات والقوانين التي تحكم هذه الظّواهر، والتّنبؤ بالظّواهر والأحداث، وإيجاد الطّرق المناسبة لضبطها والتّحكّم بها» (5). 
والعلمي نسبة إلى العلم، والعلم لغة : «بمعنى المعرفة (عَلِمَهُ عِلْمًا) عرّفه» (6). 
أما فيما يخصّ تعاريف البحث العلمي فهي عديدة لعلّنا نحصرها فيما يلي: «هو عمليّة فكريّة منظّمة يقوم بها شخص يسمّى الباحث من أجل تقصّي الحقائق المتعلّقة بمسألة أو مشكلة معيّنة تسمّى موضوع البحث، باتباع طريقة علميّة منظّمة تسمّى منهج البحث، وذلك للوصول إلى حلول ملائمة لمشكلة أو لنتائج البحث»(7). وهو«محاولة صادقة لاكتشاف الحقيقة بطريقة منهجيّة، وعرضها بعد تقصّ دقيق ونقد عميق، عرضا ينمّ عن ذكاء وفهم، حتّى يستطيع الباحث أن يقدّم للمعرفة لبنة جديدة ويسهم في تقدّم الإنسانيّة»(8). 
وجاء تعريفه في قاموس أكسفورد لعام 1974 بأنّه : « ذلك الفرع من الدّراسة، الذي يتعلّق بجسد مترابط من الحقائق الثّابتة المصنّفة، والتي تحكمها قوانين عامّة، تستخدم طرقا ومناهج موثوقا بها لاكتشاف الحقائق الجديدة في نطاق الدّراسة»(9). 
و«هو وسيلة للاستعلام والاستقصاء المنظّم والدّقيق، الذي يقوم به الباحث، بغرض اكتشاف معلومات أو علاقات جديدة، بالإضافة إلى تطوير أو تصحيح أو تحقيق المعلومات الموجودة فعلا، على أن يتبع في هذا الفحص والاستعلام الدّقيق، خطوات المنهج العلمي»(10).   
وما يمكن أن نخلص إليـه: أنّ البحث العلمي هو البحث المنظّم الدّقيق باستخدام مناهج وأساليب للحصول على حلول وإجابات شافية لمشكلة أو قضيّة ما، وصولا إلى اختراعات ومعرفة جديدة أو زيادة على معرفة معلومة.                                                                                                    
الفرع الثاني: خصائص البحث العلمي                                                                                                                                    
للبحث العلمي خصائص وسمات تميّزه عن باقي النّشاطات وهي متعدّدة ومتفرّعة، لعلّنا نختصرها فيما يلي:                                                                                                 
1 - تراكم المعرفة: 
والمقصود بذلك أنّ المعرفة تبنى على معارف وعلوم سابقة لحضارات إنسانيّة مختلفة، فيستفيد الباحث ممّا سبقه، فيوسع مجال بحثه بداية ممّا انتهى إليه من سبقه، إذا فالتّراكميّة في البحث العلمي هي وضع لبنات علميّة جديدة على لبنات قديمة.                                                                                                         
2 – اليقين: 
ويقصد به الاستناد على أدلة وبراهين مقنعة، «فالحقيقة العلميّة هي حقيقة نسبيّة، تتبدّل وتتغيّر أثناء تطوّرها، لكنّها حقيقة موثوقة»(11).  إذا المعرفة العلميّة لا تكون إلاّ موثوقة متيقّنا منها، أي أنّ صاحبها تيقّن منها، فأصبح يستطيع إثباتها بأدلّة وأسانيد لا تحمل الشّك.              
3 – الموضوعيّة: 
على الباحث أن يكون حياديّا غير متحيّز في بحثه العلمي، متجرّدا من الأحكام المسبقة ومن خلفياته الأيديولوجيّة، تاركا أراءه وميولاته الشّخصيّة، إذا فخاصّية الموضوعيّة ركن أساسي في البحث العلمي تزيد من قوّته ومن مصداقيته.                                                           
4 – التّنظيم: 
إنّ التّطوّر العلمي يقتضي أن تكون المعرفة منظّمة وخاضعة لأسس منهجيّة، ولا يكون البحث بحثا علميّا إلاّ إذا ارتكز على تفكير منظّم وحقائق علميّة متكاملة وغير مبعثرة. «إذا فالعلم معرفة منهجيّة تبدأ بالملاحظة ووضع الفروض واختبارها بواسطة التّجريب، ثمّ الوصول إلى النّتائج»(12).                                          
5 - السببيّة: 
«يعرف السّبب بأنّه مجموع العوامل أو الشّروط وكلّ أنواع الظّروف التي متى تحقّقت ترتّبت عنها نتيجة مطردة، ونستطيع القول بوجود علاقة سببيّة بين متغيرين: سبب (علة) ونتيجة (معلول)، عندما نجري تجارب عديدة وبنفس الهدف نتحصل على نفس النّتيجة»(13). 
إذا تتمّ «معرفة الظّواهر بمعرفة الأسباب وعوامل النّشوء والتّطوّر بهدف الضّبط والتّأثير والزّيادة والنّقصان، وبالتّالي التّحكّم بالظّاهرة وإخضاعها للتّجربة والتّعديل والتّطوير»(14).                       
6 – الدقّة: 
يخضع العلم لمبادئ ومفاهيم متعارف عليها بين ذوي الاختصاص تتضمّن مصطلحات ومعاني ومفاهيم دقيقة جدّا ومحدّدة.                                                            
ويجب استعمال هذه المصطلحات بدقّة وتحديد مدلولها العلمي، لأنّها عبارة عن اللّغة التي يتداولها المختصّون في فرع من فروع المعرفة العلميّة.                                                  
الفرع الثالث: أهمّية العمل الميداني في البحث العلمي:
العمل الميداني هو نوع من التّعلّم النّابع عن الفضول لمعرفة العالم الملموس والمرئي، ويتطلّب قدرة للنّظر إلى ما وراء مظهر الأشياء. إنّ مزايا هذا النّوع من الدّراسات عديدة فهي توسّع دائرة الخبرة للطّالب وتشكّل له الصّورة الذّهنيّة عن ميدان البحث والعمل والواقع، فبدون هذه الصّورة يصعب على الطّالب فهم العمليّات الميدانيّة والأنشطة وتفاعلاتها.
فالهدف الرّئيسي للبحث الميداني في المدارس هو اكتساب الطّلبة للمفردات الجغرافيّة اعتمادا على الملاحظة المباشرة.
 ويتمّ إغناء الجانب الأكاديمي لعمل الطّالب من خلال اتصاله المباشر مع الحقيقة والانغماس فيها شخصيّا بالدّراسة، حينها يكون أكثر قدرة على الاتصال وأكثر تقديرا وإدراكا لعمله.
ختاما:
هذا التّوجه يجب أن يكون منهجا تسير عليه أغلب مؤسّسات التّعليم في تونس لما للدّراسة الميدانيّة والعمل الميداني من أهمّية في عصرنا الرّاهن، فهو وسيلة لإكتساب المعرفة من خلال الملاحظة واكتشاف البيئة المحليّة التي تتطلّب قدرة عقليّة مختلفة.
وما أحوج الواقع التّونسي في ظلّ هذه المتغيّرات اليوم الى مثل هذه الدّراسات، فعلى البحث العلمي الأكاديمي أو حتّى التّربوي أن يدخل معترك الحياة ويثبت فاعليّته في التّغيير والتّطوير، ويكفي من اقتصار البحث العلمي على الجانب التّنظيري والرّكن فوق الرّفوف وعدم الخروج من حيز الأفكار والأوراق، نحن بحاجة ماسّة اليوم الى البحث الميداني الواقعي الذي له القدرة على التّغيير والتّجديد والابتكار والتّنمية الشّاملة.
فأغلب دول العالم المتقدّم اليوم أصبحت ترسم استراتيجيّاتها التّنمويّة على البحث العلمي الميداني وتحقنه في كلّ البحوث الاكاديميّة وهو سرّ نجاحها وتقدّمها.
الهوامش
(1) معجم المعاني الجامع،
(2) جمال الدين بن محمد بن منظور، لسان العرب، بيروت، لبنان، دار صادر، د.ط،2/115
(3)  محمد بن الحسن بن دريد، جمهرة اللغة، تحقيق رمزي منير بعلبكي، بيروت لبنان، دار العلم للملايين، طبعة1، سنة 1987،1/258
(4) المعجم الوسيط، مادة علم، ج 2، ص: 624 
(5) ذوقان عبيدات وعبد الرحمان عدس وكايد عبد الحق، البحث العلمي مفهومه أدواته أساليبه، د.م، د.ط، عام 1989، ص20
(6) الفيروزابادي، القاموس المحيط، مؤسسة الرسالة، بيروت لبنان، ط 4، 1994، ص:1471
(7) سالم محمد سالم، واقع البحث العلمي في الجامعات، دراسة لأعضاء هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، منشورات جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض، ط 1997م-1417ه، ص: 58
(8) جودة الركباني، منهج البحث الأدبي في إعداد الرسائل الجامعية، دار ممتاز، دمشق، 1413ه-1992م، ص:12
(9) قاموس ويبستر الجديد للقرن العشرين، باللغة الإنكليزية، نقلا عن كتاب أساليب البحث العلمي, د كامل المغربي, الطبعة الأولى, عمان, دار الثقافة للنشر والتوزيع, 2002, ص 15.
(10) الدكتور أحمد بدر,أصول البحث العلمي ومناهجه, الكويت, وكالة المطبوعات, 1973, ص 18
(11) د. دويدري وحيد رجاء، البحث العلمي أساسياته النظرية وممارسته العملية، دار الفكر المعاصر، بيروت، لبنان، ط 1،2000م-1421ه ص:71
(12) د. دويدري وحيد رجاء، م. ن، ص:73
(13) د. حسن ملحم، التفكير العلمي والمنهجية، مطبعة دار حلب، الجزائر، 1993، ص: 60-69
(14) د. دويدري وحيد رجاء، م. ن ص: 72