نقاط على الحروف
بقلم |
د. محمد البشير رازقي |
تشكيل الحضارات: قانون التوازن وصناعة الضدية |
العلوم الصّلبة: التّوازن والضّديّة
يعتمد علم الفيزياء على السّرعة. لم تخفِ الحضارات هواجسها تجاه هذا المتغيّر سواء عبر السّعي لاختراع أدوات قيس الزّمن أو باعتماد السّرعة لتأكيد القوّة والسّبق والانتصار. يساهم عامل السّرعة في تغيير توازنات القوّة والنّفوذ بين المتنافسين دولا أو أفرادا أو جماعات(2). ساعدت عوامل كثيرة في ترسيخ أهميّة السّرعة ضمن رهانات الفاعلين الاجتماعيّين مثل تقلّص مفهوم الحدود التّقليديّة وتراجع الاقتصاديّات المحليّة وتحوّل نوعيّ في طبيعة البضائع المتبادلة نفسها. ولهذا هيمنت قوّة الزّمان على سلطة المكان. وليس من الصّدفة أن يظهر هنا مصطلح الكرونوبوليتيك Chronopolitique إلى جانب مصطلح الجغرافيا السّياسيّة Géopolitique ا(3).
يشكّل مفهوم الوزن ركنا أساسيّا في الفيزياء. وقد اعتمدت الحضارات مجازا على مفهوم الوزن الذي يُحيل إلى الكثرة مثل العلاقة الحيويّة بين الحضارة والدّيمغرافيا(4)، والمساحة الجغرافيّة المثاليّة وقد أثار هذا الأمر نقاشا بين المختصّين: إن كانت البيئة الجغرافيّة هي الأولويّة، فإنّ التّنمية تحدّدها الثّروات والقيود الطّبيعيّة. فإذا كانت الثّقافة هي المهيمنة، فمن الممكن التّغلّب على الجغرافيا بالحظّ، والمؤسّسات السّياسيّة الفعّالة، والعزيمة، والإبداع(5). لكن بقيت الحضارات تتوق إلى مساحة جغرافيّة ممتدّة، وهنا يحضر مفهوم «الثّقل» وهو مصطلح فيزيائي أساسا متشابك مع مصطلح «التّوازن» وسُكّ من ذلك مصطلح «مركز الثّقل». تحتاج الحضارات للتّوازن لتعديل مسألة الكثرة أو «الوزن» الزّائد سواء كان ديمغرافيّا أو تسليحيّا أو استهلاكيّا. ولهذا سعت حضارات عديدة لتوظيف مسألة «الثّقل» أي التّوازن بين مُجمل قدراتها بالنّظر إلى الاحتياجات، وقد بنى مثلا «أرنولد توينبي» مجمل نظريّة «التحدّي والاستجابة» على مسألة الثّقل، فحضارة «الاسكيمو» مثلا عجزت وتوقّف نموّها بسبب صعوبة الجغرافيا وندرة الموارد(6). كما غرقت حضارات كثيرة في مستنقع مصاريف التّسليح، أو في الاستهلاك أو التّوسّع الجغرافيّ المفرط(7).
وهذا ما يُوصلنا إلى مفهوم «الوزن» ومفهوم «الضّغط» في الفيزياء، فحجم الضّغط مرتبط بقيمة الوزن. ناقش «جارد دياموند» فرضيّة انهيار الحضارات بسبب عدم قدرة ثرواتها على تلبية الاحتياجات الغذائيّة للسكّان(8)، كما قدّم «إدوارد جيبون» حججا بخصوص عدم قدرة الامبراطوريّة الرّومانيّة على مجابهة الضّغط الرّهيب للقبائل المحيطة بها سواء ديمغرافيّا أو عسكريّا أو عند المنافسة على الأراضي الخصبة والغذاء المتوفّر(9). ويتوافق هذا الأمر مع قاعدة فيزيائيّة أخرى وهي التي عبّر عنها «ياكوف بيريلمان» في شكل سؤال: «لمَ تكون الأجسام المسنّنة (الحادّة) وخّازة؟» و«لماذا تخترق الإبرة الجسم بسهولة؟»(10). الاختلاف هنا هو الضّغط والمساحة التي تركّز فيها والجسم المستهدف. يمكن لحضارة معيّنة أن تُجابه حروبا وأزمات عديدة ولكّنها تتأثّر في مواجهة عدوّ صغير غير مرئيّ مثل الوباء. الفكرة المستخلصة هنا هي قدرة الحضارة على استيعاب حجم الضّغط مهما كان مصدره وطريقة ممارسته للضّغط.
يعتمد علم الفيزياء على مفهوم «الوسط»(11) بمكوّناته المختلفة من هواء وماء وتربة ومعادن عناصر طبيعيّة أخرى. تنمو الحضارات في أوساط مختلفة ومتنوّعة بحريّة وجبليّة وسهليّة، وجافّة ورطبة. على الحضارة أن توفّر أسس الأساليب وأسباب البقاء وأن تتعامل مع إيجابيّات الوسط وعراقيله. ولهذا تعيش الحضارات في هذا السّياق بين تعاون وتنافس(12)، والأقدر على البقاء هو صاحب التّعامل الأمثل مع مجمل هذه السّياقات. ويقع الاختلاف والتّمايز بين الحضارات وقوع التمكّن من الابتكار والخلق في مجابهة الصّعوبات التي يفرضها «الوسط»(13). ولهذا برزت نظريّات عديدة في هذا الإطار ومنها الأهمّية الحيويّة للسّيطرة على الطّبيعة من أجل نشأة الحضارة (14). فالأقدر على مجابهة صعوبات الوسط هو الأرسخ حضاريّا (15). تبدأ الحضارة بالتّعامل مع وسطها الأمّ، ثمّ تضطر مع التّوسّع إلى مجابهة أنواع مختلفة من الأوساط مناخيّا وجغرافيّا وبشريّا.
تعتمد الفيزياء على مفهوم آخر وهو الثّبات والحركة. أوّلا تعتمد الحضارة بطريقة حيويّة على مسألة «الحركة»، فمُجمل الاختراعات البشريّة تتشابك معها مثل اختراع النّاعورة والعجلة والمحرّكات وغيرها. فالحركة ترتبط بمسألة إنتاج الطّاقة لدى الحضارات وهي عنصر وجوديّ لها(16). وبعيدا عن التّكنولوجيا، تسعى الحضارات إلى الحركة سواء جغرافيّا (ولهذا استخدمت عبارة التّخوم عوض الحدود) أو بشريّا (الهجرة) أو سياسيّا (العلاقات الدبلوماسيّة...). يمثّل بالمقابل عنصر «الثّبات» عنصرا ثابتا لدى الحضارات، فالحركة هي محرّك للتّجديد، والثّبات هو عنصر للاستقرار والبناء. فعلى كلّ حضارة أن تبني نظاما سياسيّا ثابتا راسخا معتمدا على أسس ومدوّنات قانونيّة محدّدة ومدن وعواصم معلومة، وكثافة سكانيّة وقدرات إنتاجيّة (غذاء، موارد طبيعيّة...) مدروسة ومتوافقة مع احتياجات الحضارة.
نتحدّث هنا على مسألة دقيقة، يمكن النّظر إلى الحضارة على أنّها تفاعل بين التّعليم والرّخاء والقانون والنّظام في المجتمع، ويمكن التّعبير عن هذه الجوانب من الحضارة كمّيًا، وبالتّالي فإنّ حضارة الشّعب قابلة للقياس. ومع ذلك، فإنّ نفس هذه الخصائص القابلة للقياس تتغيّر مع تطوّر الحضارة (17) .
يشتمل علم الفيزياء على ثنائيّات عديدة منها السّيولة/التّصلّب والتّمدّد/التّقلّص(18)، ويحصل هذا التّفاعل نتيجة الحرارة. من ناحيتها، تتفاعل الحضارات مع سياقات وأزمات عديدة والحضارة الرّاسخة هي التي تتمكّن من التّعامل مع كلّ الظّرفيّات. تتعرّض الحضارات لصدمات عديدة سواء بسبب صراعات منافس خارجيّ (حروب...)(19)، أو كوارث طبيعيّة ووبائيّة(20)، أو بسبب أزمات وصراعات داخليّة(21). على الحضارة أن تتقن التّقلّص بدون أن تفقد شيئا من نفوذها أو مجالها أو توسّعها، وفي حالة كان التّحدّي قويّا لدرجة فقدانها امتيازات كالمساحة الجغرافيّة، عليها أن تُتقن التّعويض واسترجاع القوى.
نستفيد هنا من قوانين الميكانيكا الثّلاثة. ما يهمّنا هو القانون الأول والثّالث. قانون «نيوتن» الأول للحركة يفيد بأنّ الأجسام تبقى ثابتة ما لم تؤثّر فيها قوّة خارجيّة. قانون «نيوتن» الثّالث للحركة هو: قانون الفعل وردّ الفعل يساويه في المقدار ويُعاكسه في الاتّجاه(22). يُبيّن لنا دراسة تاريخ نشأة الحضارات على أهمّيّة القانون الأوّل لنيوتن حيث تأثّرت مجمل الحضارات بالسّياقات الخارجيّة سواء مثاقفة أو حربا أو تحالفا أو تبادل سلطة(23)، لكنّ الإضافة هنا أنّ الحضارة تتأثّر بتحوّلات الدّاخل وتدافع الفاعلين فيه وأصحاب المنافع(24).
كما أنّنا نستفيد من القانون الثّالث لنيوتن المهتمّ بمسألة الفعل وردّ الفعل أو ما أطلق عليه «توينبي» قانون التحدّي والاستجابة. تتعرّض الحضارات لضغوطات عديدة طبيعيّة كانت أو بشريّة، بل لا يمكن أن تنشأ حضارة بدون حضور العوائق والصّعوبات. والإضافة التي يقدّمها علم التّاريخ عند التّعامل مع دراسة سيرورة نشأة الحضارات هو تعديل ما اقترحه «نيوتن» تاريخيّا طبعا لا فيزيائيّا.
أورد «نيوتن» في القاعدة الثّالثة أنّ ردّ الفعل يساوي في المقدار الفعل ويُعاكسه في الاتّجاه. بيّنت لنا الحضارات أنّ ردّ الفعل يمكن أن يتجاوز الفعل بكثير، بل إنّ قانون المراكمة والاستفادة من التّجارب التّاريخيّة يفرض ضرورة تفاوت ردّة الفعل عن الفعل ذاته. والنّموذج التّفسيري المثاليّ على هذا هو صعود الولايات المتّحدة خلال النّصف الثّاني من القرن 19. عانت أمريكا من ضغوطات أوروبيّة كبيرة سواء مع احتلال إنجلترا لكندا وفرنسا للمكسيك، أو بسبب التّضييق عليها لمنعها من استثمار ثرواتها الطّبيعيّة وخاصّة القطن، ومحاولة أوروبا الاستفادة من الحرب الأهليّة الأمريكيّة (1861 - 1865) بل وتدعيمها منعا لصعود محتمل للقوّة الأمريكيّة، إلى جانب سعي القوى الأوروبيّة لمحاصرة أمريكا وراء حدود الأطلسي منعا لوصول وشيك لها للبحر الأبيض المتوسّط وما يرتبط به من شبكات منافع ومصالح(25). ولكن كانت ردّة الفعل أقوى بكثير من الفعل، حيث سيطرت الولايات المتّحدة على القارّة الأمريكيّة، ومن بعدها الأوروبيّة وأجزاء واسعة من العالم. بل استفادت الولايات المتحدّة من الحرب الأهليّة نفسها رغم خسارتها أكثر من 500 ألف انسان، حيث بيّنت دراسات عديدة أنّ الانطلاقة الحقيقيّة لأمريكا كانت الحرب الأهليّة عسكريّا واقتصاديّا وسياسيّا واجتماعيّا وجغرافيّا(26).
من المهم التّعامل مع قانون الجاذبيّة لفهم ممارسات حضاريّة عديدة، يُعرّف هذا القانون بأنّه عبارة عن قوّة جذب بين جسمين، وتتناسب هذه القوّة طرديّا مع الكتلة وعكسيّا مع مربّع المساحة بينهما(27). ولهذا كلّما اقترب الجسمان من بعضهما البعض كلّما كانت الجاذبيّة أقوى، وكلّما كانا أبعد كانت الجاذبيّة أضعف، إذا فإنّ قوّة الجاذبيّة تعتمد على حجم كتلة الجسمين وعلى المسافة الفاصلة بينهما.
يُثبت لنا التّاريخ فعاليّة هذا القانون في فهم ممارسات حضاريّة عديدة، فالحضارة تسعى إلى عدم الذّوبان في حضارة أخرى وتُحافظ على مسافة الأمان معها ويصل الأمر أحيانا إلى الحرب، لكن وفي الآن ذاته تسعى إلى الاستفادة من منتجات بقيّة الحضارات سواء معاصرة لها أو سبقتها في الوجود. تُمثّل الحضارات مرجلا لإنتاج الأفكار والهويّات والخصوصيّات(28)، حيث تسعى لإنتاج خصوصيّاتها وابتكارها وإن لزم الأمر اختلاقها لتحقيق قانون الجاذبيّة أولا عبر محاولة جذب الأجسام الحضاريّة المنافسة، وفي الآن نفسه توفير حصانة ذاتيّة لتجنّب الذّوبان في كيانات حضاريّة أخرى. كما تعقد حضارات تحالفات مع حضارات أخرى مع حرص كلّ حضارة على المحافظة على توازن بين قوّة الجذب وقوّة الطّرد حماية للوجود واستفادة من الآخر(29).
تسعى الحضــارة إلى استيعاب وحيــازة بقيّة المجالات الحضاريّة ثقافيّا ومجاليّا، مع دفع كلّ محاولة لتفريغها من خصوصيّــات أو الهيمنـة عليهــا، وتعتمد الحضارة لتحقيق ثنائيّة الجذب والطّرد على عدد من الأساليب مثل تشكيل جماعة وذاكــرة جماعيّــة متخيّلــة(30)، واختلاق سرديّــة تاريخيّة منمّقة(31)، وتوفير الأسس الماديّة لمدّ النفوذ مثل القوّة العسكريّة والاقتصاديّة. كما تسعى لتحقيق الطّرد إلى تشكيل وصم تحقيري وصور نمطيّة تجاه الآخر(32).
ونربط مجمل هذه الأفكار مع قاعدة عامّة معروفة وهي أنّ الشّحنات الكهربائيّة الموجبة تتنافر مع بعضها مثل الشّحنات السّالبة، وبالمقابل تتجاذب الشّحنات المختلفة مع بعضها البعض، أي أنّ جسما ذا شحنة موجبة ينجذب إلى جسم ذي شحنة سالبة(33). وقد بيّن لنا تاريخ الحضارات اعتمادا مطّردا على هذه القاعدة. تتوجّس الحضارات ممّا يشبهها حيث يُفقدها ذلك تميّزها وأصالتها وسبب وجودها، ولهذا تسعى كلّ حضارة إلى ابتكار ممارسات ثقافيّة جديـدة (عمرانيّة، تعبّديّة وطقوسيّة، بروتوكولات سياسيّة وعادات اجتماعيّة...) (34)، لكسب ولاء الفاعلين على حسـاب الحضارة المشابهـة وتجنّب الاحتكاك والتّنافس معها في مجال صاحبة السّبق فيه ومتمكّنة من مفاصلـه وثنايـا أسراره. يمثّل إذا الاختلاف مع المتشابه مسألة وجوديّة وحيويّة. بالمقابل، تروم الثّقافات إلى الاستفادة من الآخر بدون الذّوبان في مجــال نفـوذه الثّقــافي (35) .
كما تشابك علم التّاريخ مع أهمّ نظريّات العلوم الصّلبة(36)، منها نظريّة التّطوّر والانتقاء الطّبيعي. مثلها مثل الطّبيعة، تخضع الحضارات إلى صراعات عديدة تصل أحيانا إلى درجة الانقراض أو التقلّص الشّديد. تساعد سياقات عديدة منها الحروب والتّحوّلات الثّقافيّة والكوارث الطّبيعيّة الشّديدة وانحسار النّموذج الثّقافي في تراجع أو اندثار حضارة مقابل صعود أخرى(37).
تحاول الحضارات أن تتعايش مع مجمل السّياقات التي تعترضها سواء أزمات أو لحظات سياديّة، وليس من الضّرورة أن تنهار الحضارات عقب الهزائم، بل تتمكّن أحيانا من التّأقلم مع المهيمنين الجدد سواء بتسويات وتنازلات أو بتبنّي النّموذج المجتمعي للمنتصر، مع اعتماد بعض الحضارات على المقاومة(38).
ننتقل الآن إلى قانون الدّيناميكا الحراريّة. القانون الصّفري لهذا المجال هو «إذا كان هناك جسمان في وضع توازن حراري مع جسم ثالث، فإنّ الجسمين يكونان في وضع توازن حراري مع بعضهما البعض، هذا ما يجعل درجة الحرارة خاصّيّة أساسيّة للمادّة»، أمّا القانون الأوّل فهو تكوّن المجال من الطّاقة الدّاخلة والحرارة والشّغل، وترتبط هذه العناصر بالقانون الثّاني وهو أنّ «الطّاقة لا يمكنها الانتقال من جسم ذي درجة حرارة أقلّ إلى جسم ذي درجة حرارة أعلى بدون طاقة إضافيّة». أمّا القانون الثّالث فيسمّى الأنتروبيا أي الطّاقة المهدرة أي غير القادرة على القيام بعمل(39).
نستفيد من قوانين الدّيناميكا الحراريّة لفهم انهيار حضارات عديدة أو تأسيسها. تعرّضت الامبراطوريّة العثمانيّة، مثل نظيرتها الهبسبورغ، إلى نشأة فرق عسكريّة كثيرة محليّة مستقلّة عن المركز وتشتّت سياسي وتمزّقات اجتماعيّة كثيرة وسياسات جبائيّة ظالمة وتوسّع جغرافي مفرط(40)، كما واجه الاقتصاد العثماني منافسة كاسحة مع الرّأسماليّة الأوروبيّة حيث انخفض معدّل التّجارة الخارجيّة وانقلبت شروطها ضدّ الامبراطوريّة العثمانيّة نفسها (امتيازات جبائيّة للقوى الأوروبيّة مثلا) مع انخفاض أسعار أساسيّة موجّهة للتّصدير كالقمح(41).
نشأ عن هذه الأزمات بروز سياسات قاسية مثل ترسّخ الطّائفيّة (42) ، وانتشار العنف والقوميّة، كما خُلقت تحالفات عديدة استنادا للطّائفة والعرق والدّين(43).
نستند الآن على قوانين الدّيناميكا الحراريّة، فقد أوّلا التّوازن بين جسم الامبراطوريّة العثمانيّة وفضاء الرّأسماليّة والثّورة الصّناعيّة أو أوروبا وأمريكا الشّماليّة، حيث اختلّت مسألة مداخيل الامبراطوريّة مع مصاريفها وتشابك ذلك مع فقدانها السّيطرة على سيادتها القانونيّة (الاتفاقيات التجاريّة، الدّول في الأطراف...) والماليّة. أصبح جسد الامبراطوريّة العثمانيّة فاقدا للطّاقة سواء الماليّة أو البشريّة بل والشّحنة الإيديولوجيّة نفسها، حيث انتشر الحديث عن علاقة العروبة والتّتريك، والحنفيّة ببقيّة المذاهب، والقوميّة والإسلاميّة. أصبحت الامبراطوريّة سواء من خلال أجهزتها المالية والعسكريّة والسياسيّة وحتّى الإيديولوجيّة تُنتج «طاقة مُهدرة»، وهو القانون الثّالث للدّيناميكا الحراريّة، بعد أن مرّ تاريخها وخاصة خلال زمن الأزمات بالقانون الأول والثّاني.
نستفيد من قوانين فيزيائيّة أخرى مثل «قانون أوم»(44)، وهو بحث في العلاقة بين مقاومة النّاقل وشدّة التيّار وفرق الجهد، ويبرز أنّه «إذا مرّ تيّار كهربائي بين طرفيّ ناقلٍ معدنيٍّ فإنّ فرق الجهد الكهربائي سيتناسب طرديّاً مع شدّة التّيار الكهربائيّ المارّ»(45). الذي يهمّنا في هذا القانون هو مسألة الطّاقة وطرق التّحكّم فيها وآليّات إيصالها. تعتمد الحضارات على مسألة الطّاقة بطريقة حيويّة ووجوديّة، ولا يقتصر مفهوم الطّاقة هنا على جانبه التّقني بل الوجودي العام أي البشري والماليّ والطّبيعي والغذائي إلخ(46). وتكمن المشكلة هنا، إمّا في عجز الحضارة عن توفير الطّاقة الضّروريّة لاستمرار وجودها(47)، أو فشلها في استثمار الطّاقات المتوفّرة والتّحكّم فيها وتصريفها في الأماكن المناسبة والمحتاجة لها، أو في اعتمادها عليها لترسيخ وجودها كحضارة(48).
الهوامش
(2) Stephen M. Walt, “Revolution and War”, World Politics, Vol. 44, No. 3 (Apr., 1992), pp. 321- 368
(3) James der Derian, “The (S)pace of International Relations: Simulation, Surveillance, and Speed”, International Studies Quarterly, Vol. 34, No. 3, Special Issue: Speaking the Language of Exile: Dissidence in International Studies (Sep., 1990), pp. 295- 310
(4) Josiah Cox Russell, “Demographic Pattern in History”, Population Studies, Vol. 1, No. 4(Mar., 1948), pp. 388 -404
(5) Dwayne Woods, “Bringing Geography Back In: Civilizations, Wealth, and Poverty”, International Studies Review,Vol. 5, No. 3 (Sep., 2003), pp. 343 -354
(6) أرنولد توينبي، مختصر دراسة للتاريخ، ترجمة: فؤاد محمد شبل، المركز القومي للترجمة، مصر، 2011، 3 أجزاء
(7) Johan Galtung, Tore Heiestad and Erik Rudeng, “On the Decline and Fall of Empires: The Roman Empire and Western Imperialism Compared”, Review (Fernand Braudel Center),Vol. 4, No. 1 (Summer, 1980), pp. 91 -153
(8)جارد دايموند، الانهيار: كيف تحقّ المجتمعات الإخفاق والنجاح؟، ترجمة: مروان سعد الدّين، العبيكان للنشر والتوزيع، الرياض، 2019
(9) (Edward Gibbon, The Decline and Fall of the Roman Empire, Everyman›s Library, 2010 (6 Volumes
(10) ياكوف بيريلمان، الفيزياء المسلية، ترجمة: داود سليمان المنير، المكتبة الثقافيّة، بيروت، 1993، جزء1، ص.53.
(11) ياكوف بيريلمان، الفيزياء المسلية، نفس المرجع، جزء 1، ص.57
(12) Mark Bertness, A Brief Natural History of Civilization: Why a Balance Between Cooperation and Competition Is Vital
to Humanity, Yale University Press, 2020
(13) لوسيان فيفر، الأرض والتطوّر البشري، ترجمة: محمد السيّد غلاّب، المركز القومي للترجمة، مصر، 2015 (2 أجزاء)
(14) Nathaniel Wolloch, “The Civilizing Process, Nature, and Stadial Theory”, Eighteenth-Century Studies, Vol. 44
No. 2 (WINTER 2011), pp. 245- 259
(15) J. N. Hays, The Burdens of Disease: Epidemics and Human Response in Western History, Rutgers University Press, 2009
(16) Reinhard Rürup, “Historians and Modern Technology: Reflections on the Development and Current Problems of the History of Technology”, Technology and Culture, Vol. 15, No. 2 (Apr., 1974), pp. 161- 193
(17) E. Dunsdorfs, “Average Expectation of Life as an Index of Civilization”, Weltwirtschaftliches Archiv, Vol. 74 (1955), pp. 267- 282
(18) ياكوف بيريلمان، الفيزياء المسلية، مرجع مذكور، جزء 1، ص.129
(19) E “ Encounters between Civilizations”, India Quarterly, Vol. 14, No. 2 (April-June 1958), pp. 166- 187
(20) Morris Davis and Steven Thomas Seitz, “Disasters and Governments”, The Journal of Conflict Resolution, Vol. 26, No. 3 (Sep., 1982), pp. 547- 568
(21) Andrej Tusicisny, “Civilizational Conflicts: More Frequent, Longer, and Bloodier?”, Journal of Peace Research, Vol. 41, No. 4 (Jul., 2004), pp. 485- 498
(22) ياكوف بيريلمان، الفيزياء المسلية، مرجع مذكور، جزء 2، ص.18 وما بعدها
(23) Jay Newman, “Two Theories of Civilization”, Philosophy, Vol. 54, No. 210 (Oct., 1979), pp. 473- 483
(24) Immanuel Wallerstein, “Civilizations and Modes of Production: Conflicts and Convergences”, Theory and Society, Vol. 5, No. 1 (Jan., 1978), pp. 1- 10
(25) Matthew Specter, The Atlantic realists : Empire and international political thought between Germany and the United States, (U.S.A: Stanford University Press, 2022); Don H. Doyle, American Civil Wars: The United States, Latin America, Europe, and the Crisis of the 1860s, (U.S.A: The University of North Carolina Press, 2017); Gregory P. Downs, The Second American Revolution The Civil War-Era Struggle over Cuba and the Rebirth of the American Republic, (U.S.A: The University of North Carolina Press, 2019)
(26) Wayne Wei-Siang Hsieh, «Total War and the American Civil War Reconsidered: The End of an Outdated “Master Narrative», The Journal of the Civil War Era, The University of North Carolina Press Volume 1, Number 3, (September 2011), pp. 394- 408; Robert E. Bonner, «The Salt Water Civil War: Thalassological Approaches, Ocean-Centered Opportunities», The Journal of the Civil War Era, The University of North Carolina Press, Volume 6, Number 2, (June 2016), pp. 243- 267
(27) قانون_الجاذبية/https://mawdoo3.com
(28) Robert W. Cox, “Thinking about Civilizations”, Review of International Studies, Vol. 26, How Might We Live? Global Ethics in a New Century (Dec., 2000), pp. 217- 234
(29) Ali Balci,The Alliance of Civilizations: The Poverty of the Clash/Alliance Dichotomy?,Insight Turkey,Vol. 11, No. 3, (SUMMER 2009), pp. 95- 108
(30) Luke Cooper, “The international relations of the ‹imagined community›: Explaining the late nineteenth-century genesis of the Chinese nation”, Review of International Studies, Vol. 41, No. 3 (JULY 2015), pp. 477- 501
(31) Barry Wood, Invented History, Fabricated Power: Narratives Shaping Civilizations, Anthem Press, London, 2000
(32) Fumiko Hosokawa, “A Functional Theory of Ethnic Stereotypes”, Humboldt Journal of Social Relations, Vol. 7, No. 2 (Spring/Summer 1980), pp. 15- 30
(33) كارلتون جون ليند، العلم بين يديك في تجارب، ترجمة: أحمد أبو العباس/محمد صابر سليم، دار المعارف، مصر، 1959، ص.400
(34) Marshall Sahlins, “Other Times, Other Customs: The Anthropology of History”, American Anthropologist New Series, Vol. 85, No. 3 (Sep., 1983), pp. 517- 544
(35) Seth J. Schwartz, Marilyn J. Montgomery and Ervin Briones, “The Role of Identity in Acculturation among Immigrant People”, Human Development, Vol. 49, No. 1 (2006), pp. 1- 30
(36) للتعمّق في تاريخ مختلف النظريّات العلميّة وسياقات إنتاجها أنظر: برتران جيل، موسوعة تاريخ التكنولوجيا، ترجمة: هيثم اللمع، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 1996 (1328 صفحة)
(37) Robert W. Cox, “Civilizations and the twenty-first century: some theoretical considerations”, International Relations of the Asia-Pacific, Vol. 1, No. 1 (2001), pp. 105- 130
(38) R. M. MacIver, “War and Civilization”, International Journal of Ethics, Vol. 22, No. 2 (Jan., 1912), pp. 127- 145; Claudio Cioffi-Revilla, “Origins and Evolution of War and Politics”, International Studies Quarterly, Vol. 40, No. 1 (Mar., 1996), pp. 1 -22
(39) https://arblog.praxilabs.com/introduction-to-thermodynamics/ )16- 10- 2023. 11:42 AM)
(40) Robert Gerwarth and Ugur Ümit Üngör, “The Collapse of the Ottoman and Habsburg Empires and the Brutalisation of the Successor States”, Journal of Modern European History / Zeitschrift für moderne europäische Geschichte / Revue d›histoire européenne contemporaine, Vol. 13, No. 2, The Crisis of Empire after 1918 (2015), pp. 226-248
(41) Şevket Pamuk, “The Ottoman Empire in the «Great Depression» of 1873-1896”, The Journal of Economic History, Vol. 44, No. 1 (Mar., 1984), pp. 107- 118
(42) أسامة المقدسي، ثقافة الطائفيّة. الطائفة والتاريخ والعنف في لبنان القرن التاسع عشر تحت الحكم العثماني، ترجمة: ثائر ديب، دار الآداب، بيروت، 2005
(43) Nader Sohrabi, “Reluctant Nationalists, Imperial Nation-State, and Neo-Ottomanism”, Social Science History, Vol. 42, No. 4 (Winter 2018), pp. 835- 870
(44) KARL-HEINZ SCHLOTE, “The Discussion of Ohm›s Law for Electrolytes by Jena›s Physicists – an Interplay of Computation and Experiment”, Sudhoffs Archiv, Vol. 100, H. 2 (2016), pp. 206- 226
(45) أهم_قوانين_الفيزياء/https://mawdoo3.com
(46) Vaclav Smil, Energy and Civilization: A History, The MIT Press, 2017, pp.385- 442
(47) Charles Issawi, “Technology, Energy, and Civilization: Some Historical Observations”, International Journal of Middle East Studies, Vol. 23, No. 3 (Aug., 1991), pp. 281- 289
(48) Astrid Kander, Paolo Malanima, Power to the People: Energy in Europe over the Last Five Centuries, Paul Warde, Princeton University Press, 2013, pp.209- 287
|