رسالة فلسطين

بقلم
أ. د. محسن محمد صالح
الصهيونية و”إسرائيل“ واحتكار الضحية
 بالرّغم من أنّ العدوان الذي شنّته قوّات الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزّة، في إثر عملية «طوفان الأقصى» في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، كان وحشيًّا، همجيًّا، مدمّرًا، وأدّى إلى استشهاد وجرح عشرات الآلاف، معظمهم من الأطفال والنّساء والشّيوخ، وحتّى على مرأى من العالم؛ فقد ترافق ذلك مع الدّعاية الوقحة للصّهاينة بأنّهم هم «الضحيّة»، وأنّ ما فعلوه كان مجرّد دفاع عن النّفس!!
لقد سبق لخبير الشّؤون الصّهيونية د. عبد الوهاب المسيري- رحمه اللّه- أن قدّم قراءة معمّقة للعقليّة الصّهيونيّة، ولفتَ النّظر إلى فكرة: «احتكار الضّحيّة» أو «احتكار الإبادة» في هذه العقليّة، بالعودة إلى التّراث الدّيني والثّقافي الذي شكّلها؛ وكذلك حالة التّأثير والتّأثّر بالفكر الغربي الاستعماري المادّي. ونحن نستفيد في هذا المقال ممّا كتبه المسيري، خصوصًا، في كتابه: «الصّهيونيّة والنّازية ونهاية التّاريخ».
احتكار الضحية
يقوم جوهر الفكرة الصّهيونيّة على عدم قدرة الجماعات اليهوديّة على الاندماج في البلدان التي تعيش فيها، وحالة العداء والرّفض التي تواجهها هذه الجماعات أينما حلَّت؛ وأنّها كانت دائمًا «ضحية» لسلوك «الأغيار» أو غير اليهود تجاهها. وهي عقيدة تستند إلى الكوارث التي حاقت – تاريخيًّا- باليهود، والتي قد تحيق بهم في المستقبل، وإلى الخوف من الإبادة، وأنّه من المفترض أن يوفّر المشروع الصّهيوني لهم في فلسطين المحتلة «إسرائيل» الملاذ الآمن، حيث يحكمون أنفسهم بأنفسهم دون أن يكونوا تحت سطوة أحد.
وقد وظّف الصّهاينة الاضطهاد الذي تعرّض له اليهود – خصوصًا في روسيا القيصريّة (شرقي أوروبا) أواخر القرن التّاسع عشر- لتحشيد الدّعم لفكرة الدّولة اليهوديّة في فلسطين. ولقيت زخمًا كبيرًا إثر الاضطهاد النّازي لليهود في الحرب العالميّة الثّانية.
ومع استلهام الصّهاينة للتّاريخ والتّراث اليهودي تكرّست فكرة «الضّحية الدّائمة»، وتمّت تعبئة الجماعات اليهوديّة على هذا الأساس، وأنّ «الإبادة» النّازيّة هي دليل عملي على رفض العالم لهم وأنّ «الأغيار» يتربَّصون بهم، وأنّ الضحايا اليهود يُقدَّمون قربانًا للمحرقة. وتمّ تقديم الإبادة كأهمّ مَعلم في التّاريخ اليهودي.
وأصبح التّاريخ يُسجّل لديهم على أساس ما قبل الإبادة وما بعد الإبادة. وصار الخوف من الإبادة أحد أسس الإستراتيجيّة الصّهيونيّة؛ ولذلك يحتفل اليهود الصّهاينة في الرّابع من مايو/أيار من كلّ عام بإحياء «ذكرى الإبادة»…، ليتجذّر هذا الشّعور في الطّبيعة اليهوديّة الإسرائيليّة.
ونحن إذ نرفض نزيف قطرة دم واحدة من أيّ إنسان مدني بريء، إلّا أنّنا نودّ أن نشير إلى أنّه بالرّغم من وقوع نحو خمسين مليون مدني ضحايا في الحرب العالميّة الثّانية، منهم نحو 18 مليون روسي (سوفياتي) و6 ملايين بولندي…، إلاّ أنّ التّركيز العالمي ذهب فقط للضّحايا اليهود. ومنذ تلك الفترة جرت عمليّة «احتكار للضّحيّة»، بحيث ينصرف الذّهن إليهم فقط كضحايا «الهولوكوست».
أمّا كلمة «الهولوكوست» Holocaust فهي كلمة يونانيّة تعني حرق القربان بالكامل، وتُترجم للعبريّة بكلمة «شواه» Shoah، وللعربيّة بكلمة المحرقة، (وهي قريبة من كلمة شواء العربيّة). وقد كان «الهولوكوست» مصطلحًا دينيًّا يهوديًّا يشير إلى القُربان الذي يُضحّى به للرّب، فلا يُشوى فقط بل يُحرق حرقًا كاملًا، ولا يُترك أي جزء منه لمن قَرَّب القربان ولا للكهنة.
وهو يُعدّ من أكثر الطّقوس قداسة، ويُقدّم تكفيرًا عن جريمة الكبرياء «الكبر والصّلف والغرور»، وهو القربان الوحيد الممكن للأغيار أن يُقدّموه. وبحسب المسيري يقوم الصّهاينة بتشبيه «الشعب اليهودي» بالقربان المحروق، وأنّه حُرق لأنّه أكثر الشّعوب قداسة، كما أنّ النّازيين باعتبارهم أغيارًا يُمكن لهم القيام بهذا الطّقس.
وعلى ذلك، فإنّ الصّهاينة يُقدّمون أنفسهم باعتبارهم الضّحيّة المضطهدة المعرَّضة دائمًا للتّهديد؛ والتي ما دامت في بيئة معادية، فمن حقّها ارتكاب أيّ فظائع ضدّ «الأغيار» للحفاظ على نفسها.
عقليّة إلغائيّة
من ناحية ثانية، فممّا يعمّق فكرة «احتكار الضّحية» أنّ العقليّة الصّهيونيّة تتميّز بأنّها عقليّة إلغائيّة، أي أنّها قائمة على إلغاء الآخر في مقابل إثبات الذّات. وفي هذه العقليّة ثمّة إلغاء سكّاني بتقديم فلسطين باعتبارها أرضًا بلا شعب لشعب بلا أرض (إلغاء الشّعب الفلسطيني)، وكلّ ما يرتبط بذلك من عنف وتطهير عِرقي وتشريد.
وتتكرّس بناءً على ذلك فكرة «العربي الغائب»، فهو وإن كان موجودًا في فلسطين، فهو غير حاضر لدى الصّهاينة، وتهجيره وإخراجه من أرضه، ليس أكثر من عمليّة إجرائيّة عاديّة، لا يستحق فيها الفلسطيني وصف «الضّحيّة».
وثمّة إلغاء تاريخي، فالشّعب الفلسطيني بالنّسبة لها مجرّد حدث عابر عبر التّاريخ، أو خطأ تاريخي، وليس ثمّة أي اعتبار لتاريخه المتجذّر عبر آلاف السّنين قبل قدوم بني إسرائيل وأثناء وجودهم وبعد زوالهم.
وفي المقابل، فاليهودي الذي غاب نحو ألفَي سنة يتمّ التّعامل معه وكأنّه غاب بضعة أيّام. وثمّة إلغاء ديني مرتبط بحملات التّهويد الشّاملة للأرض والإنسان في فلسطين المحتلة، وخصوصًا في القدس؛ وتكريس حقّ ديني واحد لليهود الصّهاينة.
هذه العقلية هي «عقليّة مانعة» بعكس «العقليّة الجامعة» التي بنيت على أساسها الحضارة الإسلاميّة، وهي عقليّة لا تستطيع التّعايش مع الآخر أو استيعابه، وهي تجمع عقدتَي الخوف وعدم الثّقة، وبالتّالي تَحصر خياراتها في السَّعي للهيمنة وبسط السّيطرة، فتكون النّتيجة الطّبيعية الصّراع وسفك الدّماء.
عقليّة استعلائيّة
من ناحية ثالثة، فممّا يُعزّز فكرة «احتكار الضّحيّة» أيضًا أنّ الصّهيونيّة سعت لتكريس الشّعور الجمعي لدى اليهود بأنّهم «شعب مميّز» سواء لأسباب دينيّة متعلّقة بنصوص توراتيّة (محرّفة) أو تلموديّة…، أم لأسباب قوميّة متعلّقة بالانتماء لليهود كأمّة.
وتلعب فكرة الأفضليّة أو التّميُّز عن الأغيار دورًا محوريًّا، في بناء هذه العقليّة. ويتمّ ذلك في إطار فكرة «شعب اللّه المختار»، والشّعب صاحب الحقوق المطلقة الممنوحة من الرّب. وهذه ثقافة عميقة ومنتشرة بشكل واسع جدًّا في الوسط اليهودي.
وعلى هذا الأساس تجد عشرات الفتاوى من كبار الحاخامات والرّموز الدّينيّة التي تجيز قتل المدنيين من الأغيار، أمثال أبراهام أفيدان، وعوفاديا يوسف، وإيال كريم، ومردخاي إلياهو، ودوف ليئور، وشلومو إلياهو، ويسرائيل روزين وغيرهم.
وهنا يتمّ تجريد الفلسطينيّين (أو الأعداء بشكل عامّ) من إنسانيّتهم، فليس ثمّة قيم إنسانيّة مشتركة تجمعهم مع «الأغيار»، ولا يأخذ الفلسطيني شكل «الضحية»، وهو عندما يُقتل فلأنّه ببساطة كان موجودًا في المكان الخطأ، أمّا الإسرائيلي عندما يُقتل فلا يمكن أن يكون ذلك إلاّ عن سابق إصرار وترصُّد.
ويستند عدد من الفتاوى الحاخاميّة إلى تطبيق نموذج «العماليق» المذكور في التّوراة على الفلسطينيّين، وبحسب سفر سمؤيل الأول: «فالآن اذهب واضرب عماليق، وحرّموا كلّ ماله، ولا تَعفُ عنهم، بل اقتل رجلًا وامرأة، طفلًا ورضيعًا، بقرًا وغنمًا، جملًا وحمارًا».
الصّهيونيّة والنّازيّة
تكمن الخطورة – كما يشير المسيري – في التقاء الأيديولوجيّة الصّهيونيّة بالأيديولوجيّة النّازية في فصل استخدام العلم والتّكنولوجيا، وتوظيف المصلحة وعمليّة صناعة القرار عن منظومة القيم الإنسانيّة والأخلاق؛ فالنّازية فضّلت الجنس الآري، وقامت بإبادة كلّ من ليس له فائدة أو منفعة بالنّسبة لها، فقتلت المعوّقين والعجزة والغجر، ولم تتردّد في إبادة اليهود. والصّهيونية قامت -كالنّازية وكالأنظمة الاستعماريّة – بتحييد القيم الإنسانيّة، فأصبح التّخلّص من السّكان الأصليّين (الفلسطينيّين) مجرّد عمليّة إجرائيّة لا علاقة لها بالأخلاق، وأصبح الفلسطيني الجيّد هو الفلسطيني الميّت.
وهذا يفسر كيف تقدّم «إسرائيل» فكرة «حقّ الدّفاع عن النّفس»، إذ المنطق العقلي والقانون الدّولي لا يعطي للاحتلال حقّ الدّفاع عن النّفس (كما لا يعطي للمجرم حقّ الدّفاع عن جريمته بارتكاب جرائم أخرى) وإنّما يعطيه للشّعب تحت الاحتلال، وبالتّالي فللشّعب الفلسطيني حقّ الدّفاع عن نفسه حتّى يتخلّص من الاحتلال. أمّا العقليّة الإسرائيليّة الاستعماريّة وعقليّة «الضحية» في الفكر الصّهيوني فإنّها تتحدّث بشكل وقح عن الدّفاع عن النّفس كأداة لتكريس الاحتلال والقهر والظّلم لشعب آخر.
“ضحية” عدوانيّة متوحّشة!
عندما شنّت قوّات الاحتلال الإسرائيلي عدوانها على قطاع غزّة في إثر عمليّة «طوفان الأقصى» في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، فقد ترافق مع سيل من التّصريحات لزعماء سياسيّين وقادة عسكريّين ورموز دينيّة وقيادات مجتمعيّة، تشرعن وتبرّر قتل المدنيّين والمجازر والتّطهير العرقي والدّمار الشّامل، وشمل ذلك الرّئيس الإسرائيلي نفسه، ورئيس الوزراء نتنياهو وعددًا من أعضاء الحكومة، كما شمل تيارات اليمين والوسط واليسار والمتدينين.
وتضمّنت التّصريحات وصف وزير الجيش يوآف غالانت الفلسطينيين بأنّهم «حيوانات بشريّة»، وإعادة نتنياهو إحياء الذّاكرة لتجربة اليهود مع العماليق، بما يوحي ضمنًا بالإبادة التي أشارت إليها توراتهم المحرّفة ضدّ العماليق.
وتصريح وزير التّربية رافي بيرتز بأنّه لا يوجد هناك شيء اسمه الشّعب الفلسطيني؛ وكلام سموتريتش وزير المالية بأنّه ليس هناك مدنيّون في غزّة، وحديث وزير الزّراعة آفي ديختر عن تكرار «النكبة» للفلسطينيّين في غزّة، وتصريح وزير التّراث أميخاي إلياهو حول إمكانيّة إلقاء قنبلة نوويّة على غزّة، وإيجاد طرق أكثر إيلامًا من الموت للفلسطينيّين، ودعوة عضو الكنيست نسيم فاتوري لإحراق غزّة… وغيرها.
ولأنّ «وحدانيّة الضّحيّة» الخاصّة بهم، تقتضي ألاّ يأخذ الآخرون شكل الضّحيّة، وألاّ يأسف أحد على قتلهم؛ فقد لجأ صانعو السّياسة الإسرائيليّة إلى تدشين حملة دعائيّة مشحونة بالأكاذيب والتّلفيقات لتشويه صورة المقاومة ولتبرير وحشيّة عدوانهم على قطاع غزة. واستفادوا من نفوذهم السّياسي والإعلامي العالمي وتحالفهم مع القوى الغربيّة الكبرى، لينشروا مزاعم حول قتل أبرياء وقطع رؤوس أطفال واغتصاب نساء… ممّا ثبت كذبه لاحقًا.
وكان ثمّة حالة شبه إجماع في التّجمّع الاستيطاني الصّهيوني في فلسطين المحتلة على الحملة العدوانيّة الشّرسة ضدّ قطاع غزة. ووفق استطلاع أجراه المعهد الإسرائيلي للدّيمقراطيّة بعد نحو شهرين على العدوان كان لا يزال 75 %من الإسرائيليّين مع استئناف الهجوم، دون أي تعديل يهدف إلى تقليل الخسائر في صفوف المدنيين؛ كما أنّه وفق استطلاع آخر أجرته جامعة تل أبيب، فإنّ 10 % فقط يعتقدون أنّ قوّة النّار المستخدمة كانت أكثر من اللاّزم.
هذا بالرغم من عشرات الآلاف من الشّهداء والجرحى معظمهم من الأطفال والنّساء، والدّمار الهائل في المنازل والبنى التّحتية. وهذا ما يؤكّد أنّ عقليّة «احتكار الضّحيّة» والنّظرة المنفصلة عن القيم للأغيار متجذّرة في الوجدان الإسرائيلي الصّهيوني الجمعي.
وللأسف، يسهم الإعلام العالمي الغربي في تكريس الصّورة النّمطيّة التي يرسمها الاحتلال الإسرائيلي، فقد أظهرت دراسة للصّحف الأميركيّة الكبرى في تغطيتها للحرب على غزّة أنّ معدل ذكر الوفاة الإسرائيليّة يتكرّر 16 مرّة مقابل كلّ وفاة فلسطينيّة. كما أظهرَ تحليلٌ للتّغطية الإعلاميّة للـ «بي بي سي» البريطانية – أجراه محلّلا البيانات المختصّان دانا نجار وجان لينافا – وجود تباين مُدمّر في استخدام التّعابير الإنسانيّة، مثل: الأمّ أو الزّوج التي تستخدم أقلّ بكثير لوصف الفلسطينيّين؛ بينما لا يتمّ استخدام تعابير مثيرة، مثل: الذّبح والمذبحة إلاّ عند الحديث عن الإسرائيليّين.
إنّ وجود الشّعب الفلسطيني ومقاومته وتسليط أنظار العالم عليه يؤكّد كذب ادّعاء «أرض بلا شعب». ومن الواضح أنّ الإدراك الصّهيوني الحقيقي الواقعي لذلك يفقدهم ثقتهم بأنفسهم وإحساسهم بشرعيّة وجودهم وأخلاقيّته، ولذلك تلجأ تيارات صهيونيّة قويّة إلى تنزيل رؤيتها من خلال محاولة التّخلّص من كلّ من يقف بوجهها، وشطب كلّ من يفضح احتكارها لـ «الضحية الوحيدة» أو يقف بوجهها.
وتستفيد في ذلك من نفوذها الواسع في العالم الغربي، ومن قدرتها على تدمير سمعة الأشخاص باتهامهم المعلّب بـ «العداء للسّاميّة». غير أنّ استمرار المقاومة، وتقديمها مشروع تحرير حضاري نهضوي، وكشفها للوجه البشع للصّهيونيّة وممارساتها؛ سيصب عاجلًا أم آجلًا في نهاية المشروع الصّهيوني.
(*) تمّ نشر أصل هذا المقال على موقع «الجزيرة نت» ، 27/01/2024.