بحثا عن المشترك

بقلم
أ.د.احميده النيفر
المسألة النسائية في زمن العولمة نصوص من «الزمن الجميل»
 نقرأ بشيء من الاستغراب في كتاب البيان والتّبيين للجاحظ (تـ 255هـ/ 868م) قوله: «لا تَدَعْ أمَ صبيّك تضربه فإنّه أعقلُ منها وإن كانت أسنَّ منه». أن تصدر هذه العبارات من مفكّر وأديب في مثل مقام الجاحظ أمر يستدعي النّظر، فكيف يمكن أن نفهم حديثه هذا؟  هل يتعلّق بالجارية التي يعاشرها سيّدها فتنجب منه، ومع ذلك فهو لا يرى لها من قيمة تُذكر مقارنةً بابنه الصّغير؟ أم أنّ المقصود هو ضرورة تجنّب ضرب الأبناء لأنّ عواقبه وخيمة كما قال ابن خلدون «من كان مُربّاه بالعسف والقهر من المتعلّمين، حمله على الكذب والخبث؟»
قد لا يكون المعنى سوى ما يدلّ عليه ظاهر اللّفظ أي أنّ الجاحظ ينتقص عموم النّساء ولا يرى لهن من فضل في التّربية؟ كما أنّه يمكن أن نحمل عبارة مؤلّف البخلاء على غير محمل الجِدّ وأنّه من قبيل الهزل الذي يستعمله هو وبعض الكتّاب عند معالجة القضايا الهامّة قصد تلمّس ما خفيّ من التناقضات وما دقّ من التّباينات ليكون الهزل سبيلا لإذكاء العقليّة النّقدية؟ 
الذي لا شكّ فيه أنّ الجاحظ الذي وضع رسائل في « المعلّمين»و«المغنّين» و«القيان» خصّ النّساء برسالة تأكيدا على أهمّية الموضوع. وهو وإن لم يتعرّض صراحة إلى قضيّة المكانة العقليّة للمرأة فإنّ سكوته كان مرجّحا لدلالات تجعله أفصح من الكلام. نجده في مواضع يلمّح إلى مكانة المرأة، فيستبعد عنها العقل، وفي مواضع أخرى لا يتردّد في التّقليل من أهمّية رأيها وفي تفضيل الرّجل عليها. 
وإذا كانت المرأة، عند الجاحظ تفضل الرّجل في أمور فهي لا تعدو أن تكون أمورا متّصلة بالأنوثة والضّعف، فهي التي: «تُخْطَب وتُراد وتُعْشَق وتُطْلَب» وهي التي «تُُفْدى وتُحْمى». نجده أيضا يورد بعض النّوادر التي وإن كان لا يتبنّاها صراحة فهي تبقى معبّرة كقوله: «ومن أقوال العامّة: أحمق من معلّم كُـتّاب ...وكيف يرجى الرّأي والعقل عند مَن يروح على أنثى ويغدو على طفل». 
ما ينبغي أن نذكره من جهة أخرى أنّ الجاحظ كان من المعتزلة بل ومن رجالهم المتميّزين، وأن هذه الفرقة، خلافا لما يمكن أن يُظَـنّ، لم تكن مذهبا للخاصّة دون العامّة. يقول صلاح الصّفـدي المؤرخ (تـ 764هـ/1362م): «ومن وقف على طبقات المعتزلة للقاضي عبد الجبار علم ما كانوا عليه من العدد والعدّة». 
كما نجد عند القاضي أبي علي التّنوخي (تـ384هـ /994م) صاحب نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة: «أنّ نساء المعتزلة لم يكنّ يخشين الجنّ والأرواح وكذلك صبيانهم، لأنّهم لم يكونوا يسمعون أحاديث الجنّ من آبائهم بل كانوا يسمعون إنكار رؤيتهم». 
أمّا ياقوت الحموي ( تـ 626هـ /1129م) صاحب معجم البلدان فيقول في حديثه عن مدينة «تاهرت» في المغرب قرب « تلمسان» أنّ مجمع « الواصليّة»- أصحاب واصل بن عطاء أحد مؤسّسي الاعتزال- كان هناك، وأنّ عددهم بلغ ثلاثين ألفا في بيوت كبيوت الأعراب يحملونها».        
ما نستفيده من هذه التّفاصيل هو التّوسّع العمودي لفرقة الاعتزال وأنّه يعسر أن نتصوّر إمكان تحقّق ذلك مع أنّ أحد رجالها كان يعتمد آراء إطلاقيّة وتحقيريّة للمرأة.
لكن مع ذلك فما ذكرناه من بعض أقوال الجاحظ في خصوص مسألة المرأة يظلّ حاملا لدلالة ثقافيّة متّصلة بعصره، أي أنّها عبارات مرتبطة بخطاب قائم في أوساط تجعل عموم المرأة أقلّ قيمة إزاء مطلق الرّجال. مثل هذا الخطاب يعتمد تراتبية تكشف عن علاقة إخضاع يتبنّاها قسم رجالي من المجتمع في تصوّره وممارسته إزاء النّساء.
ما يتأكّد بناء على ذلك أنّ القول بوجود بنية تصوّرية تعمل على أساس دونيّة المرأة وأفضليّة الرّجل لا يعني أنّنا أمام بناء ثقافي صمّ وقاعدة مطّردة يشملان جميع الفئات الاجتماعيّة بمختلف أنماط حياتها المادّية وتنوع مستوياتها الحضاريّة. ذلك ما تثبته البحوث المتّصلة بعلم الاجتماع الثّقافي حين تقرّر أنّ الذّات الثّقافيّة تكون حتّى في حالات «الاستقرار» الحضاري حقلَ تباينٍ يبلغ أحيانا أخرى حدَّ التّناقض والصّدام الدّاخليين بين المفاهيم والرّؤى التي تنظّم المجتمع.   
بحث قضيّة المرأة في هذا السّياق لا يكون بالاعتبار البيولوجي وما ينجرّ عنه من وظائف اجتماعيّة، بل بصفته «مفهوما» أي عنصرا معرفيّا يتضمّن كشفا عن التّعدّد والتّراتب المُحَركَيْن للمجتمعات. هو أيضا ليس تناولا للمرأة بصفتها رمزا يوحِّد طاقات المجتمع في سياق إبداعي أو دفاعي.  
في هذا المجال نجد نصّا آخر من «الزّمن الجميل» يكشف لنا تنوّع الزّوايا التي يمكن أن تعرض من خلالها قضيّة المرأة. ذلك أنّ هناك فرقا بين النّظر إلى القضيّة باعتبارها رمزا موحِّدا وبين تناولها مفهومًا يتضمن تراتبيّة وتفريقا يقوم على معرفة أيّ سلطة وسيادة. 
أورد النّص أكثر من مفسّر للقرآن الكريم عند شرح قوله تعالى:﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَىٰ أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ...﴾(الممتحنة: 12). ذكروا عندئذ بيعة هند بنت عتبة زوج أبي سفيان فقالوا إنّ « النّبي ﷺ بايعهنّ وكان على الصّفا، وهند بنت عتبة متنقّبة متنكّرة خوفاً من أن يعرفها رسول اللّه، فقال أُبايعكن على أن لا تشركن باللّه شيئاً، فقالت هند: إنّك لتأخذ علينا أمراً ما أخذتَه على الرّجال، وذلك أنّه بايع الرّجال يومئذ على الإسلام والجهاد فقط، فقال رسول اللّه: ولا تسرقن. فقالت هند: إنّ أبا سفيان ممسك(بخيل) وإنّي أصبتُ من ماله هنات، فلا أدري أيحلّ لي أمّ لا؟ فقال أبو سفيان: ما أصبت من مالي فيما مضى فهو لك حلال.. فضحك رسول اللّه ﷺ وعرفها، فقال لها: وانّك هند بنت عتبة، فقالت: نعم فاعف عمّا سلف يا نبي اللّه، عفا اللّه عنك. فقال: ولا تزنين. قالت هند: أَوَ تزني الحرّة؟! فقال الرّسول: ولا تقتلن أولادكن، قالت هند: ربّيناهم صغاراً وقتلوهم كباراً وأنتم وهم أعلم. وقال النّبي: ولا تأتين ببهتان، قالت هند: واللّه إنّ البهتان قبيح وما تأمرنا إلاّ بالرّشد ومكارم الأخلاق، ولمّا قال: ولا يعصينك في معروف، قالت هند: ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء».
ما يلاحظ في هذا النّص أنّ الحوار فيه كان يجرى على مقتضى رؤيتين: رؤية الدّاعي إلى بيعة النّساء- وهو الرّسول ﷺ - وهي رؤية تريد أن توحّد وتجمع، أي أنّها تنظر إلى المرأة باعتبارها معنى جامعا ورمزا موحِّدا، بينما كانت تعليقات هند بنت عتبة القرشيّة العبشميّه تعبر في الغالب عن منحدرها الاجتماعي والسّيادي، أي عن الفئة المالكة للقوّة والسّلطة ولرؤية خاصّة للذّات. 
لكن مع هذا وذاك، فإنّ هذه النّصوص التّراثية إذ تكشف عن تركيب الذّات الثّقافية وتعايش العناصر المتباينة داخلها أو تصادمها تبيّن درجة التّعقيد التي ستبلغها القضيّة النّسائيّة في سياق معولم. 
إنّ ظاهرة العولمة التي تفرض نفسها على الجميع في المجالات الاقتصاديّة والماليّة والسّياسيّة لن تقف دون اختراق المجالين الاجتماعي والثّقافي. هي لذلك ستواجه طبيعةَ البناء الثّقافي للمجتمعات بما تَعتَوِرُها من اختلافات بتحدّيات أكبر تضاعف من حدّة تمزّقها. 
بذلك تتحوّل قضية المرأة اليوم من مجرّد مسألة ثانويّة ضمن حزمة مسائل أخرى تصوغ أزمة العالم العربي المعاصر، لتصبح في سياق العولمة خاصّة قضيّة إشكاليّةً. إنّها بذلك تتطلّب رؤية بديلة تتجاوز المنظومات الإيديولوجيّة الجاهزة، وتقتضي في المستوى الاجتماعي السّياسي رسم معالم فكر وممارسة يمكّنان من تقدّم حقيقي لقضيّة المرأة داخل مجتمعات عربيّة أكثر تحرّرا وإنسانيّة.