فوق المنبر

بقلم
د. محمد المدنيني
والله غالب على أمره
 الخطبة الأولى 
الحمدُ لِلَّهِ ، كاشفِ الغمّ، مُزيلِ الشّدائد عن المكروبين، مجازي الصّابرين والمحتسبين، قاصم الجبابرة والمعتدين،أحمده سبحانه كتب النّصر لعباده المؤمنين، ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ٱلأَشْهَـٰدُ﴾(غافر: 51) وأشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، من اعتمد عليه كفاه وتولاه فأعظم بكفاية ربّ العالمين،﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾(الطلاق:3)، وأشهد أنّ سيّدنا ومولانا محمّدا عبده ورسوله جاهد في سبيل اللّه بالحجّة والبيان وباليد واللّسان، اللّهم صلّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتّابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. 
أمّا بعد، فيا أيّها المؤمنون الكرام،  يتكلّم اللّه، عزّ وجلّ، عن سنّة ربّانيّة في الصّراع بين الحقّ والباطل، هي انتصار الحقّ ولو قلّ أصحابه، وانهزام الباطل ولو كثر تابعوه ، فيقول تعالى: ﴿قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ (البقرة: 249) ، ويقول تعالى:﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرهِ مَن يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الْأَبْصَارِ﴾(آل عمران:13)
فقد يملك العدوّ وسائل القوّة وأساليب المكر، وقد يخطّط لعدوانه ويستخدم كلّ الأسلحةِ العسكريّة والسّياسيّة والإعلاميّة وغيرِها، ولكن هل يعني كلُّ هذا أنّه سيحقّق الأهداف الّتي خطّط لها، وسيصل إلى النّتائج التي يريدها؟ 
نعم، بإمكان العدوّ أن ينتصر عندما تكون الفئة المؤمنة مصابة بالوهن، مستسلمةً للأمر الواقع، تبكي عجزها دون أن تسعى لتغيير شيء من واقعها، وهي تعلم قول اللّه تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ (الرعد:11).ولكن إذا أخذت هذه الفئة بأسباب النّصر والقوّة،وأحكمت التّخطيط،ونظَّمت صفوفها، وعملت بإخلاص، فإنّ قضيّة النّصر والهزيمة لن ترتبط بالقلّة والكثرة، بل بالإيمان وما أعدّته من تخطيط وتنظيم، وأخذ بأسباب القوّة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ (محمد:7). ومهما احتال العدوّ وخطَّط لإلحاق الهزيمة بالمؤمنين غدراً أو بالوسائل القذرة، فإنَّ اللّه سيعيد مكرَهم إلى نحورهم متى ما وجد الصّدق عند المؤمنين: ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّـهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ (الأنفال:30). 
أيّها المؤمنون الكرام، لو نظرنا جيّدا في مجريات المعركة الّتي يخوضها رجال المقاومة بغزّة، لأدركنا كيف أنّ كلّ العوامل الماديّة على الأرض وفي الجوّ والبحر هي لصالح العدوّ الصّهيوني، ولكنّه لم يستطع أن ينتصر على فئة مقاومة مؤمنة، وبالرّغم من أنّه قتل أكثر واستهدف البشر والحجر والشّجر، فليس هو المنتصر، وبالرّغم من أنّه دمّر وخرّب وجرّف فليس هو المنتصر، وبالرّغم من أنّه رمى من السّماء آلاف الأطنان من القنابل فليس هو المنتصر، وبالرّغم من أنّه قطع شريان الحياة على المدنيّين وجوّعهم وعرّاهم وأظمأهم فليس هو المنتصر...
إنّ الطّائفة المؤمنة في غزّة على الدّين ظاهرون، لعدوّهم قاهرون، لا يضرّهم من خالفهم إلاّ ما أصابهم من لأواء كما أخبرنا الرّسول ﷺ، وهم الّذين أخرجوا الآيات البيّنات من سطور المصحف وترجموها على الأرض، فكان الّذي شاهدناه وشاهده العالم، ومن هذه الآيات قوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ (الأنفال:61)، وقوله عزّ وجلّ:﴿ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾(المائدة:23)، وقوله عزّ من قائل: ﴿فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا﴾ (الأحزاب:26)
أيّها المؤمنون الكرام، شاهدنا وشاهد العالم كيف ابتكر رجال المقاومة أساليب فريدة وخططا جديدة في فنون القتال، لم تعهدها أعتى الجيوش في العالم، وكيف يصطاد رجل المقاومة جنود الاحتلال من المسافة صفر، وذلك بوضع قذيفة داخل دبابة الميركافا، قبل أن يفارقها لتبدأ النّار بالاشتعال في الدبّابة ومن فيها. وكيف ينفّذ المقاومون عملياتهم الجهاديّة ببراعة في أقسى الظّروف وبأدنى الإمكانات.
أيّها المؤمنون الكرام، شاهدنا وشاهد العالم، شبابا طاهرا نقيّا تقيّا ، يبيعون أرواحهم رخيصة في سبيل ما يؤمنون به، وهم لازالوا في ريعان الشّباب، وبدايات الحياة؛ إنّهم شباب لم تصنعهم مؤسّسات الدّنيا وإنّما تخرّجوا من مصانع الزّهراويْن والأنفال والتّوبة... إنّهم حقّقوا المعنى الأوّل من قوله تعالى:﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾(محمد:7)، فتحقّق بالضّرورة الالتحام بالمعنى الثّاني،وهو نصر اللّه وتثبيت الأقدام.
أقول ما سمعتم وأستغفر اللّه العظيم لي ولكم من كلّ ذنب فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرّحيم، ولا حول ولا قوّة إلاّ باللّه العليّ العظيم. 
الخطبة الثّانية
إنّ الحمد للّه؛ نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ باللّه من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده اللّه فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له،وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.﴿َيا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِـهِ وَلا تَمُوتُـن إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُــون﴾ (آل عمران:102). ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا﴾ (النساء:1).﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً﴾ (الأحزاب:70-71).
 أمّا بعد، فيا أيّها المؤمنون الكرام: يقول تعالى: ﴿وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ (النساء: 104)، ورجال المقاومة في هذه الأيّام العصيبة لا يبدون ضعفا في طلب عدّوهم الصّهيوني، بل يبذلون ما في وسعهم في قتاله ورصده والتّضييق عليه، وإن كان يصيبهم القتل والجراح والأسر، ويألمون لذلك ألما شديدا كما تألم الأمّة الإسلاميّة لكلّ ما يجري في غزّة الأبيّة، فإنّ العدوّ الصّهيوني يألم أيضا عندما يرى ما تكبّده من خسائر فادحة في الأرواح والعتاد، وما لحقه من ذلّ وهوان وخسران على الرّغم من الإمكانيّات العسكريّة الرّهيبة، والدّعم الأمريكي والأوروبي غير المشروط، يقول الحقّ تبارك وتعالى: ﴿إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ﴾ (النساء: 104)
وإن كان أهل غزّة وفلسطين والعدو الصّهيوني سواء فيما يصيبهم من الجراح والآلام ، فإنّهم يرجون من اللّه المثوبة والنّصر والتأييد، وعدوّهم لا يرجو شيئا من ذلك. ولذلك فهم بهذا الرّجاء موقنون، صابرون وثابتون على أهوال المحنة والشّدّة.
واتقوا اللّه الذي أنتم به مؤمنون﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ﴾(النحل: 128)
عباد اللّه، يقول اللّه ولم يزل قائلا عليما ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾(الأحزاب 56) اللّهم صلّ وسلّم على سيّدنا محمّد سيّد الحامدين.اللّهم صلّ وسلّم على سيّدنا محمد سيّد السّاجدين.اللّهم صلّ وسلّم على سيّدنا محمد سيّد المجاهدين.
اللّهم انصر كتابك ودينك وعبادك المؤمنين، وأظهر الهدى ودينَ الحقّ الذي بعثت به نبيّنا محمداﷺعلى الدّين كلّه. اللّهم انصر المجاهدين في أرض فلسطين. وعذّب اليهود والكفار والمنافقين الذين يصدّون عن سبيلك ويبدّلون دينك ويعادُون المؤمنين.اللّهمّ خالف كلمة اليهود وشتّت بين قلوبهم،واجعل تدميرهم في تدبيرهم، وأدر عليهم دائرة السّوء.
اللّهم أنزل بهم بأسك الذي لا يردّ عن القوم المجرمين.اللّهمّ مجري السّحاب!ومنزّل الكتاب!وهازم الأحزاب!أهزمهم وزلزلهم وانصرنا عليهم.ربّنا أعنّا ولا تعن علينا.وانصرنا ولا تنصر علينا.وامكر لنا ولا تمكر علينا. واهدنا ويسّر الهدى لنا وانصرنا على من بغى علينا.
اللّهمّ إنّا نستغفرك من كلّ ذنب تبنا منه إليك ثمّ عدنا فيه، ونستغفرك من كلّ ما وعدناك به من أنفسنا ولم نوف لك به، ونستغفرك من كلّ عمل أردنا به وجهك فخالطه غيرك، ونستغفرك من كلّ نعمة أنعمت بها علينا فاستعنّا بها على معصيتك،ونستغفرك يا عالم الغيب والشّهادة من كلّ ذنب أتيناه في ضوء النّهار وسواد اللّيل في ملإ أو خلاء أو سر أو علانيّة يا رحمن يارحيم يا ربّ العالمين. سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله ربّ العالمين.