حديث في الأدب

بقلم
أ.د.وليد قصاب
نظريات أم تقليعات؟
 يتسارع ما يسمّى بالمذاهب والنّظريّات الأدبيّة والفكريّة والفلسفيّة في عالم اليوم تسارعًا منقطع النّظير، حتى صار من العسير على أيّ قارئ مهما كان نهمه للقراءة والاطلاع أن يلاحقها، أو يتتبّع آخر مستجداتها.
ويلاحظ أنّ المذاهب الأدبيّة والمناهج النّقديّة –إذا خصّصنا الكلام بها- مناهج ثوريّة، ومن طبيعة هذه الثّورة أن تقوم على هدم ماقد سبقها وتقويض؛ إذ لم يعد الفكر ذا بناء تزامنيّ تصاعديّ يكمل بعضه بعضًا، أويتمّمه، ويستدرك النّقص فيه.
ثمّ إنّ هذه المناهج لا تكتفي بأن تقدّم نفسها على أنّها « تقليعة» أو اتجاه جديد، بل تدّعي العلميّة، وتدّعي أنّها تقوم على أصول فلسفيّة، ومن طبيعة ذلك أن يجعلها تحاول تعميم أفكارها، والتّعميم عندئذٍ معناه نفي لفكر الآخر، والسّخرية منه، أو تحجيمه.
إنّ هذه الاتجاهات الحداثيّة وما بعد الحداثيّة والتي هي أشبه بـ «الموضات» أو «الصّرعات» أو «التّقليعات»تعرض نفسها على أنّها نظرياّت، أو تعرض نفسها على أنّها فلسفات: النّظريّة البنيويّة، النّظريّة التّفكيكيّة، نظريّة القراءة والتّلقي، النّظريّة السّيميائيّة، وغير ذلك كثير ..
وإنّ من شأن ما يسمّى نظريّة أو فلسفةً – حتّى يكون كذلك-  أمرين:
أولًا: قيامه على أسس علميّة موضوعيّة لا تقبل المراجعة.
ثانيًا: قدرته على الاستيعاب، والشّمول، والتّعميم، على أكبر قدر ممكن من الظّواهر إن لم نقل جميعها. 
ولكنّنا لا نجد هذا منطبقًا على كثير ممّا يُقدّم إلينا على أنّه نظريّة، ومن قبيل التّمثيل نقول:
* إنّه إذا  ماجاء واحدٌ – كما تفعل البنيويّة- ليدّعي أنّ النّصّ الأدبي  هو لغة فحسب، وأنّ في داخله كلّ شيء يحتاجه النّاقد لدراسته؛ فإنّ ذلك سيعني – في المقابل-  نفي المؤلف، والتّاريخ، والثّقافة، والبيئة، والاكتفاء بنظرة أحاديّة لا تهتمّ إلاّ بلغة النّصّ وحده، فهل يمكن لمثل هذا الفكر الذي يقصي عناصر كبرى لا يمكن تجاهلها أن يدّعي أنّه  نظريّة علمية؟
ثمّ تمضي هذه التي تسمّي نفسها « النّظرية البنيويّة» إلى أبعد من ذلك بكثير؛ فلا تكتفي بمجرّد ادّعاء أنّها نظريّة لغويّة نقديّة، بل تدّعي أنّها «فلسفة» كبرى تنتظم جميع الظّواهر الكونيّة والإنسانيّة، بل تعيد تقديم تصوّر جديد عن الظّواهر الكونيّة والإنسانيّة. 
* ثمّ يأتي- في المقابل- إلى هذه البنيويّة، التي كانت تقدّم نفسها على أنّها نظريّة، بل فلسفة، من يلغيها بجرّة قلم، بل من يدّعي عكس ما ادعته تمامًا؛ إذ سيقول لنا  إنّ النّص – الذي قامت عليه هذه الفلسفة البنيويّة- لا سلطان له، بل لا حضور له أصلاً، وهو لا يوجد إلاّ بوجود القارئ، ولا شأن له إلاّ بهذا القارئ، وهو لا يملك وحده أيّة مصداقيّة، وإنّ القارئ وحده هو الذي يفسّره ويؤوّله،  وهو سلطان عليه، وهو منتج له لا مستهلك، بل هو ليس قارئاً له بل مبدعًا شريكاً في إنتاجه وكتابته، وإن  كل ما عدا هذا هو كلام غير علمي ينبغي أن يُستبعد. وسيسمّي صاحب هذا الكلام الذي استبعد ما لا حصر له من العناصر الدّاخليّة والخارجيّة هذا نظريّة «النّظرية التّفكيكيّة» بل سيسمّيه «الفلسفة التّفكيكية».
ترى أهان شأن النّظريّات والفلسفات إلى هذا الحدّ؛ حتّى صار يُطلق على كلّ هراء تقذف به أفكار متطرّفة، أو عقول مريضة، اسم النّظريّة أو الفلسفة؟
لقد صارت حركة  المذاهب الأدبيّة والمناهج النّقديّة الحديثة في الفكر الغربي، وهي على هذه الصّورة – كما يقول عباس محمود العقاد رحمه اللّه – كالأمواج التي يلغي بعضها بعضاً. وشبّهها بالأزياء أو التّقليعات، ونفى أن يصحّ أن يُطلق عليها أنّها مذاهب أو مدارس، وإنّما الأحرى أن تسمّى بالأزياء والجدائل العارضة «الموضات» التي تتغيّر مع الزّمن، وقد تعود في صورة أخرى بعد فترة طويلة أو قصيرة.(1)
أو هي  كما يقول عز الدين إسماعيل – رحمه اللّه -: « إنّ كلّ مذهب يتطرّف في اتجاهه حتّى يصل إلى زمن يحسّ النّاس فيه بأنّه ليس كافياً للتّعبير، ويمضون يبحثون عن أسلوب جديد ..»(2)
ولكنّ المشكلة أنّ هذا الإحساس بالتّطرّف لا يقود أصحابه إلى التّعقّل والاتزان، لا يقودهم إلى الاعتدال، وإلى الاستماع إلى جميع الأصوات، إنّ إحساسهم بتطرّف المناهج التي سبقتهم لا يقودهم إلى القصد، والكفّ عن الجموح، بل يقودهم إلى تطرف آخر، وكذا شأن كلّ فكر عندما يكون ردّة فعل على فكر آخر، وليس مولودًا طبيعيًّا من رحم الواقع والحياة.
إنّ طبيعة الظّاهرة الأدبيّة فيها من الاتساع الفنيّ، وفيها من الملابسات والملاحظ، ما يجعلها مجالاً لكثير من الآراء والأقاويل والتّفسيرات، فيها النّفسيّ والاجتماعيّ والفلسفيّ، وفيها الجماليّ واللّغويّ، والسّيميائيّ، وغير ذلك.
ولكنّ هذا لا يعني أن يستأثر واحد من هذه الوجوه بالظّاهرة الأدبيّة، أو أن يدّعي أنّه – وحده- الذي يقدِّم الحقيقة فيها، أو أنّه – وحده- النّظريّة، أو الفلسفة، وأنّ ما عداه  شيء هامشيّ لا قيمة له. 
إنّ هذا عندئذٍ لهو أقصى درجات الغلوّ والدّكتاتوريّة في الرّأي.
الهوامش
(1) دراسات في المذاهب الأدبية والاجتماعية: ص13
(2) الأدب وفنونه: ص54