بهدوء

بقلم
د.ناجي حجلاوي
براءة الشهادة الحلقة التاسعة : الشهيد في المسيحية
 أ‌. من هو الشّهيد؟
وردت مادّة «شَهِدَ» في العهد الجديد للتّعبير عن معنى الشّهادة بمعان هي ألصق بالمعنى اللّغوي وهي الإدلاء بالرّأي المُبين أمام القاضي: «ما حاجتنا بعد إلى شهود»(1)، وقد ورد في أعمال الرّسل فيما يتعلّق بإستفانوس رئيس الشّمامسة ما يلي: «وأقاموا عليه شهود زور ادّعوْا أنّه: لا يكفُّ عن التّعرّض بكلامه للهيكل المقدّس وللشّريعة»(2). وكذلك ما ورد في رسالة بولس الرّسول: «أمسِك بالحياة الأبديّة التي إليها دُعيت أيضا واعترفت الاعتراف الحَسَن أمام شهود كثيرين»(3). 
وقد اعتبر إنجيل لوقا أنّ أنصار المسيح كلّهم شهود: «وأنتم شهود لذلك»(4). وإلى جانب هذا المعنى القولي للشّهادة نُلفي المضمون البصري في معنى المشاهدة المتمثّلة في رؤية الجماعة الرّسوليّة لليسوع النّاصري «نحن شهود بكلّ ما فعل»(5). وستتضمّن مادّة «شهد» معانيَ أكثر عُمقا عندما تُستخدم في أعمال الرّسل بمعنى الشّهادة بالحقّ عند حلول الرّوح القدس بالمستشهد: «ستنالون قوّة الشّهادة متى حلّ الرّوح القدس عليكم وتكونون لي شهودا»(6). «يسوع هذا أقامه اللّه ونحن جميعا شهود لذلك. ورئيس الحياة قتلتموه الذي أقامه اللّه من بين الأموات ونحن شهود لذلك»(7). 
والشّهيد، في هذا الفضاء الثّقافي، هو كلّ من سلّم حياته للموت من أجل الإيمان بالسّيد المسيح سواء كان كاهنا أو كان من الشّعب، أيّا كان جنسه أو سنّه. وهو في معجم «روبار» هو الشّخص الّذي يعذّب إلى حدّ الموت من أجل الارتداد عن دينه(8). 
والشّهيد، في المسيحيّة، نوعان: الأوّل شهيد فم يشهد، قولا، للمسيح بالإيمان وقد يلحقه العذاب بمقتضاه ولا يموت وعندئذ يسمّى بالمعترف. والثّاني شهيد الدّم، يشهد فعلا، وهو الذي يُمتحن ويعذّب حتّى يقضى عليه(9). 
تُرجع بعض المصادر أنّ كلمة الشّهيد ذات أصل يوناني Martyrium ومعناه مكان شهادة ومنها أُخذت كلمة Martym التي تعني كنيسة صغيرة تحمل ذكرى شهيد(10). وفي كلّ الأحوال، أصبح الدّم المسفوح عنصرا جوهريّا في تحديد مفهوم الشّهيد مسيحيّا.
ب‌. الدّم المُمجّد
لقد اتخذت كلمة شهيد دفقا حيويّا وشحنة روحيّة متميّزة في العهد الجديد منذ استشهاد «إستفانوس» أوّل قتيل في سبيل الاعتراف بالمسيح إلها(11). والشّهداء يحتلّون مكانة كبرى في الفكر الكنسي لأنّهم يمثّلون الوسائط التي وصلت عبرها المسيحيّة النّقيّة، ومن هؤلاء الشّهداء الآباء الرّسل(12). و«إستفانوس» هو تلميذ الحياة الذي صار موته دليلا على الحقيقة التي تمسك بها على حدّ عبارة «غريغوريوس»(13) . 
والشّهادة، في الثّقافة المسيحيّة، هي تبشير وقداسة وتشبّه بالسّيد المسيح وبرهنة على صدق القول والعمل وعلامة شجاعة وانتصار على قساوة التّعذيب. وهي قربان الدّماء والحياة إلى الرّب. وهي إرواء لشجرة الكنيسة ونبتة الإيمان الطّاهرة بماء الحياة رغبة في نيْل قيامة أفضل. فهذه الأمّ «دولاجي» تُقدّم أبناءها الأربعة قربانا وذبائح حيّة للّه. وهذه «رِفقة التس» تستشهد مع أبنائها الخمسة، وهذه الشّهيدة «يوليطة» تقدّم ابنها «كيرياكوس» شهيدا للمسيح. وأمّا «زكريا» الطّفل الشّهيد، الّذي هو من «أخميم»، فقد أُحرق هو وأبوه. وبسببهما آمن كثيرون(14).    
وسير الشّهداء مفعمة بعبق روائح المُرّ واللُّبان(15). والشّهادة دليل حبّ صادق للفادي المخلّص ولا جزاء لها إلاّ المجد. واسمع المسيح يقول: «يُسلّمونكم إلى ضيق ويقتلُونكم وتكونون مُبغضين من أجل اسمي. والّذي يصبر إلى المُنتهى ذاك يخلُص»(16). إنّها النّبوءة المفعمة بالبّشارة الممزوجة بالآلام المفروضة على حاملي إنجيله والمُفضية، لا محالة إلى الموت.
ت‌. فلسفة الموت
ولا غرابة في مأساويّة المصير الذي يلقاه المؤمنون إذا تدخّلت السّياسة في الشّأن الدّيني، فالنّتيجة لا محالة ستكون كارثية دمويّة، فإستفانوس رُجم سنة 36م، ويعقوب الكبير بن زبدي شقيق يوحنا قتله هيرودس بالسّيف سنة 44م(17). وهذا يعقوب بن زيدي يُقتل ليرتفع، ما حاد بالبعض إلى التّفكير في أنّ الدّور الذي اضطلعت به الأحداث وعنف القمع الدّيني الذي شهدته الحياة الدّينية المسيحيّة أمر يستوجب إعادة النّظر ويدعو إلى النّقاش لإنتاج نظام مختلف تماما (18). وإذا كانت السّلطة تمارس نفوذها على الأجساد والأشباح، فالفكرة إذا ارتوت بدماء صاحبها تزداد تجذّرا وعلّوا. 
وتدريجيا أصبح الموت علامة دالة على حياة الفكرة وصدق التّعاليم. وهكذا حُبّب  الموت للمؤمنين لأجل اسم المسيح وعُذّبوا بالألم لنيْل المجد اتّحادا مع الذّبيحة بواسطة الاستشهاد(19). وبتزايد الضّحايا واتّساع دوائر الآلام، اكتسبت الكنيسة رصيدا معنويّا يهوّن من شأن الموت. فالقدّيس أبا فام الجندي لما دُعي للاستشهاد لبس أحسن ما لديْه وأفخر كساء، وقال: «هذا يوم عُرسي». وبترسيخ هذه العقيدة ترسبّت في  غضون القرن الثّاني للميلاد أنّ الاستشهاد عقيدة راسخة في الكنيسة. 
وقد أحسّت الكنيسة أنّ صفة الشّهيد قد بدأت تضيق في التّعبير عن عميق دلالتها فأضافت العبارات التّالية: الكامل والمغبوط والطوباوي والسّعيد(20). فآلام الموت في فضاء الشّهادة لحظات زائلة ضئيلة أمام  الفرح الأبدي الخالد الذي يليها. 
إنّ الاضطهاد الّذي عرفته الكنيسة في تاريخها مخلّد في سفر أعمال الرّسل حيث نجد الملك هيرودس قد نكّل بالكثيرين وأزهق أنفسا عديدة  من أتباع الكنيسة. وسجن العديد منهم وعلى رأسهم الرّسول بُطرس. ولقد تزايدت حملات الاضطهاد على الكنيسة وأتباعها منذ القرون الميلاديّة الأولى. وتفاقم هذا الاضطهاد أيّام الأباطرة مثل نيرون وتراجان ولاسيّما دقلديانوس الذي بلغ عدد الشّهداء في عصره 144ألف وقيل 800 ألف. ومع ذلك تساوق الاضطهاد مع تزايد الرّاغبين في الشّهادة. وهم التّلاميذ المختارون الذين حافظوا على وديعة الإيمان بالدّماء، حيث مثّلت العقيدة لديْهم الموطن والهوّية(21).
 وقد مجّدت المواعظ منزلة الشّهيد الممثّل لسيرة الرّاعي والفادي والمخلّص. يقول لكتانتيوس في دفاعه عن المسيحية أنّه في زمان اضطهاد دقلديانوس كان الوثنيّون قد قرّروا سفك دم المسيحيّين حتّى أنّهم في فريجيا أحرقوا جماعة كاملة في الكنيسة حيث اعتادوا أن يجتمعوا. 
ويسجّل أرنوبيوس الكلام نفسه في دفاعه، ويقول: لماذا تحرق كُتبنا المُقدّسة في النّار؟ لماذا تُهدم كنائسنا وتُحرق؟(22). وقد كان المؤمن يُعذّب بالإشعال أو بالقلي في الزّيت المُغلّى أو بالإلقاء إلى الوحوش أو بالإجبار على السّير بالأقدام المجروحة الدّامية فوق الأشواك والمسامير والقواقع المُدبّبة أو بالطّلي أو الدّهن بالقار والزّيت والصمغ أو التّسمير على الأعمدة ليُضيئوا كالمشاعل لتسلية الجماهير أو بالسّلخ أو بالرّميْ في النّار أوفي البحيرات الجليديّة أو بالسّجن أو الضّرب أو بالبتر والسّمل أو السّحل أو تمرير العجلات المُسنّنة فوق جسم المُعترف أو بالعصر والكسر أو الدّفن حيّا أو بقر البطون للحوامل أو شطر المؤمن شطريْن. وكثيرا ما كانت الخنادق تُملأ بالجثث. 
وأبرز الّذين نالوا بركات الاستشهاد هم: القدّيسان بولس وبطرس الرّسولان، وسمعان الأسقف والقدّيس يوحنا الرّسول، وسمعان أسقف أورشليم، والأسقف الأنطاكي أغناطيوس الرّسولي، والقديس بوليكاربوس أسقف أزمير، وبلاندينا السّيدة المسيحيّة من ليون بفرنسا، وفيكتور أسقف روما، ولاونديوس والد الفيلسوف المسيحي الإسكندري أوريجين، والقدّيسة بوتامينا، والقدّيس مرقوريوس أبي سيفين، وبابيلاس الأنطاكي، والشّهيد الإفريقي كبريانوس القرطاجي أسقف قرطاجنة، وفيلكس أسقف روما وأغابتيوس. 
ولترتليان رأي معبّر عن المذابح المروّعة بسبب الانتماء إلى العقيدة. إذ أنّ كلّ المأسورين في سجون الإمبراطورية ليسوا مُتّهمين إلاّ بتهمة انتمائهم للمسيحية(23). والمهمّ، أنّ المسيحيّ المُمتحن لم يكن يقاوم مضطهديه ولا يحمل عليهم حقدا، وإنّما كان يقدّم شهادة دموية صامتة لأنّه ّأوّل العارفين بجهل قاتليه تأسيا بالمسيح المبشّر بالمحبّة والفرح(24). «فالصّلاة تنتعش وتزكو رائحتها في معصرة الاضطهادات إذا كانت بحقٍّ شركة في الآلام والعذابات»(25). 
وعليه فإنّ البطولة في هذا المقام تنبع من فلسفة الزّهد في الحياة وتضاؤل قيمة الجسد أمام قوّة الرّهبانية. فكلّما تتهاوى أعضاء المسيح تحت الصّلب والإماتة فإنّ الكنيسة تزهو بخطاها وسط البرك الدّموية الّتي يُزّف إليها العرسان حيث يقترب البعيد وتحيا فيها العقيدة والكنيسة بالسّلام. 
وقد دأبت الكنيسة على اعتبار موت الشّهيد هو يوم ميلاده لأنّ الموت بوّابة يلج منها الشّهيد عوالم الحياة الحقيقية. قال القديس كبريانوس: «أيها البواسل المغبوطون، إنّ الكنيسة أمّكم فخورة بكم، ومن لا تكون له الكنيسة أُمّا لا يكون الله له أبّا. أيها المُتسربلون بالبأس، عظيمة هي قوّة عزيمتكم وثبات أمانتكم حتّى نهاية المجد، لم تخضعوا للعذابات بل العذابات هي الّتي خضعت لكم واستعجلتكم لنيل الأكاليل»(26).   
ومع كلّ شهيد ينتصر المسيح وتترسّخ المسيحيّة وتتوطّد أركان الكنيسة. وفي الاضطهاد تعمر مملكة السّماء وتنتشر المحبّة، فالمسيحيون  يُلقوْن  إلى الوحوش الضّارية بُغية حملهم على إنكار الرّب ولكنهم بالموت ينتصرون. وهم كلّما عوقبوا، ازداد الّذين يعتنقون إيمانهم. وكلّ هذا ليس من أعمال البشر بل هي معجزة الله وهي دليل ظهوره في الجسد(27). وإنْ كان هذا الظّهور موْسوما بالألم.
ث‌. لذّة الألم 
واضح أنّ طريق المؤمن المسيحي قد رُسم منذ البداية محفوفا بالآلام والأوجاع «إن كانوا قد اضطهدوني فسيضطهدونكم»(28). وقد لخّص الرّسول «بولس» شهادة الشّهيد مستحضرا لحظة سفك الدّماء من إستفانوس: «وحين سُفك دم إستفانوس شهيدك كنت أنا واقفا وراضيا بقتله»(29). فهو الشّهيد الكامل الّذي امتلأ إيمانا، وقدّم الشّهادة للمسيح ودلّل على كرامة المجد. وعليه، فدون سفك الدّماء لا تكون المغفرة ودون التّضحية بالنّفس لا تكون الشّهادة الفعلية الكاملة، فالشّهيد يُعدّ من أهل السّماء. وهو مُعانٍ للألم، لا من أجل السّرقة أو القتل بل من أجل عالم اللّه الطّاهر(30).  ولا غرو في ذلك فالمسيح، هو الشّهيد الأوّل،  وصاحب الدّم المسفوك هو الذي يعطي للشّهداء القدرة على سفك دمائهم ويهبهم الغلبة وغفران الخطايا، يقول ترتليان: «إنّ الاستشهاد ميلاد جديد تربح فيه النّفس حياتها الأبديّة»(31).
وهكذا دأبت الكنيسة على تقديم تربية لأتباعها، تعلّمهم الذّخيرة الدّفاعيّة المنتزعة بدماء الاستشهاد اعترافا بالرّوح المسيحيّة السّامية تأسّيا بسيرة المعلّم الأوّل صاحب المجد. «فالموت كان يُوافي المُعترف في نهاية الآلام، بعد جولات من الاضطهاد والتّعذيب الجسدي والأدبي»(32). وقد برهن الأبطال الذين ماتوا في سبيل عقيدتهم على صدق إيمانهم وشدّة تلذّذهم بعذوبة الألم بفضل القوّة المستلهمة من المسيحيّة. وقد حقّقوا من صدقهم معجزات دعت لمزيد الدّخول في هذا الدّين، فالقيود الحديديّة كانت تنكسر وتنفكّ من تلقاء ذاتها، وكانت النّيران تُطفأ سريعا لمجرّد التّقدّم إليها بثبات كحال «تكلة» أوّل شهيدة، وهي تلميذة الرّسول «بولس» التي ألقيت في النّار الملتهبة، ولكنّها لم تمسّها بسوء لأنّ الرّب زلزل الأرض وأرسل سحابة انهمر منها مطر شديد(33). وهو ما يزيد في حدّة التّشبّث بالألم اللّذيذ.
ولا غرو في ذلك، فالشّهادة بوّابة مقدّسة تخوّل الاتّحاد مع صاحب المجد. وهي قيمة روحيّة تمثّل الثّمرة الطّبيعيّة للتّربية ومسار يجعلان القيود كالقلائد الإيمانيّة الأكثر نفاسة من قلائد الذّهب، علما بأنّ الأمل لا ينمو إلاّ في ربوع الألم، ما يدعو النّاجين من الموت إلى استشهاد الضّمير باستمرار حيث تصبح الشّهادة لذّة مشتهاة. فالموت في رحاب الكنيسة، حينئذ، يُقرب البعيد ويُوطّد القريب. ويزداد الثّابت ثباتا. فينمو ملكوت اللّه ويزداد بهاء، متجلّيا في انتصار الشّهيد بموته على عدّوه الوثني. فالموت لم يُبِدْ ربّ المجد وعريس السّماء. وهو ما يُحيل على أنّ الشّهيد يتمتّع ببركة عالية.
ج‌. بركات الشّهيد
دأب الأباطرة على تعذيب المؤمن المسيحي المعروف بإيمانه حتّى أنّ رواية تذكر أنّ المعترفين قد بردت أجسامهم بمفعول الموت، إلاّ واحدا ظلّت بقيّة حياة تدُب فيه. فتقدّمت أمّه ووضعته في العربة التي تحمل الأموات إلى الحريق(34). وهذه الحادثة تثبت مدى البقاء على العهد الإفخارستي. فالشّهيد يتحدّ بالمسيح اتّحادا جوهريّا وهو بركة وحصن للدّين. وهو أول الظّافرين بالحياة الخالدة. وهو مُلاق مجده، ويسكن في رحاب السّماء. ونفسه تتمتّع بالأحضان الأبويّة المعوّضة لما  فات في الدّار الفانية.
إنّ الشّهيد رمز الحياة النّقية الطّاهرة بالإيمان، والعفّة والطّهارة، والتّمسك الصّادق بالعقيدة. والشّهداء بررة. مآلهم الفردوس. وبركاتهم تتجلّى بعدهم في تزايد عدد المعتنقين للمسيحيّة بمفعول صبرهم وضربهم النّموذج الأوفى في الجهاد. والكنيسة تنعم من بركاتهم بالسّلم وانحسار القوى الشّيطانية، لأنّ موت الشّهيد تجسيد حيّ لما تعرّض إليه الرّب الإله. وهكذا يثبت الخلاص وتتحقّق الشّهادة في الواقع المعيش.
إنّ الشّهيد المسيحي مسلّح بسلاح الرّوح الذي يتسامى به على الأوثان. وهو شخص مبارك لأنّه ابن المسيح المحبوب. وهو المشارك له في شرب كأس الحياة الأبديّة. والشّهيد دائم البشارة والتّبشير قبل موته وبعده. وهو بذلك امتداد للأحياء. ومهندس المعنى الحقيقي للحياة. وهو الحافظ  للإيمان لأنّه ابن الكنيسة القدّيس الأمين. وعليه فإنّ الدّماء التي سُفكت تعادل المعموديّة وجالبة للنّعمة ومتسبّبة في مغفرة الخطايا. والمهمّ أنّ الشّهيد وإنْ مات بالجسد، فإنّ روحه حيّة في المجد تستوجب التّعظيم والتّبجيل(35). ومنفعة الشّهيد لا تقتصر على إعلاء كلمة الكنيسة فقط فحسب وإنّما هو صاحب شفاعة، يقول القدّيس «يوحنا» بطريك القسطنطينيّة: «لنترجى الشّهداء ونتوسّل إليهم أن يشفعوا فينا إذ أنّ لهم دالّة كبيرة للشّفاعة فينا، بل وقد صارت دالّتهم بعد الموت أعظم بكثير مما كانت من قبل»(36). وهو المعنى ذاته الذي يؤكّده أوريجانس فيما ذهب إليه من أنّ عمل الكاهن إنّما يشفع بخصوص خطايا النّاس رفضا للسّكوت وإكمالا للطّريق ورفعا للخيمة(37). وما ذاك، في حقيقة الأمر، إلاّ  تأسّ بالرّب اليسوع المسيح، أوّل الشّهداء الّذي  صلّى من أجل الآخرين، وقدّم دمه تطهيرا لكلّ إثم وكلّ خطيئة. 
وشفاعة الشّهداء مطلوبة لصالح  غيرهم طلبا لسلامتهم وشفائهم لأنّهم أحياء. ومصداق ذلك الآية التّالية: «فإنّه ليس إله أموات بل هو إله أحياء»(38). وحياة هؤلاء القدّيسين في الفردوس هي المبرّر الكافي لشفاعتهم في غيرهم من المخطئين في كلّ العالم. فاللّه يحبّ عباده ويحبّ أن يعطيَهم ويطلب شفاعة الأبرار والشّهداء والقدّيسين فيهم كما شفع النّبي داود في سُليْمان(39). وقد  أكّد كيرلس الأورشليمي شفاعة الشّهداء في غيرهم بقوله: «نذكر أولا رؤساء البطاركة والأنبياء والرّسل والشّهداء، حتّى بصلواتهم وشفاعاتهم نجد نعمة عند الرّب وتُقبل توسُلاتنا»(40). 
وما زاد في قيمة الشّهيد وبركته هو  أنّه صاحب إكليل ساكن في الوطن السّماوي لأنّه تحرّر من شوائب هذا العالم بعد أن دفع دمه ضريبة للملكوت والفردوس الأعلى(41). وإذ تحرص الكنيسة على إبراز بركات الشّهيد إعلاء لقدْره فإنّها تُوقد له الشّموع، وتتضرّع باسمه، وتذكر أعمال شهادته وتمدحه وتعظم سجلّ فخره، وتعتزّ بالانتماء إليه، وتنشر كمالاته ليتأسّى بها النّاس. فالشّهيد بمعموديّة الدّم يضاهي منزلة الرّسول وهو صورة له. وهو بذلك يحتلّ أهمّ مرتبة كهنوتيّة في الكنيسة(42).
إنّ جسد الشّهيد يُعدّ ذخيرة مقدّسة تودع في أهمّ الأماكن وأكثرها قداسة، تبعا لما نصّ عليه سفر الرّؤيا: «رأيت تحت المذبح نفوس الذين قُتلوا من أجل كلمة اللّه ومن أجل الشّهادة التي أدّوْها»(43). ويؤكّد القدّيس «تورين مكسيموس» قيمة الشّهداء وبركات أجسادهم في قوله: «إنّ أسلافنا أوصونا أن نُلصق أجسادنا بعظام الشّهداء حتّى حينما يُشرق المسيح على الشّهداء يرفع عنّا ضمنا ما فينا من ظلام»(44).
الهوامش
(1)  إنجيل مرقس الإصحاح 14: المؤامرة لقتل يسوع، الآية63، ص77.
(2)  أعمال الرّسل، الإصحاح6: اختيار سبعة لمساعدة الرّسل، الآية13، ص180.
(3) رسالة بولس الرّسول الأولى إلى تيموثاوس، الإصحاح6: العبيد، الآية12، ص315.
(4) إنجيل لوقا، الإصحاح24: قيامة يسوع المسيح، الآية48، ص 132.
(5) أعمال الرّسل، الإصحاح10: بطرس وكرنيليوس، الآيتان39،38، ص188.
(6) أعمال الرّسل، الإصحاح1: صعود المسيح إلى السّماء، الآية 8، ص171.
(7) أعمال الرّسل الإصحاح2: الإمتلاء من الرّوح القدس، الآية32، ص174. والإصحاح 3: شفاء كسيح، الآية15، ص175.
(8) Alain Rey, le Micro-Robert plus, édition Robert , Paris, France, 1988, p623.                                                                                                
(9) بطرس عبد الملك ومن معه، قاموس الكتاب المقدّس، دائرة المعارف الكتابية المسيحيّة، ط1، 1894، ص64. وتادرس يعقوب ملطي، قاموس المصطلحات الكنسية، مطبعة الأخوة المصريين، القاهرة، 1991، ص21، وص35. 
(10) Paul Robert, petit Robert, t1, texte remanié et amplifié sous la direction de Josetie Rey-Debove et Alain Rey
Paris, 1994, p1361
(11) راهب من دير أنبا أنطونيوس، نصوص مختارة من كتابات العلاّمة ترتليان، مراجعة تادرس يعقوب ملطي، مكتبة كنيسة الشّهيد مارجرجس سبورتنج، ط1، 2014،  ص31. وترتليان هو كوينتس سبتيموس فلورنس، ت230م، هو كاتب أمازيغي  ومفكر مسيحي بونيقي، نقل الثّقافة المسيحية إلى اللّغة اللاتينية. وقد تصدى إلى الهرطقة والغنوص مُحدثا مفاهيم جديدة  في الفكر الدّيني المسيحي وبذلك يُعدّ المؤسّس للتّيار للبروتستانتي.  
انظر Gonzáles Justo, The Early Church to the Dawn of the Reformation,The Story of Christianity, tome 1, New York: HarperCollins, Publishers 2010, pp91,93.    
(12)  فهمي جورج، الاستشهاد في فكر الآباء: علم المارترولوجي،  مطبعة سيوبرس، ط2، 2019، ص74.
(13)غريغوريوس النيصي، إسطفانوس أول شهداء المسيحية، تعريب سعيد حكيم يعقوب، جي. سي. سنتر، مصر الجديدة، ط1، 2017، ص22.
(14) فهمي جورج، الاستشهاد في فكر الآباء، م ن، ص83.
(15) سفر نشيد الأنشاد،الإصحاح3، الآية6، ص820.
(16) إنجيل متى، الإصحاح24 : المسيح ينبئ بخراب الهيكل، الآية9، ص38.
(17) انظر كتاب الحياة، جي.سي. سنتر، دت، العهد الجديد، سفر أعمال الرّسل، الإصحاح12: استشهاد يعقوب، الآيتان 2،1، ص190.
(18) Pierre Cameron, Le martyrologe de Jean Crespin, étude de ses éditions XVI siècle, thèse présentée à la faculté des études supérieurs, université de Montréal, Juillet 1995, p22.  
(19) فهمي جورج، م ن، ص22.
(20) فهمي جورج، م ن، ص23.
(21) V. L’ordre de Grégoire XIII, Martyrologe romain, librairie  poussielgue frères, 1878, Martyrologe romain pour chaque jour de l’année,  p1.                                                                     
(22) جورج فهمي، م ن، ص ص28،27. 
(23) راهب من دير أنبا أنطونيوس، نصوص مختارة من كتابات العلاّمة ترتليان، م ن، ص25، وص29. 
(24) الأب متى المسكين، دراسة روحية عن  الشّهادة والشّهداء، مطبعة دير القديس أنبا مقار، القاهرة، ط3، سبتمبر 1987، ص10.
(25) جورج فهمي،  م ن، ص42.
(26) تاسكيوس كبريانوس القرطاجني، ت258م، مقالات، تعريب مرقوريوس الأنبا بيشوي، مكتب النّسر للطّباعة، ط1، 2008، ص47.
(27) القدّيس اكلمنضس الإسكندري (ت215م)، الرّسالة إلى ديوجنتيس من الأدب المسيحي الأوّل، تعريب أنطوان فهمي جورج، مطبعة الأنبا رويس، العباسية، القاهرة، ط1، 2019، ص56 وما بعدها.
(28) إنجيل لوقا، الإصحاح20: سلطة يسوع، الآية15، ص122.
(29) أعمال الرّسل، الإصحاح22: دفاع بولس أمام اليّهود، الآية20، ص209.
(30) Edward Bean Underhill, Martyrology  of the churches of christ, vol2, london, 1853, p8.                                                       
(31) ترتليان، الأعمال الجدلية، ترياق العقرب، st-takla.org موقع الأنبا تكلا هيمانوت. أنظر أيضا:
Johannes Quasten, patrology, vol2, christian classics , INC, westeminster, Maryland, third paperback, 1986 ,p281.  Martyrdom is a birth and wins for the soul an everlasying existence ».                 
(32) فهمي جورج ، م ن، ص56.
(33) فهمي جورج، م ن، ص56، وص136 وما بعدها.
(34) فهمي جورج، م ن، ص58.
(35) راهب من دير أنبا أنطونيوس، نصوص مختارة من كتابات العلاّمة ترتليان، م ن، ص20 وما بعدها.
(36) فهمي جورج، م ن، ص111.
(37) انظر يعقوب ملطي، الخروج، كنيسة الشّهيد مارجرجس  بسبورتنج، سنة 2020، ص49.
(38) إنجيل مرقس، الإصحاح11: مَثَل المزارعين القتلة، الآية27، ص72.
(39) سفر الملوك الأوّل، الإصحاح11 : زوجات سُليْمان، الآيتان13،12، ص455.
(40) تادرس يعقوب ملطي، مقالات القدّيس كيرلس الأوشليمي لطالبي العماد، كنيسة الشّهيد مارجرجس باسبورتنج، ط2، 2006، ص 115.
(41) الأب متى المسكين، دراسة روحية عن الشّهادة  والشّهداء، م ن، ص16.
(42) غريغوريوس النيصي، الشّهيد إسطفانون أول شهداء المسيحية، م ن، ص47.
(43) سفر الرّؤيا، الإصحاح6: الحمل يفُك الختوم السّبعة، الآية9، ص379. 
(44) فهمي جورج، م ن، ص158.