نقاط على الحروف

بقلم
د. محمد البشير رازقي
التحولات الاجتماعية وفئة من «لا يملكون ما يخسرونه»
 الإطار النظري:
أسّس ابن خلدون نظريّته عن الدولة على ثلاث مراحل أساسيّة وهي مرحلة الفتوّة أي لحظة التّجانس حيث «الأخلاق الصّارمة»، والمرحلة الثّانية هي لحظة الاستقرار وتأسيس المؤسّسات، وثالثا زمن التّرف والانحدار (1).
أرجع «ادوارد جيبون» أسباب انهيار الامبراطوريّة الرّومانيّة إلى تمرّد قبائل عليها وعدم قدرة السّلطة المركزيّة على مراقبتهم وردعهم والسّيطرة عليهم سواء باعتبارهم «البريتوريّين» أو «البرابرة، إلى جانب أسباب أخرى أهمّها النّظام الوراثي في الحكم(2). وركّز أيضا على نفس الأسباب بعد نشأة المسيحيّة وتمدّد القبائل الشّماليّة، مع إلحاحه على سبب أساسيّ لانهيار الإمبراطوريّة الرّومانيّة نهائيّا وهي غياب الإيمان لدى السّكّان سواء إيمان بالدّولة أو بفكرة النّظام أو تعلّق بمفهوم الحضارة عموما، وقد أثّر هذا الأمر على مسألة الجيش ممّا ساعد مثلا على انتشار ظاهرة المرتزقة(3). ولهذا لم يهتد «جيبون» إلى تأثير طبقة «لا شيء لنخسره».
تناول عمل «مارشال هدسون» المهمّ حول تاريخ الإسلام أسباب تقلّص تأثير الحضارة الاسلاميّة، وركّز على اختلال توازن النّفوذ لصالح الغرب بداية من «عصر امبراطوريّات البارود» مع القرن 15 وخاصّة مع القرن 19(4). وقد استخدم عبد الوهاب المسيري عبارة «الجماعات الوظيفيّة» للتّعبير عن فئات اجتماعيّة قابلة للتّوظيف والاستغلال والتحكّم (5).
انتبه «أرماندو سلفاتوري» في أحد أعماله الأساسيّة، مثله مثل «مارشال هودجسون» في مغامرة الإسلام، إلى أهميّة الطّرق الصّوفيّة في نشأة حضارة إسلاميّة عابرة للحدود ومؤسّسة لمعارف وشبكات نفوذ ومعرفة ومصلحة(6). وهذا ما يؤكّد عليه هذا البحث حيث تعتمد أساسا مؤسّسة الزّاوية على المريدين، وهم في أغلبهم ممّن لا يملكون شيئا يخسرونه، وليس من الصّدفة أن تُطلق عليهم المصادر المنقبيّة عبارة «الفقراء»(7).
أثبتت أعمال حديثة حول تاريخ الثّورات أنّ الثّورة هي علاقة بين توازنات داخليّة وخارجيّة ولا يمكن أن ننظر لها إلاّ من خلال زاوية التّاريخ التّقاطعي(8). عرّف «تشارلز تلي» Charles Tilly الحركات الاجتماعيّة بأنّها «سلسلة مُستدامة من التّفاعلات بين أصحاب السُّلطة وأشخاص يضطلعون بالتحدّث نيابة عن قاعدة شعبيّة تفتقد إلى تمثيل رسمي، وذلك في مجرى إذاعة هؤلاء الأشخاص لمطالب واضحة لإجراء تغيير في توزيع أو ممارسة السّلطة، وتدعيم هذه المطالب بمظاهرات عامّة من التّأييد»(9).  كما أنّ الحركات الاجتماعيّة متشابكة ومرتبطة بحيويّة المجتمع وتحوّلاته(10)، وتعدّد الرّهانات بين الفرد والجماعة وتحوّل الممارسات والتّمثّلات والبُنى الاقتصاديّة والاجتماعيّة(11). كما تنتفع الحركات الاحتجاجيّة من مجموعة من العوامل وأهمّها «الحملة campaign» وهي «مجهود عام مُستدام ومنظّم يُملي مطالب جماعيّة على سُلطة مُستهدفة»، و«ذخيرة الحركات الاجتماعيّة social movement repertoire» وهي المظاهرات والاعتصامات والاضرابات وتشكيل شبكات الحلفاء، و«عروض الوقفة WUNC» وهي صفات المشاركين في الاحتجاج وأهمّها«الجدارة worthiness، والوحدة unity، والزّخم العددي numbers، والالتزام commitment تجاه أنفسهم أو تجاه قاعدتهم الشعبيّة»(12). وحاولت دراسات أخرى أن تبيّن أن الثورات تحدث عند وقوع انتكاسات اقتصاديّة حادّة بعد فترة طويلة من التّنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة، حيث تُنتج الانتكاسة انتشار البطالة وغلاء المعيشة ونُدرة السّلع(13).
يتبيّن لنا في هذا العنصر إهمال التّركيز على فئة من ليس لديهم ما يخسرونه ودورها في تأسيس التحوّلات، رغم تلميح «تشارلز تيلي» لمسألة «التّعبئة». وقد انتبهت دراسات عديدة في علم النّفس إلى العلاقة بين «الخسارة» و«التّسامي» (Perdre, sublimer)ا(14). ويمكن القول هنا أنّ فئة من ليس لديهم ما يخسرونه لا يتسامون على مسألة الخسارة، بل لا يفكّرون فيها بتاتا. 
الجانب التطبيقي
استخدمت عبارة «الطبقة التي ليس لديها ما تخسره» La classe qui n›a rien à perdre في الدّراسات المهتمّة بالطّبقات الاجتماعيّة حيث أشار إليها «جورج لوكاتش» في سياق حديثه عن الطّبقة العاملة باعتبارها طبقة مُستغَلّة ارتبطت بالثّورة و«السّلبيّة» والرّفض(15). وهذا الأمر الذي يناقشه عملنا مفنّدا مسألة «السّلبيّة»، بل يسعى إلى تبيين أنّ الحضارة في فترة النّشأة والطّفولة لا يمكن لها أن تنشأ إلّا بحضور مجموعة من الأسباب ومنها توفّر طبقة واسعة ممّن لا يملكون ما يخسرونه. وارتبطت عبارة الطبقة التي ليس لها ما تخسره بمجموعة من الصّور النمطيّة التحقيريّة من قبيل «الطبقة الخطيرة la classe dangereuse» وهي الطّبقة الرّاغبة في تدمير نمط الإنتاج وأجهزته والمُقدّمة دائما على الخيانة واستعدادها دائما للتّحوّل إلى طبقة وظيفيّة مرتزقة، رغم دفاع بعض المفكّرين عن هذه الطّبقة مثل «كارل ماركس» باعتبارها الأمل الوحيد في المستقبل، وقد أُطلق عليهم اسم «البروليتاريا»(16). وهذا أيضا ما يسعى هذا العمل لمناقشته، فليس من الضّرورة أن تكون البروليتاريا هي التّصنيف الوحيد لطبقة من لا يملكون شيئا لخسارته. 
نُوقشت هذه الطّبقة في سياق التّفكير في مسألة الحريّة، ووُضعت في إطار علاقة السيّد بالعبد سواء على مستوى العبوديّة القديمة الكلاسيكيّة أو العبوديّة الحديثة المرتبطة بطبيعة النّظام الاقتصادي السّائد، فطبقة العبيد قديما وحديثا ليس لديها ما تخسره سوى قيودها(17). وقد استخدم ماركس نفسه عبارة «ليس لديها سوى قيودها لتفقدها»، وهذا ما أثّر على تمثّل العلوم الإنسانية والاجتماعيّة لهذه الطّبقة، وحُشرت في المسألة الاقتصاديّة/الاجتماعيّة باعتبارها مؤثّرة على مستوى الصّراع الطّبقي وهويّة من يُسيطر على وسائل الإنتاج، وهذا أيضا ما رسّخ دمجها في تصنيف «البروليتاريا» باعتبارها «القوّة الرئيسيّة» للتّغيير والمشرفة على بزوغ «الوعد الرّائع بأيـام سعيـدة  «La magnifique promesse des jours heureux»ا(18). 
وقد واصلت أعمال حديثة ربط هذه الطّبقة بفئة العمّال(19)، خاصّة باعتبارها قوّة عمل ضعيفة وقابلة للاستغلال(20). كما وُظّفت عبارة «لا أملك ما أخسره» أدبيّا سواء مع شعور الحبّ أو الحزن أو اليأس إلخ(21). كما استخدمت التيّارات النّسويّة هذه الأفكار في نقدها للمجتمع الذّكوري وممارساته التّحقيريّة عبر عبارة «يا نساء العالم اتحدوا، ليس لدينا ما نخسره سوى رجالنا». Women of the World Unite, We Have Nothing to Lose but Our Men»ا(22).  كما أُخضعت عبارة «لا شيء لتخسره nothing to lose» للدراسة على مستوى علم النفس وتبيّنت خطورتها مثلا في مرحلة المراهقة واستخدامها المكثّف من طرف المراهقين وما ينجزّ عن ذلك من صعوبات وأزمات سواء نفسيّة أو اجتماعيّة خاصّة ارتفاع معدّلات الجريمة(23).
اشتملت الحضارة العربيّة على فئات اجتماعيّة كثيرة من هذا النّوع مثل الشطّار والعيّارين(24). كما وُظّفت دراسات تاريخيّة أخرى عبارة «المرتزقة» باعتبارهم رأس حربة سياسيّة واقتصاديّة وخاصّة عسكريّا(25). نُظر إلى المرتزقة على أنّهم امتداد للعصور الوسطى وعنصر معرقل لنشأة الدّولة الحديثة سواء بسبب صعوبة السّيطرة عليهم أو لتكلفتهم الباهظة، ولكن بيّنت أعمال أخرى استمرار الاعتماد عليهم في حالات أخرى عديدة بالتّوازي مع نشأة النّظم السّياسيّة الحديثة(26).
قُدّمت نظريّات عديدة حول نشأة وانهيار الامبراطوريّات الاسلاميّة منها التمدّد المفرط وتعدّد الأجناس الحاكمة وتأثّر نُظم الحكم بالانشقاقات الاجتماعيّة والدّينيّة والفقهيّة والاثنيّة إلخ. إلى جانب هيمنة الجماعات الوظيفيّة على دواليب الحكم في فترات مختلفة وكثيرة(27). ولكن لم يتمّ الانتباه إلى الطّبقة التي ليس لها ما تخسره، أو تمّت الإشارة لها بصياغات أخرى مثل العبيد أو المماليك أو العائلات الحاكمة من الموالي، وهذا الأمر يُفقد المعنى الذي يُراهن عليه بحثنا زخمه ومعناه الحقيقيّ.
تعتمد الحضارة على أركان أساسيّة وهي «الموارد الاقتصاديّة والنّظم السّياسيّة والتّقاليد الخلقيّة ومتابعة العلوم والفنون»، وهي «تبدأ حين ينتهي الاضطراب والقلق»(28). وتتقهقر الحضارة بسبب وباء أو كارثة طبيعيّة أو أزمة زراعيّة وغذائيّة وتغيّر في الطّرق التّجاريّة، أو تحلّل أخلاقي وقيمي يصيب المجتمع وتفكّك الوحدة الاجتماعيّة(29). وقد بقي الصّراع ضدّ الطّبقات الاجتماعيّة المهيمنة هو المحفّز الحيوي للحركات الاجتماعيّة، وبمرور الوقت، نظّمت الغالبية العظمى من النّاس أنفسهم وأصبحوا قادرين على إحداث تحوّلات اجتماعيّة في جميع أنحاء العالم(30). ولا يخفى وجود صلة وثيقة بين الاحباط أو المظالم التي تشعر بها مجموعة من الفاعلين، ونمو نشاط وتيرة الحركات الاجتماعيّة وتراجعها، وتنقسم الحركات إلى ثلاثة مرتكزات أساسيّة وهي قطاع الحركة الاجتماعيّة، وصناعة الحركة الاجتماعيّة، وتنظيم الحركة الاجتماعيّة(31). وتعتمد هذه العوامل على مسألة صناعة الهويّة الجماعيّة(32)، ويفترض ذلك ضرورة ابتكار آخر مختلف(33). مع إيلاء الاهتمام إلى علاقة الحركات الاجتماعيّة بالسّلطة المركزيّة وشبكات النّفوذ العابرة للحدود، وطبيعة شبكات التّحالف سواء داخليّا أو خارجيّا(34).
يحدث الفعل الاحتجاجي بسبب «المتاعب السّياسيّة والاقتصاديّة والماليّة في نظام بائد، والتي تجعل الحكم بالطّريقة القديمة أمرا مُحالا وتُجبره على التّكيّف مع الجماعات الجديدة»(35). كما أنّ «علاقة الدّولة غير المتساوية على الاطلاق بين المركز والأطراف خلقت مساحة لما يمكن تسميته بجزر نشاط الحركات الاجتماعيّة»(36). وترتبط الثّورات بالأزمات الاقتصاديّة مثل زيادة الفقر ونُدرة العمل وارتفاع وتيرة عدم المساواة الاجتماعيّة والاقصاء الاجتماعي(37).
تمثّل ممارسة السّياسة والصّراع الاجتماعي عموما وسيلة حيويّة من أجل انتزاع الاعتراف سواء عبر الحبّ أو القانون أو التّضامن، وتجنّب أشكال التّهميش، وهي أساسا سياسات «الذلّ» والجور وسلب الحقّ والإهانة(38)، ولهذا مثّلت «تجارب الذلّ الأخلاقيّة...حوافز ممكنة في النّزاعات الاجتماعيّة»(39). ويمثّل الانقسام الاجتماعي مبرّرا أساسيّا للحركات الاجتماعيّة ووسيلة أكيدة لصناعة الوعي الجمعي(40).
يتنوّع الفاعلون في الثّورة وهم أربعة: ثورة القصر، الانقلاب الإصلاحي، الانقلاب الثّوري، الثّورة الجماهيريّة(41). وتعتمد الثّورة على مجموعة من المقترحات والامتيازات المقدّمة من المتنافسين للحلفاء والمؤيّدين المحتملين. كما بيّنت أعمال أخرى أسباب متنوّعة لاندلاع الثّورة وهي تغيّر هياكل النّفوذ وشبكات القوّة والمصالح في الدّولة، والضّغوط الدّولية المسلّطة على التّنظيم السّياسي والاقتصادي المحلّي للمجتمعات، وبنية مجتمعات الفلاحين، وتماسك القوّات المسلّحة أو ضعفها، والمتغيّرات التي تؤثّر على سلوك النّخبة(42). ويمثّل الفعل الثّوري مناسبة حيويّة لاستبدال المتنفّذين اجتماعيّا، وتدمير النّخبة السّياسيّة القائمة واستبدالها بمجموعة أو مجموعات مختلفة مستمدّة من داخل المجتمع نفسه(43).
شهدت الأيّام الأخيرة لروسيا القيصريّة هذا النّزاع، سعى «لينين» إلى تقديم مقترحات للسكّان مشتملة على سياسات إعادة توزيع الدّخل، بالمقابل اعتمد القيصر على قوائم من العقوبات والوعيد والتّهديد تجاه كلّ من يفكّر في معارضته. ولهذا تمثّل الثّورة صراعا استراتيجيّا لكسب الموالين وممارسة عقلانيّة مغلّفة بالإيديولوجيا(44). 
تساهم مجموعة واسعة من الأسباب في اندلاع الثّورة منها تشكيل تحالف بين المؤيّدين الأجانب والمحلّيين، واكتساب شبكة ولاء بين المتنفّذين في كلّ طبقات المجتمع(45). تمثّل الثّورة بالنّسبة للمشاركين فيها مقارنة بين تكاليف الانضمام إليها أو معارضتها أو البقاء مع الحياد، يختار الفاعل الاجتماعي الاجراء الذي يوفّر أعلى فائدة له. هل تساوي الأرباح حجم المخاطر؟ وما هي علاقة التّكلفة بالنّتائج وشبكات المصالح؟ فالمشاركة في الثّورة إذا هو اختيار عقلانيّ خاضع لثنائيّة الرّبح والخسارة(46). 
تجتمع مجموعة من المتغيّرات لتأسيس الحركات الاجتماعيّة وهي مؤسّسة الدّولة والقوى الدوليّة والعلاقات الطبقيّة(47). وحاججت دراسات بأنّها عمليّة معقّدة تنشأ عن تآكل النّظام الاجتماعي وتُخلق لخمسة أسباب وهي: الأزمات الاقتصاديّة، شدّة معارضة النخب الاجتماعيّة، والغضب الشعبي الواسع النطاق إزاء الظلم، إنتاج المقاومة لسرديّة مقنعة، ظرفيّة دوليّة مواتية(48).
توظّف دائما الحركات «الشّعبيّة» في الثّورات  وفي اختلاق الهويّات، ثمّ تُحيّد وتُعزل بتعلّة تعلّقها بالعنف وعدم إيمانها بالدّولة والمؤسّسات(49)، إذا يُتخلّص بها عبر وصمها بصور نمطيّة تحقيريّة. والمثير هنا أنّ المتنفّذين الجدد يعتمدون على صناعة عدوّ لشرعنة شبكة ولاءاتهم ومصالحهم الجديدة، والعدوّ هنا هو الفكر الشّعبي غير العالم، وهو نفسه الذي اعتمدت عليه الثّورة للوصول إلى الحكم، كما يحرص الفاعل السّياسي على إخراج هذه الطّبقة الاجتماعيّة من سرديّة التّأسيس(50). ونلاحظ إذا انقلاب براديغم بناء المكانات وشبكات الولاء في الرّواية الرّسميّة: تعتمد سرديّة التّأسيس على وجود الزّعماء، ويرتكز نجاح القادة على مهاراتهم وقدراتهم وحسن تسييرهم للنّزاعات. في الحقيقة لا وجود للقادة بدون طبقة «الشّعب» أو «العامّة»، وخاصّة الفئة التي أطلقنا عليها في هذا المقال «التي لا تملك ما تخسره».
لا يمكن إقناع النّاس العاديين بالمشاركة في ثورة إلاّ بعد توفير أرباح معيّنة لهم تتجاوز حجم الخسائر، أو عبر الإيمان بعقيدة دينيّة أو سياسيّة. ولهذا يسعى المشرفون على الثّورة إلى إنتاج إيديولوجيا وهي سرديّات موجّهة أساسا للسكّان(51). وهذا هو المعنى الأساسي لمفهوم العصبيّة الخلدونيّة سواء من خلال تركيزه على مسألة «الوازع» أو «العدوان»، أي «لا بدّ في القتال من العصبيّة» حيث تصبح العصبيّة «الرّابطة» و«الجماعة»(52). ولا يمكن أن تتحقّق مسألة العصبيّة إلا في حضور جماعة وموالين يكونون عادة غير متوجّسين من أيّ خسارة.
الخاتمة:
يسعى الفاعل الاجتماعي إلى استمالة المتضرّرين من أنماط الإنتاج وغير الحائزين على مصالح ومنافع، للاستفادة منهم لصناعة رأي عام أو كموالين وأتباع. مثلا سعت الشّعبويّة اليوم والسّياسات الفاشيّة الجديدة إلى استمالة ضحايا العولمة والأزمات الاقتصاديّة مثل سكّان الرّيف في أوروبا الغربيّة وأمريكا اللاتينيّة للتّنظير للاستبداد وشرعنته (53).
تبيّن لنا من خلال هذا المقال أهميّة الفئة الاجتماعيّة التي أطلقنا عليها تسمية من «لا يملكون ما يخسرونه»، وهم ليسوا بالضّرورة من الفقراء أو المهمّشين، وإنّما كلّ فاعل لا يملك ما يخسره من السّلطة المركزيّة سواء تجّار أو علماء أو فقراء. ولهذا تعادل مكانة الثّريّ مكانة المُعدم في حالة تشاركوا في أنّهم لا يملكون ما يخسرونه تجاه أهل النّفوذ.
يبرز لنا هنا استنتاج أساسيّ يؤكّد الفرضيّة التي سبق أن طرحناها في المقدّمة: تتقلّص طبقة من لا يملكون ما يخسرونه زمن نشأة الحضارة وتبدأ الفئة في الاتّساع كلّما بدأت الحضارة تترهّل. تتشابك شبكات استغلال هذه الطّبقة بين الفاعلين الاجتماعيّين الدّاخليين والخارجيين، من يُحسن الوصول إليها وكسب ولائها والسّيطرة عليها يسهل عليه الأمر في حيازة القوّة والهيمنة.
تتعامل طبقة «من لا يملكون ما يخسرونه» بمنطق عقلانيّ، فحجم تضحياتها متناسب مع ثنائيّة الرّبح والخسارة، كلّما ارتفع معدّل الرّبح تصاعد حجم المشاركة سواء في بناء الحضارة أو في الثّورات والحركات الاجتماعيّة. ولهذا على الدّولة/الحضارة أن تسعى إلى تقليص حجم هذه الفئة سواء عبر منحها بعضا من المنافع أو بربط وجودها بوجود الطّبقة الحاكمة.
يتبيّن لنا إذا تعقّد مفهوم الثّورة أو الحضارة. فلا يوجد جماعة/شعب تقوم بثورة أو حركات اجتماعيّة، تعتمد المسألة أساسا على أهل نفوذ يديرون شبكات القوّة والنّفوذ عبر تقنيات عديدة وأهمّها حسن الوصول إلى فئة «من لا يملكون ما يخسرونه»، سواء عبر اقناعهم بأنّ مشاركتهم في التّحوّلات لن تقلّص في كلّ الحالات من مكانتهم الحاليّة لأنّهم لا يملكون شيئا، أو عبر افهامهم بأنّ التّحوّل سوف يحمل لهم بالضّرورة الخير سواء عند الفشل أو النّجاح (هذا هو لبّ رحى عمل الإيديولوجيّات مثلا). تقع التّحوّلات إذا في تشابك لحظة توازن دقيق بين شبكات النّفوذ الدّاخليّة والخارجيّة، مع اتقان فاعلين معيّنين حسن التّعامل مع فئة «من لا يملكمون ما يخسرونه» لأنّها حقيقة هي رأس الحربة وجدار الصدّ.
الهوامش
(1) علي أومليل، الخطاب التاريخي: دراسة لمنهجيّة ابن خلدون، (بيروت/ الدار البيضاء: دار التنوير/ المركز الثقافي العربي، الطبعة 3، 1985)، ص.160
(2) إدوارد جيبون، اضمحلال الامبراطوريّة الرومانيّة وسقوطها، ترجمة: محمد علي أبو درّة، (مصر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، الطبعة الثانية، 1997)، الجزء 1، ص.117 - 154
(3) نفسه ، الجزء 2، ص.234 - 242
(4) مارشال هودجسون، مغامرة الإسلام: الضّمير والتاريخ في حضارة عالميّة. المجلّد الثاني: امتداد الإسلام في العصور الوسطى. المجلّد الثالث: امبراطوريّات البارود والعصور الحديثة، ترجمة:أسامة غاوجي، (بيروت: الشبكة العربيّة للأبحاث والنشر، 2021)
(5) عبد الوهاب المسيري، الجماعات الوظيفيّة اليهوديّة: نموذج تفسيري جديد، (مصر: دار الشروق، 2008)
(6) أرماندو سلفاتوري، سوسيولوجيا الإسلام: المعرفة والسلطة والمدنيّة، ترجمة: ربيع وهبه، (بيروت: الشبكة العربيّة للأبحاث والنشر، 2017)
(7) هشام عبيد، تونس وأولياؤها الصالحون في مدوّنة المناقب الصوفيّة، (تونس: مركز النشر الجامعي، 2006)
(8)         Une histoire globale des révolutions, Sous la direction de: Ludivine Bantigny, Quentin Deluermoz, Boris Gobille, Laurent Jeanpierre, Eugénia Palieraki, (Paris: La Découverte, 2023)
(9) تشارلز تلي، الحركات الاجتماعيّة: 1768 - 2004، ترجمة: ربيع وهبة، المجلس الأعلى للثقافة، المشروع القومي للترجمة،مصر 2005،ص 15.
(10) هانك جونسون، الدّول والحركات الاجتماعيّة، ترجمة: أحمد زايد، (مصر: المركز القومي للترجمة، 2017).
Carlos Illades, and Philip Daniels, “The Historiography of Social Movements,” in Conflict, Domination, and Violence: Episodes in Mexican Social History, by Carlos Illades and Philip Daniels, vol. 2, (New York: Berghahn Books, 2020): pp.1–14
            (11) Ana Julia Ramirez et Aníbal Vigura, “La protestation sociale dans les trois dernières décennies du XXe siècle: Acteurs, répertoires et horizons,” Matériaux pour l’histoire de notre temps 81, (2000): 58- 69
(12) تشارلز تلي، الحركات الاجتماعيّة، مرجع مذكور، 20.
(13) James C. Davies, “Toward a Theory of Revolution”, American Sociological Review, Vol. 27, No. 1 (Feb., 1962), pp.5- 19
 (14)L
(15) Lucio Magri, « Spontanéité et organisation révolutionnaire : remarques sur la révolution culturelle », L›Homme et la   société, (1971), n.21, pp. 141- 147, p.144
   (16) Yves Charles Zarka, « Le prolétariat après Marx », Cités, (2008)/3, n° 35, pp.3- 6
  (17) Jean Paul Dollé, « La liberté souveraine », Lignes, (2002),/1,n° 7, pp.162 -169
  (18) Madeleine Rebérioux, « Vision du prolétariat », in: Madeleine Rebérioux, Pour que vive l’histoire, Belin, Collection: Littérature et politique, (2017), pp.263- 271
  (19) Michael Yates, Can the Working Class Change the World?, NYU Press, Monthly Review Press, (2018), p.63- 82
  (20) Margot Canaday, Queer Career: Sexuality and Work in Modern America, Princeton University Press, (2023), p.69- 104
  (21) James C. Y. Shen, “Nothing to Lose”, The Antioch Review, Vol. 21, No. 4 (Winter, 1961- 1962), pp. 441- 451
  “ (22) «Women of the World Unite-We Have Nothing to Lose but Our Men (1968)», Social Justice, Vol. 39, No. 2/ 3 (128 -129), Elizabeth «Betita» Sutherland Martínez: A Life in Struggle (2012), pp. 75- 80
  (23) Kathleen Mullan Harris, Greg J. Duncan and Johanne Boisjoly, “Evaluating the Role of «Nothing to Lose» Attitudes on Risky Behavior in Adolescence”, Social Forces, Vol. 80, No. 3 (Mar., 2002), pp. 1005- 1039
(24) محمد رجب النجّار، الشطّار والعيّارين: حكايات في التراث العربي، سلسلة عالم المعرفة، عدد 45)، (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1981)
         (25) Pertti Joenniemi, “Two Models of Mercenarism: Historical and Contemporary”, Instant Research on Peace and Violence, Vol. 7, No. 3/4 (1977), pp. 184- 196
 (26) Michael Lower, “New Wars, Old Wars, and Medieval Wars: European Mercenaries as State Actors in Europe and North Africa, ca. 1100–1500”, Mediterranean Studies, Vol. 25, No. 1, Special Issue: Non-state Actors in Mediterranean Politics (2017), pp. 33-52
(27) أرماندو سلفاتوري (تحرير)، تاريخ الإسلام، ترجمة: أحمد محمود إبراهيم، (بيروت: الشبكة العربيّة للأبحاث والنشر، 2022)
(28) ول وإيريل ديورانت، قصّة الحضارة، الجزء الأول، من المجلّد الأول: نشأة الحضارة، ترجمة: زكي نجيب محفوظ،(تونس/بيروت: دار الجيل، 1988)، ص.3
(29) نفس المرجع، ص.11
  (30) Berch Berberoglu, “Social mouvements and transformation in the age of globalization: origins, dynamics, and mobilization”, International Review of Modern Sociology, Vol. 41, No. 1 (Spring 2015), pp. 55 -77
  (31) John D. McCarthy and Mayer N. Zald, “Resource Mobilization and Social Movements: A Partial Theory”, American Journal of Sociology, Vol. 82, No. 6 (May, 1977), pp. 1212 -1241
  (32) Francesca Polletta and James M. Jasper, “Collective Identity and Social Movements”, Annual Review of Sociology, Vol. 27 (2001), pp. 283- 305
(33) منذر كيلاني، اختلاق الآخر في طبيعة الخطاب الانثروبولوجي، ترجمة: نور الدين العلوي، (تونس: المركز الوطني للترجمة، 2015)
  (34) Ma. Glenda Lopez Wui, “Transnational Social Movement: Examining its Emergence, Organizational Form and Strategies, and Collective Identity”, Philippine Sociological Review, Vol. 58 (2010), pp. 1 -24
(35) نيكي كدي، الثورات الإيرانية من منظور مقارن»، ضمن: الإسلام والسياسة والحركات الاجتماعيّة، تحرير: إدموند بيرك/ إيرا لابيدوس، ترجمة: محروس سليمان، (مصر: مكتبة مدبولي، 2000)، صص.471 - 494، ص.483 - 484
(36) تشارلز تيلي/ليزلي وود، الحركات الاجتماعيّة (1768 - 2012)، ترجمة: ربيع وهبه، بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2020)، ص.143
  (37) Richard Ballard, Adam Habib, Imraan Valodia and Elke Zuern, “Globalization, Marginalization and Contemporary Social Movements in South Africa”, African Affairs, Vol. 104, No. 417 (Oct., 2005), pp. 615- 634
(38) أكسل هونيث، الصّراع من أجل الاعتراف: القواعد الأخلاقيّة للمآزم الاجتماعيّة، ترجمة: جورج كتّورة، (بيروت: المكتبة الشرقيّة، 2015)، ص.169 - 251
(39) نفس المرجع، ص.289
  (40) Henry Heller, “Marx, the French Revolution, and the Spectre of the Bourgeoisie”, Science and Society, Vol. 74, No. 2 (APRIL 2010), pp. 184 -214
  (41) Raymond Tanter and Manus Midlarsky, “A Theory of Revolution”, The Journal of Conflict Resolution, Vol. 11, No. 3 (Sep., 1967), pp. 264- 280 
  (42) Jack A. Goldstone, “Review: Theories of Revolution: The Third Generation”, World Politics, Vol. 32, No. 3 (Apr., 1980), pp. 425- 453
  (43) John Dunn, Modern Revolutions: An Introduction to the Analysis of a Political Phenomenon, (USA: Cambridge University Press, 1989)
  (44) John E. Roemer, “Rationalizing Revolutionary Ideology”, Econometrica, Vol. 53, No. 1 (Jan., 1985), pp. 85- 108
  (45) Robert H. Dix, “Why Revolutions Succeed and Fail”, Polity, Vol. 16, No. 3 (Spring, 1984), pp. 423- 446
  (46) Tarik Tazdaït, Rabia Nessah, « Les révolutions : un état des lieux », in:Tarik Tazdaït, Rabia Nessah, Les théories du choix révolutionnaire, (Paris : La Découverte, Paris, 2008), pp.9 -28
(47) ثيدا سكوكبول، الدول والثروات الاجتماعيّة: دراسة مقارنة بين فرنسا وروسيا والصّين، ترجمة: نبيل الخشن، (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2021)
 ( (48) Jack A. Goldstone, Revolutions: A Very Short Introduction, (UK: Oxford Academic, 2013
  (49) Jean-Clément Martin, «Violence confisquée et marginalisation du politique », in: Jean-Clément Martin, Violence et révolution Essai sur la naissance d›un mythe national, (Paris : Le Seuil, 2006), pp.271- 304
  (50) Jasper Trautsch, « La révolution américaine dans les « guerres historiographiques » contemporaines aux États-Unis : quels défis pour l’historiographie conservatrice ? », Traduit de l’anglais par Pauline Papa, Politique américaine,  (2017)/1 N° 29, pp.143- 176
  (51) Jack A. Goldstone, “Ideology, Cultural Frameworks, and the Process of Revolution”, Theory and Society, Vol. 20, No. 4 (Aug., 1991), pp. 405- 453
(52) محمد عابد الجابري، فكر ابن خلدون: العصبيّة والدولة. معالم نظريّة خلدونيّة في التاريخ الإسلامي، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيّة، 1994)، الطبعة السادسة، ص.166- 167
  (53) Leslie E. Anderson, “Fascists or Revolutionaries? Left and Right Politics of the Rural Poor”, International Political   Science Review, Vol. 27, No. 2 (Apr., 2006), pp. 191- 214