الدولة في الحديث النبوي

بقلم
الهادي بريك
الحلقة 11 - الدولة الإسلامية دولة الإصلاح
 من خير ما ورد صحيحا صريحا في قيمة الإصلاح الدّاخليّ ومركزيتها العليا ضمن منظومة القيم الإسلاميّة ما عرف بحديث السّفينة. وقد أخرجه الإمام البخاريّ عن النّعمان بن بشير عليهما الرّضوان. إذ قال فيه النّبيّ الأكرم محمّد ﷺ : «مثل القائم في حدود اللّه والواقع فيها كمثل قوم إستهموا على سفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها. وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرّوا على من فوقهم. فقالوا : لو أنّا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا. فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا وهلكوا جميعا. وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا»
لماذا الإصلاح إبتداء؟
نعود مرّة أخرى إلى الأسّ الأمتن الذي شيّد اللّه عليه كونه وإجتماع خلقه. وهو أسّ ثلاثيّ التّركيب متعانق الدّرجات، لن أزال أزعم أنّ من أحسن فقهه أحسن ترتيب حياته سواء كان فردا أو ربّ أسرة أو أمّة بأسرها. ولا حظّ بعد ذلك قلامة ظفر لمن تنكّبه. هو الأسّ الفلسفيّ الأعظم للحياة. وهو أنّ كلّ شيء مزدوج إزدواجا لا ينفكّ عنه البتّة حتّى يطوي اللّه صفحة الدّنيا ويأذن بفتح صفحة الآخرة. إزدواج لبّه أنّ كلّ شيء مع كلّ شيء مشترك في أصل الخلقة (الإنسان بزوجيه الذّكر والأنثى مثلا وهو موضوعنا وإن كانت هذه السنّة ـ سنّة الزّوجيّة ـ لا ينفكّ عنها شيء أبدا مطلقا) وأنّ ذلك الإشتراك الخلقيّ الإبتدائيّ الأوّل لا يلبث حتّى يغشاه الإزدواج. أي تنوّع وتعدّد وإختلاف. ولكن يظلاّن معا متلازمين (إشتراك في الأصل وإختلاف في الوظيفة ولو نسبيّا) ومن هنا ينشأ النّشاز، شأن كلّ مزدوجين لا يتصالحان طبيعة وخلقا. 
ومن حكمة اللّه سبحانه أنّه جعل ذلك الإختلاف الذي أصله الإشتراك محكوما بسنّة أخرى، وهي سنّة التّكامل، فإذا فقه الإنسان كلّ الفقه أنّه مختلف عن زوجه الآخر (ذكرا كان أم أنثى) بالرّغم من إشتراكهما الجبليّ في النّشأة والمصدر، وأنّ ذلك الإختلاف منضبط بالتّكامل بينهما لأجل عمارة الأرض بالخير، أن يفضي ذلك الإختلاف إلى خلاف مدمّر وتنوّع قاتل وتعدّد مفرّق فإنّه يكون قد ظفر بالرّشد كلّ ظفر. تلك هي الحكمة التي على العاقل إلتقاطها قبل إلتقاط أيّ شيء مطلقا، لأنّها بوصلة حياته وهادية سيرة وصراطه المستقيم ونوره في دياجير الظّلمة، وهي أنّ الإشتراك يعقبه إختلاف، وأنّ ذلك الإختلاف محكوم بالتّكامل، فيكون ذلك الإختلاف إيجابيّا لا ساحقا ماحقا نافيا لاغيا.
 لماذا الإصلاح إذن؟ بكلّ بساطة لأنّ بعض النّفوس لا تحسن إستيعاب تلك الحكمة آنفة الذّكر أو تستوعبها عقلا، ولكن لا تحمل عليها إراداتها لفرط رخاوتها، فتقع فيما لا تحمد عقباه من خلافات قاتلة مدمّرة. ومن ذا لا مناص من الإصلاح. تلك هي مشروعيّة قيمة الإصلاح إذ خلق الإنسان من عجل كما أخبرنا الخالق سبحانه
لأجل الإصلاح يقاتل الإخوة إخوتهم
إذا كان ورود الشّغب على الإنسان جبلّة أمرا معروفا بالتّجربة ولحكمة الإبتلاء كذلك، فلا حفظ لأمّة ـ ولا حتّى لأصغر جماعة من مثل الأسرة مثلا ـ إلاّ بإصلاح ذلك الشّغب حتّى تسير السّفينة هادئة آمنة فإنّ قيمة الإصلاح بين الإخوة المتنازعين ـ وليس المختلفين إختلافا فكريا فحسب من دون إستخدام قوّة وقهر ـ هي قيمة أعلى الإسلام إعتبارها حتّى عدّها أمتن جهاز مناعيّ دفاعيّ داخليّ في الأمّة. ومن ذلك أنّه دعا إلى إستخدامها ضدّ الإخوة أنفسهم إذا أبوا إلاّ الشّقاق الذي يفضي حتما إلى ذهاب البيضة وتسلّل العدوّ إليها، فيفعل بها كما يفعل الماء الذي يتسلّل إلى السّفينة. ورد ذلك في سورة الحجرات التي قال فيها سبحانه: ﴿وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾(الحجرات:9). هذه هي الآية الوحيدة في الكتاب كلّه التي سبقت مناسبة نزولها نزولها. أي أنّ القرآن الكريم ظلّ يعالج المشكلات التي تحدث للأمّة مذ بعثته ﷺ حتّى موته. وهو ما عرف عند المفسّرين والفقهاء بمناسبات النّزول. وقولهم أنّ القرآن الكريم نزل منجّما، أي مفرّقا نزوله على زهاء ربع قرن كامل لأجل معالجة ما يجدّ ويحدث بما يصلح أن يكون دستورا عامّا لمعالجة ما يقاس على ذلك في حياة الأمّة حتّى تطوى صفحة الدّنيا. ذلك أنّه عند نزول هذه الآية في سورة الحجرات لا وجود لطائفتين مقتتلتين، وحتّى ما ظهر من بعض ذلك بأثر من تسلّلات المنافقين عولج بيسر وسرعة منه هو نفسه ﷺ. ولكن لم يصل الأمر بين المؤمنين رغم إختلافاتهم في التّفكير وطبيعة المعالجات إلى حدّ الإقتتال تنازعا، ولكنّ مصداق هذه الآية ظهر بعد ذلك بسنوات وذلك عندما ظهرت حادثات (الجمل وصفيّن وغيرهما) ممّا هو معروف في التّاريخ الإسلاميّ، بل في الخلافة الرّاشدة نفسها. وعندها وجد المسلمون في كتابهم العزيز البلسم الشّافي والدّواء الكافي لذلك التّنازع السّياسيّ الذي سرعان ما تحوّل إلى إقتتال بينهما. وظلت هذه المعالجة دستورا ثابتا يلجأ إليها المسلمون ـ أو يجب أن يفعلوا ذلك ـ كلّما تحوّل الإختلاف المشروع إلى خلاف غير مشروع، ثمّ إلى تنازع إفتئاتا غير مقبول، ثمّ إلى إقتتال بالقوّة والقهر والإكراه. 
الحاصل هنا هو أنّ كلّ ذلك ما جاء سوى لرعاية قيمة الإصلاح العليا في هذا التّشريع والرّاسخة في منظومة الإسلام القيمية. الحاصل هو أنّه للإخوة قتال إخوتهم بالنّار عندما يفضي ذلك التّنازع إلى خرم الصّف وصرم حبل الأمّة أن تكون فريسة لكلّ ناعق سيما من خارجها عدوّا ضابحا نابحا. لا أجد دليلا أقوى من هذا على أنّ قيمة الإصلاح قيمة عليا مركزيّة عظمى، وأنّ مقصدها الأسنى والأوحد إنّما هو حفظ الصّف الواحد للأمّة كلّها بأسرها حتّى وهي متنوّعة مختلفة متعدّدة كلّ تعدّد في الجزئيّات لا في الكلّيات وفي الظنّيات، لا في المحكمات وفي الفروع لا في الأصول وفيما يثمر الإجتهاد، لا فيما يجرّ التبدّد وفيما يجعل من التنوّع قوّة فكرية، لا أحزابا عنوان كلّ واحد منها (كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ). لا أجد دليلا أقوى من هذا في مشروعيّة قتل الأخ لأخيه لأجل قيمة الإصلاح التي هي وسيلة لقيمة وحدة الصفّ. الإنسان المقدسّ عند اللّه سبحانه وبأمره هو تقديسا ما بعده تقديس يقتل بالنّار عندما يهمّ بخرق الصفّ الواحد وصرم وحدة الأمّة، بل ويقتله أخوه نفسه. 
هنا يختبر كلّ واحد منّا وعيه ليكشف بنفسه عن مخبوء نفسه وعيا، فإذا قبل هذا المبدأ فهو واع كلّ وعي لأنّ أولويّة وحدة صفّ الأمّة عنده مقدّس كما قدّسه اللّه نفسه سبحانه. وإذا لم يقبل هذا تأثّما أن يقتل الأخ أخاه فهو ذو وعي منكوس متعوس لا يثمر خيرا حتّى لو إرتدى رداء الدّين وتدثّر بدثار التّقوى المزيّفة. ذلك أنّ الحلم الذي لا يتعزّر بالحزم يكون إمّعية مائعة، كمثل القوّة التي لا تتدثّر بالرّحمة تكون بطشا باطشا.
وقبل الإصلاح خطوات معروفة
الإصلاح في الأمّة مثل الدّماء الجارية في عروق الجسم الحيّ، عندما تترك قيمة الإصلاح مهملة حتّى يقع السّوء بالنّاس وتشهر الأسلحة فإنّ الأمر يكون قد فات أوانه، وأنّى لراتق رتق فتوق عزّ رتقها لفرط خرقها. ولذلك جاءت في الشّريعة خطوات كثيرة تجعل من قيمة الإصلاح قيمة حيّة تملأ رئة الأمّة حياة. منها على سبيل الذّكر وليس الحصر : التّواصي بالحقّ والتّواصي بالصّبر والتّواصي بالمرحمة. ثلاث قيم عظمى تجفّف منابع الخلاف المدمّر القاتل والتّنازع المدمّر. وهو تواص تفاعلا بيننا جميعا وليس هو إيصاء من طرف واحد، حتّى لو كان ذلك الطّرف هو الأقوى علما أو سلطانا. هو تواص نتعاوضه ونتبادله كما نتعاوض السّلع بيننا والنّقود. ذلك هو الذي يجعل الأمّة حيّة بصيرة وليس غافلة في سبات عميق حتّى يغمرها الخلاف الذي سرعان ما يتحوّل إلى تنازع ثمّ إلى قوّة ثمّ إلى إكراه أو إحتلال. 
حتّى في الأسرة جاء مثل ذلك من مثل قوله سبحانه: ﴿وإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا﴾(النساء:35). هو ضرب من ضروب محاصرة الخلاف النّاشب أن يكون تنازعا مدمّرا. ومن ذا كلّفت الأسرة الكبيرة ببعث ذينك الحكمين قبل خروج الخلاف عن السّيطرة. 
وفي السّياسة جاءت النّصيحة والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر والدّعوة إلى الخير وإلى كلّ قيمة يحبّها اللّه أو أمر بها أو نهى عن ضدّها. وكذلك المعارضة والمقاومة السّلمية باللّسان والقلم وكلّ منبر إعلاميّ، وبالجمعيّة والمنظّمة والحزب والمبادرة والعريضة وبأشكال أخرى ربّما أعلى صوتا من مثل الإعتصامات والإحتجاجات والمظاهرات والعصيانات السّلميّة. كلّ ذلك لأجل حمل السّلطة على التّراجع عن سلوك طريق محفوف بالمخاطر، ولكن بكلّ سبيل سلميّ مدنيّ ومن دون أيّ إضرار لا بالحياة العامّة بالنّاس ولا بممتلكاتهم. الثّورة نفسها صورة من صور الإصلاح. بل هي ربّما آخر صورة وآخر إنذار من الإصلاح الذي من المفترض أن يبدأ طريقه بعد إزاحة سلطة فاسدة.
نحن في سفينة
لا أجد تمثيلا يشبّه سكّان الأرض كلّهم في علاقتهم بعضهم ببعض حميميّة مثل ما فعل نبيّ البشريّة جمعاء قاطبة محمّد ﷺ. إذ شبّه تلك العلاقة في الأرض كلّها بسفينة ذات طابقين أو أكثر ويزحمها أناس يشتركون في بغية السّفر أو إمتطاء ظهر تلك السّفينة. نحن جميعا في سفينة الأرض التي تمخر بنا عباب الحياة مخرا عجيبا. سيما اليوم حيث أكرهت ثورة الإتصالات كلّ شيء على أن يكون قريبا من كلّ شيء. كان أسلافنا في سفينة واسعة رحبة. نحن اليوم في سفينة ضيّقة مزدحمة مكتظّة وشديدة التنوّع عرقا ولونا ولسانا ودينا وعنصرا وقيما. كلّ ذلك يجعل العاقلين منّا أدنى إلى النّظر الحصيف في هذا الحديث الذي لا ينتفع به المسلمون فحسب، إذ هو يحمل أبعادا حضاريّة سياسيّة عمرانيّة إجتماعيّة عظمى. بل إنّ غير المسلمين في جزء مهمّ منهم عملوا بمقصد هذا الحديث وهم لا يؤمنون بنبيّه ﷺ وذلك عندما خضعوا لعقولهم التي تأمرهم هنا بما هو خير. هم يعالجون خلافاتهم وإختلافاتهم وتنازعاتهم بمقتضى هذا الحديث، ونحن الذين هم أولى به نتنكّبه كلّ تنكّب، إذ سرعان ما نختلف ثمّ سرعان ما نتنازع، ثمّ سرعان ما نعالج كلّ ذلك بالقوّة سواء كان من لدن الدّولة الباطشة أو من كثير منّا. 
وعي هذا نظريّا لا يتخلّف عنه أيّ عاقل ولكنّ المشكلة دوما هي في الطّوية، هل تكون طيّبة صالحة لتحمل الإرادة على الإذعان إلى الحقّ من دون النّظر إلى الوعاء الذي منه خرجت، أو تكون فاسدة طاغية. أليس لو خرق الذين هم في أسفل السّفينة ما به يحصلون على الماء حصلوا عليه؟ أجل. أليس الضّر والغرق يصيبهم هم أوّل ما يصيب دون غيرهم؟. أجل. أين المشكلة إذن؟ المشكلة هي أنّ ذلك الغرق لن يسلم منه أحد فوق السّفينة. من لم يغرق اليوم سيغرق غدا أو بعد غد على أقصى تقدير. العجيب هو أنّ سكّان الطّابق السّفلي من السّفينة أقدموا على خرق السّفينة بنيّة طيّبة وطويّة صالحة، إذ قالوا لبعضهم بعضا أنّ ذلك أولى من إزعاج شركائهم في السّفينة وهم يمرّون عليهم في كلّ مرّة يطلبون فيها وطرهم. أرأيت كيف أنّ النّية الطّيبة وحدها عفوا من عقل وحزم وبصيرة لا تغني عن أصحابها شيئا وليست مبرّرا لعدم مقاومتهم؟ 
ما يفضي إلى الفساد يقاوم أبدا مطلقا بغضّ النّظر عن نيّة أصحابه عندما يكونون فقراء في حسن التّدبير. من فقه هذا كلّ فقه وأخضع له هواه وإرادته فقه كلّ فقه أنّنا في سفينة واحدة. ولا منجأ لأيّ واحد منّا من العذاب والغرق إلاّ بقدر ما نحمل المفسدين على الإقلاع عن فسادهم وبقدر ما نقاومهم، وفي مقاومتهم موت لبعضنا. ولكن يموت بعضنا ليحيا بعضنا الآخر. ولتحيا معه قيمة الإصلاح وقيمة وحدة السّفينة ووحدة مصيرها ومناعة رسالتها وسلامة مرافئها. 
ولكن بقدر وعينا بهذا تأخّرنا كلّ تأخّر عن تمثّله في الحياة. إلاّ قليلا سرعان ما وضعتهم السّجون في بطونها السّوداء المفتوحة لغيرهم مع مطلع كلّ فجر جديد. وهكذا نظلّ مثل النّعاج التي ترى بأعينها كيف يلتهم الذّئب منها نعجة من بعد نعجة وهي واجمة تحوقل أو تدعو ربّها. ولو هجمت على الذّئب بقلب نعجة واحدة لأفترسته. لذلك كان الإصلاح ضربة لازب علينا ولا حياة لنا بدونه. وأوّل إصلاح يبدأ من إصلاح الدّولة نفسها لأنّ الدّولة ـ ومن قديم الزّمان وليس جديدا ـ هي التي تملك ما به تجعل الأعزّة أذلّة وما به تجعل الأذلّة أعزّة.