بحوث

بقلم
د. أمينة تليلي
التدين في تونس اليوم: الأشكال والإشكال
 مقدمة:
لم يشهد التّاريخ حضارة أو بلدا دون دين، سواء كان سماويّا أو وضعيّا، فهو الدّستور الذي ينظّم الحياة، ويسير النّاس وفق تعاليمه وشعائره ولو كان دينا باطلا، فالدّين جوهر الفطرة الإنسانيّة وطبيعتها، ولا نكاد نجد دينا لا يؤثّر في حياة الفرد والمجتمع، فيتجسّد في حياتهم اليوميّة، ينطبعون بقيمه، ويعملون بشعائره، راجين بلوغ أعلى مراتبه. فالدّين حاجة ملحّة عند البشريّة جمعاء، فكلّ المجتمعات تدين بدين تسير وفق شعائره. ويكون منطلقا لسلوكها تدين بما جاء فيه. تطبّق ما دعا إليه. فما المقصود إذن بالتّديّن؟ وما أشكاله؟. سأحاول في هذا البحث الإجابة عن مفهوم التّديّن، وأشكاله وتمظهراته انطلاقا من الواقع المعيش في البلاد التّونسيّة.
I. في مفهوم التّديّن:
قد يخلط النّاس بين مفهوم الدّين والتّديّن، الأمر الذي قد ينجر عنه الفهم الخاطئ للدّين في حدّ ذاته، فتصبح ممارسات الشّعائر الدّينيّة للبعض هي الدّين ذاته، رغم كونها لا تتعدّى تطبيق هؤلاء لفهمهم للدّين، وقد يكون هذا الفهم غير سوي عن قصد لتمرير أفكار معيّنة ضدّ دين معين أو عن غير قصد عن جهل بالدّين وأحكامه. وحتّى نفهم معنى التّديّن نورد بعض التّعريفات، ومنها:
ما ورد في معجم مختار الصّحاح بأنّه: «الدَّينُ، والجمع الأديان، ويقال دان بكذا أديانه فهو دين وتديّن به فهو مُتدّين»(1). وفي لسان العرب: «التّديّن لغة مشتقّ من الدّين، يقال: دان بكذا ديانة، وتدّين به فهو دين ومتديّن، ودينت الرّجل إذا وكّلته إلى دينه»(2). وفي القاموس المحيط: «يُراد منه ما يتديّن به الإنسان، يقال دان له دينا، أي اتخذه دينا وتعبّد به»(3). ورغم أنّه يعرّف الدّين في هذا الموضع إلّا أنّه أشار إلى مفهوم التّدين والمراد به التّعبّد.
كما جاء تعريف التّديّن عند البعض مرادفا لمفهوم الدّين، وبيان هذا ما أقره الفيومي في كتابه المصباح المنير قائلا: «الدّين العبادة والسّيادة والاعتقاد، إذ قال (دان) بالإسلام (دِينا) بالكسر تعبّد به و(تدّين به) كذلك فهو (دَيّن) مثل ساد (سيّد) و(ديّنته) بالتّثقيل وكّلته إلى دينه و(تركته وما يدين) لم اعترض عليه فيما يراه سائغا في اعتقاده»(4).
وقد ذهب كثير من العلماء إلى أنّ الدّين مرادف للتّديّن من ذلك: «الاعتقاد بوجود ذات أو ذوات غيبيّة...، اعتقاد من شأنه أن يبعث على مناجاة تلك الذّات السّامية في رغبة ورهبة وفي خضوع وتمجيد»(5).
وقد جاء عبد المجيد النّجار بتعريف دقيق للتّديّن قائلا: «هو الكسب الإنساني في الاستجابة لتلك التّعاليم (التّعاليم الإلهيّة)، وتكييف الحياة بحسبها في التّصوّر والسّلوك»(6). وبهذا فالتّدين ما هو إلاّ ترجمة بشريّة عمليّة لمفهوم الدّين وتعاليمه التي خاطبه الشّارع بها. هنا لسائل أن يسأل هل يوجد ذكر لمصطلح التّديّن في القرآن الكريم؟ وإن وجد، ما المعنى الذي يفيده؟
ذكر لفظ الدّين في القرآن الكريم في مواضع عدّة، والتي يعسر ضبطها في هذا المقام، لأنّها لا تحقّق ما نصبوا إليه، ولكن الاستعمال الوحيد الذي يتطابق مع مفهوم التّديّن (يدين) ما جاء في قوله تعالى: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ﴾ (التوبة: 29)، وقد فسّر ابن كثير (يدينون) بقوله: «يدينون بمعنى يعتقدون ويطيعون، يقال فلان يدين بكذا إذا اتخذه دينه ومعتقده وأطاع أوامره ونواهيه»(7).
في حين أقرّ علماء الاجتماع صعوبة وضع مفهوم دقيق للتّديّن، وهذا ما نلمسه في قول جميس فريزر: «إنّه من العسير وضع تعريف عام للتّديّن طالما أنّ الأديان المختلفة تؤكّد على سلوك متباين وقيم متنوّعة، ولهذا يمكن تعريفه إجرائيّا في حدود درجة مشاركة الفرد في الطّقوس الدّينيّة»(8). وبالتّالي فالتّدين هو فعل اجتماعي بشري.
II. أشكال التّديّن في المجتمع التونسي:
يعتبر الدّين الإسلامي دين الدّولة التّونسيّة، ودين الأغلبيّة السّاحقة والذي يبلغ عدد معتنقيه 99 %، وهذا إضافة إلى المسيحيّة واليهوديّة، وبعض الطّوائف والجماعات اللاّدينيّة قليلة العدد، والتي لا تتجاوز في مجموعها 1 % من مجموع سكّان تونس. وما يلحظه المرء كذلك التّعايش السّلمي داخل المجتمع التّونسي باختلاف أديانه، ففي تونس يعيش الآخر الدّيني حياة يسودها السّلم والاستقرار، وهذا ما تحكيه حياتنا اليوميّة، ولكن ما سأسلّط عليه الضّوء في هذا المقام هو أشكال التّديّن الإسلامي، وماهي تمظهراته داخل المجتمع التّونسي؟.
إنّ النّاظر في المجتمع التّونسي يرى من التّنوّع الثّقافي والفكري الكثير، يرى مظاهر التّديّن الشّعبي ومختلف أشكاله، والتّديّن الرّسمي أو النّخبوي إن صحّت العبارة وأشكاله، والتّدين الحضاري وأشكاله، والتّدين المقاصدي وغيرها، وكلّ هذه التمظهرات تجعلنا نقف وقفة تأمليّة، لهذا الامتزاج العجيب داخل المجتمع الواحد. ولكن قد يقع في بعض الأحيان تصادم في الآراء واختلاف وجهات النّظر، قد ينتج عنه خلط بين الدّين بمعناه المقدّس وبين التّديّن بوصفه فهما لهذا المقدّس وتجسيدا له، ومن المعلوم أنّه لكلّ منها تطبيقه الخاصّ لتعاليمه وتجسيد مبادئه على أرض الواقع. وهذا الأمر هو ما دفعني للحديث عن التّديّن في تونس الأشكال (صور التّديّن) والإشكال (ما تطرحه النّخبة من قضايا بمختلف أفهامها).
فأوّل ما يلاحظه الدّارس لأشكال التّديّن في تونس سيطرة التّدين الشّعبي على المشهد الدّيني، وترجمته كثرة الزّوايا ومقامات الأولياء الصّالحين(9)، وما تحظى به هذه المؤسّسات الدّينيّة من تبجيل قد يصل في بعض الأحيان إلى القداسة، وهذا مرتبط بالعادات والتّقاليد (الموروث الشّعبي)، فهذه المكانة لم تأت من فراغ إنّما اكتسبتها الطّرق الصّوفيّة عبر مراحل زمانيّة طويلة اختلفت من طريقة إلى أخرى، ويمكن ذكر بعض هذه الإنجازات التي ارتقت بالزّوايا ومقامات الأولياء الصّالحين إلى مرتبة المؤسّسة الدّينيّة، شأنها في ذلك شأن المساجد والجوامع والكنائس والأديرة. وحتّى نفهم أسباب هذه المكانة نعرض بعض ما قامت به الطّرق الصّوفيّة ومشائخها ومريديها:
لقد ظهر التّصوّف عبر أعلامه الذين ذاع صيتهم وكان أثرهم في النّاس والمجتمع والحكام كبيرا، جامعين بين الزّهد والرّباط وبين العلم ونفع النّاس، ومن بين هؤلاء الشّيخ «أبي سعيد الباجي» المرابط ودوره في مراقبة البحر لحماية تونس من القراصنة والغزاة ضمن خطّ رقابة جبلي يمتدّ إلى بنزرت، قام عليه جماعة من الزّهاد المرابطين، والشّيخ «محرز خلف» الذي سمّاه أهل تونس سلطان المدينة لما له من قيمة، والسّيدة «المنوبيّة» وما كان لها من دور اجتماعي وتأثير سياسي وروحي قويّ، ودور الصّوفي الشّيخ «أبو علي النّفطي» في التّصدّي للمدّ الشّيعي الإسماعلي، والشّيخ «مهذب الشّريف» قائد كتيبة من المرابطين بين قابس وصفاقس كان معظمهم من مريديه. والشّيخ «علي النوري» الذي جمع بين الفقه والتّصوّف وكان مجاهدا، وأسّس أسطولا بحريّا لمواجهـة القراصنـة (ق 17م)، وثورة الشّيخ «علي بن خليفة النّفاتي» ضدّ الاستعمار الفرنسي، إضافة إلى دور الزّوايا التي كانت ملجأ ومأمنا للمقاومين مثل زاوية «سيدي عبدالله بوجليدة» بتطاوين، إضافة إلى مهمّتها الأولى تعليم القرآن واللّغة العربيّة والفقه، كزاوية «سيدي أحمد التّليلي» ودوره العلمي والإصلاحي، وغيرها من الزّوايا(10).
إنّ هذا الدّور الجليل الذي عرف عن الطّرق الصّوفيّة ورجالاتها هو ما جعلها تحظى بهذه القداسة عند التّونسيين وجعل من التّصوّف شكلا من أشكال التّديّن، بل هو أشهر مظهر من مظاهر التّديّن الشّعبي بتونس إن صحّت العبارة. ولكن قد يلاحظ في بعض الأحيان المغالاة في الولاء للشّيخ والزّاوية كالتّبرك بقبور الأولياء الصّالحين، وطلب العون منهم، والتّضرّع بهم قصد التّقرّب إلى اللّه تعالى، ومثل هذه الممارسات قد تحيد بالتّصوّف عن أهدافه والتي هي جهاد النّفس والرّقي بها إلى مرتبة الإحسان، ولتحقيق أمانة الاستخلاف في الأرض وإعمارها كما أمر اللّه تعالى.
إنّ الناظر في الحياة اليوميّة للمجتمع التونسي يرى هذه الأهمّية والمكانة التي تحظى بها الزّوايا الصّوفيّة ومقامات الأولياء الصّالحين حتّى صرنا نقول تونس المحروسة أي أنّها محروسة بالأولياء الصّالحين (سيدي محرز، والسّيدة المنوبيّة، وسيدي بلحسن الشّاذلي، وسيدي بوسعيد الباجي،...) الذين يدفعون عنها الأذى ويخفّفون عنها البلاء بما ميّزهم اللّه عن غيرهم. هذه بعض تمظهرات التّديّن الشّعبي داخل المجتمع التّونسي من وجهة نظري.
وفي المقابل نجد التّدين الرّسمي (إسلام الفقيه)، والمركّب من العقيدة الأشعريّة والفقه المالكي والتّصوف السّنّي، والتّديّن الأول (الشّعبي) لا يخرج عن دائرة التّدين الرّسمي، والذي يكون تحت إشراف الدّولة ومؤسّساتها «كوزارة الشّؤون الدّينيّة» وتسيير شؤون المساجد والجوامع والكتاتيب، والحرص الدّائم على تجسيد وسطية الإسلام وسماحته.
وهذا ما نلمسه في حياتنا اليوميّة من دعوة الدّولة بمؤسّساتها الدّينيّة إلى نبذ العنف والتّطرّف، والغلوّ الدّيني، الذي من شأنه أن يحيد عن هذا التّديّن الرّسمي. الذي تتبنّاه الدّولة بمؤسّساتها.
لكنّ هذا الحرص، لم يمنع من تشكّل ما يسمّى بالتّدين الرّاديكالي -رغم بعض التّحفّظ عن هذه التسمية باعتبارها غربيّة المصدر- ويمكن أن نقول ظهور جماعة متطرّفة دينيّا في البلاد التّونسيّة التي عرفت بسماحتها الدّينيّة واعتدالها العقائدي. كظهور الحركات الجهاديّة بالبلاد التّونسيّة بعد أحداث الثّورة، كجماعة أنصار الشّريعة،  وما هذا إلّا نتيجة لأسباب عديدة أوّلها السّيطرة المحكمة على المجال الدّيني قبل الثّورة، وثانيها فشل نظام الإسلام السّياسي في الموازنة بين المشهد الدّيني والمشهد السّياسي في تونس.
ومن جهة أخرى ظهرت جماعات تدعو إلى التّحرّر من قيود الدّين، بل والقطع مع كلّ ماهو ديني بتعلّة أنّ النّصوص الدّينيّة قد تجاوزها الزّمن، ولم تعد تلبّي حاجيات إنسان اليوم، إنسان التّقدّم التّكنولوجي.
فهذه بعض أشكال التّديّن في تونس اليوم، وتبقى اجتهاد بشري لتطبيق تعاليم الدّين، لكنّ الأمر المقلق هو أنّ البعض قد يخلط بين الدّين والتّديّن، بفعل ممارسات قد تكون خاطئة من المتديّن (أي شكل من هذه الأشكال)، تنسب أمور لدين هو براء منها، إنّما هي فهم المتديّن للدّين فحسب.
الخاتمة:
وما يمكن أن نختم به، أنّ مظاهر التّدين في المجتمع التّونسي وأشكاله تتغيّر حسب الوعي الدّيني، وأحيانا حسب الوضع الاجتماعي، وحينا آخر حسب إيديولوجيّات سياسيّة، وأخرى حسب إملاءات خارجيّة يقصد بها التّشكيك في قداسة الدّين ومصدره، وإنّ هذا التنوع في تشكّلات التّديّن ومظاهره في المجتمع التّونسي إنّما نابع من سماحة الدّين الإسلامي في حدّ ذاته، شرط أن لا يخلّ المرء بأصل من أصول الدّين. كالتّوجّه بالدّعاء إلى غير اللّه وطلب العون منه، أو التّطاول على الذّات الإلهيّة، أو ترك أصل من أصول الدّين بحجّة أنّ الزمن قد تجاوزه.
الهوامش
(1) الرازي، محمد بن أبي بكر (تـ666هـ): مختار الصحاح، المطبعة الأميرية، القاهرة-مصر، ط/1، 1338هـ/1920م، 1/218.
(2) ابن منظور، جمال الدين (تـ711هـ): لسان العرب، دار صادر، بيروت-لبنان، (د.ط)، (د.ت)، 13/169.
(3) الفيروزآبادي، مجد الدين (تـ817هـ): القاموس المحيط، مؤسسة الرسالة، بيروت-لبنان، ط/8، 1426هـ/2005م، ص 249.
(4) الفيومي، أبو العباس أحمد (تـ772هـ): المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، دار المعارف، القاهرة-مصر، ط/2، (د.ت)، 1/205.
(5) دراز، عبدالله: الدين بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان، دار العلم، الكويت، ط/1، 2019م، ص 51.
(6) النجار، عبدالمجيد: في فقه التدين فهما وتنزيلا، دار الغرب الإسلامي، تونس، ط/1، 1410هـ، 1/27.
(7) ابن كثير، أبي الفداء إسماعيل (تـ774هـ): تفسير القرآن العظيم، دار ابن حزم، بيروت-لبنان، ط/1، 1420هـ/2000م، 4/531.
(8) نقلا عن: الرفاعي، عبدالجبار: الإيمان والتجربة الدينية، مكتبة الفكر الجديد، بغداد-العراق، 2/82.
(9) وأشهر الطرق الصوفية انتشارا في تونس: الطريقة القادرية نسبة إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني، والطريقة الشاذلية نسبة إلى الشيخ أبي الحسن الشاذلي، والطريقة العيساوية نسبة إلى الشيخ علي بن عيسى، والطريقة السلامية نسبة إلى الشيخ عبدالسلام الأسمر، الطريقة المدنية نسبة إلى الشيخ محمد المدني، وغيرها من الطرق التي اشتهرت في تونس. (للتوسع انظر: العجيلي، التليلي: الطرق الصوفية والاستعمار بالبلاد التونسية (1881-1939)، كلية الآداب، تونس، ط/1، 1987م)
(10) للتّوسع أكثر: الشرّيف مازن: الطّرق الصّوفيّة في تونس ودورها المحتمل في التّصدي للفكر التّكفيري والإرهاب، دراسات في التّصوّف والعرفان، www.mazencherif.com