مرايا

بقلم
د.عزالدين عناية
علم الأديان وعلم اللاهوت الاتصال والانفصال (1/2)
 ضمن ما سأتطرّق إليه بشأن بيان حدود الاتصال والانفصال بين المنهج العلمي والمنهج اللاّهوتي في معالجة الظّاهرة الدّينيّة، أستهلّ حديثي بكلمة قالها الفرنسي «ميشال مسلان» في كتاب «علم الأديان»: «أن نتابع الحفر في خندقنا مع إلقاء نظرة بعيدا صوب الحقول الأخرى». بهذا الشّكل يتجنّب دارس الظّاهرة الدّينيّة الانحصار داخل رؤية ضيّقة، ويثري أدواته برؤى خارجيّة. ومن جانب آخر تدفعني مقولة البولندي «زغمونت باومان» بشأن سمة «السّيولة» التي تطبَعُ عالمنا اليوم: «المجتمع السّائل»، و«الحداثة السّائلة»، إلى إدراج الدّين ضمن هذا الواقع السّائل، الذي بات عصيّا على الفهم ضمن إطار محدّد. فـ «الواقعة الدّينيّة»، و«التّجربة الدّينيّة»، و«الكائن المتديّن»، و«المقدّس» عامّة، هي مظاهر نابعة من معين واحد، وهي في أمسّ الحاجة إلى تنويع المناهج وتوحيدها، في الآن نفسه، لسبر غور تلك التّشظيات.
الظّاهرة الدّينيّة
سوف تتمحور هذه الدّراسة حول ثلاثة عناصر أساسيّة: الظّاهرة الدّينيّة، المنهج اللاّهوتي/المنهج العلمي، لأخلص بالحديث إلى آفاق التّكامل بين المنهجين. في البدء يقتضي الحديث تعريفا لمفهوم الواقعة الدّينيّة أو الحدث الدّيني الذي نحن بصدد معالجته، وهو ما نُطلق عليه تجوّزا الظّاهرة الدّينيّة أو التّجربة الدّينيّة. ذلك أنّ الظّاهرة/التّجربة هي اختزالٌ لبُعد أنثروبولوجي لازم الكائن المتديّن، وهي تجلٌّ ديني، نحاول حصره ووضعه بين قوسين. إذ صحيح أنّ الظّاهرة الدّينيّة هي ما يظْهَر من فعل مشوب بمسحة قداسة؛ ولكن كلمة «الظّاهرة» هل تغطّي ما يعتمل في ذات الفرد وباطنه أيضا؟ لنأخذ على سبيل المثال حالة الوجد الصّوفي، أو ما شابه ذلك من مظاهر الورع والتقى والربّانيّة، والتّطويب والتّقديس في السّياق المسيحي حصرا، فهي مظاهر شفّافة غير قابلة للرّصد العيني أحيانا. وذلك ما أملى إضافة توضيحيّة لكلمة الظّاهرة، كأن نقول: «الظّاهرة النّفسيّة»، «الظّاهرة الاجتماعيّة»، «الظّاهرة التّاريخيّة»، «الظّاهرة الدّينيّة»، في مسعى للإحاطة بما تتعذّر الإحاطة به بالرّكون إلى كلمة «الظّاهرة»، كونها في الأصل متابعة لما يظهر لا غير.
ضمن هذا السّياق يجرّنا تناول الظّاهرة الدّينيّة إلى إدراج الموضوع ضمن مبحث عام ألا وهو «الظّواهريّة الدّينيّة»، بوصفه الإطار الأشمل والأعمّ لاختبار الظّواهر. إذ يعود مصطلح «ظواهريّة الدّين» إلى الهولندي «بيار دانيال شانتبي دي لا سوساي» (P.D. Chantepie de la Saussaye) مدرّس تاريخ الأديان في جامعة أمستردام مع أواخر القرن التّاسع عشر، في كتابه: «مدخل إلى تاريخ الأديان» (1887). فأمام إدراكه أنّ مقصد الظّواهريّة ليس قاصرا على متابعة العيني والمرئي، أي ما ظهر للعلن، جرى تفريع الانشغال إلى فرعين أساسيّين:«الظّواهريّة الدّينيّة الوصفيّة» و«الظّواهريّة الدّينيّة الفهميّة»، وهذه الأخيرة هي ما حاول «فان دير لاو» تأسيسها، حيث عرّف الظّاهرة بقوله «هي في الآن شيء على صلة بموضوع وموضوع على صلة بشيء»(1). معتبرا أنّ المكوث عند التّقرير الوصفي دون الولوج إلى غور الظّواهر يُبقي الدّارس عند مجرّد وصف الظّاهرة الدّينيّة(2). وبالتّالي السّؤال العميق المطروح أمام الظّواهريّة الدّينيّة هو سؤال الفحوى والدّلالة بشأن معنى الظّاهرة. إذ لا يفي بالغرض رصد الحالة وتوصيفها، ما افتقر الحدث إلى تأويل ومعنى. وفي اللّسان العربي كلمة الظّاهرة هي ترجمة مستوحاة من الإغريقيّة (phainomenon)، التي تعني حرفيّا الشّيء الظّاهر، الظّاهرة، والمصطلح كما هو مخاتل في اللّغات الغربيّة، هو بالمثل في العربيّة.
وحين نتطرّق إلى الظّاهرة الدّينيّة كمَلْمح من ملامح تجربة التديّن، نحن لا نتحدّث عن «المقدَّس» كجوهر مفارق، ندرك طيفه الجليل والسّاحر والمهيب ولا نعاين أثره، كما بيّن «رودولف أوتّو» في كتابه «المقدّس»(3) ؛ ولكن نعمل جاهدين على حصر الرّصد والبحث في عنصر محدّد. بيْدَ أنّ المسألة التي أعالجها لا تتعلّق بمنهج الظّواهريّة ومدى وعوده وإمكانياته، وإنّما يأتي توظيف الأمر لغرض التّوضيحِ في سياق حديثنا عن سُبل فهم «الحدث الدّيني»، «التّجلي الدّيني»، «الظّاهر الدّيني»، «الواقع الدّيني». فـ «عالِم الدّين» بمفهومه الحديث يعيد الظّاهرة الدّينيّة إلى جذور دُنْيويّة، وبإيجاز يسعى إلى تناول الظّاهرة الدّينيّة بمثابة واقعة منزوعة القداسة؛ في حين يعيد عالم الدّين بمفهومه الكلاسيكي الظّاهرة الدّينيّة، في جانبها «الإيجابي»، إلى قوّة عليا، وما خالف منها النّظرة الإيمانيّة إلى النّفس الأمّارة بالسّوء وإلى الزّيغ والهوى وما شابه ذلك، كما هو الحال في المنظور الإيماني الإسلامي.
وفي المناهج الحديثة لدراسة الدّين يتوزّع التّطوّر في دراسة الظّاهرة الدّينيّة على ثلاثة مستويات: المستوى الأول، وهو يتشكّل من البحث التّاريخي الفيلولوجي الهادف إلى البحث في كلّ تقليد ديني على حدة على أساس تحليل الوثائق المكتوبة وغير المكتوبة، وهو عادة ما تولّى شأنه تاريخ الأديان؛ المستوى الثّاني، وينبني بالأساس على منهج المقارَنة بقصد بلوغ التّماثل في النّظر البشري، وإن بقي المنهج المقارِن على صلة بالمعطى التّاريخي فقد انفتح على تساؤلات تتجاوز حقله، ممهِّدا الطّريق إلى تدخّل مختلف العلوم الدّينيّة، التي تتشكّل من مجمل العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة (علم الاجتماع وعلم النّفس والأنثروبولوجيا وغيرها) وهو المستوى الثالث، وفق الإيطالي «جوفاني فيلورامو» في كتابه «ما معنى الدّين؟»(4).
حول تمايز المنهج اللاّهوتي والمنهج العلمي
تبعا للانشغالات الحديثة بالدّين يتلخّص الدّور الإبستيمولوجي للعلوم الدّينيّة في فهم الدّين وشرحه، أو بما أوضحه «ميشال مسلان»، في الاقتصار على متابعة العلاقة الأفقيّة في التّعامل مع الدّين وإسقاط العلاقة العموديّة بقوله: «بإيجاز اللاّهوت هو علم معياري سياقاته مشروطة دائما بمدى ما يتمتّع به الإيمان من صدق، وبموجب الخاصّية التي تميّزه فهو مانعٌ وغالبا ما يكون أحاديّا. أمّا علم الأديان فلا يستطيع أن يكون محلّ إجلال أو إدانة، بسبب الموضوعيّة العلميّة المتطوّرة التي تصبغه. إذن مسعى الدّراسة العلميّة ومسعى الدّراسة اللاّهوتيّة يختلفان من حيث السّياق، فحقل دراسة علم الأديان يتميّز كلّيا عن المقاربات اللاّهوتيّة من النّاحية النّوعيّة والكمّية، وهذا الشّكل الأخير يجيب عن سؤال: ما الواجب علينا الإيمان به؟ ولماذا ينبغي علينا الإيمان بذلك؟ في حين يهتمّ علم الأديان بكلّ ما هو معتقَد من قِبل البشر»(5). ولا ينأى «هنري شارب بيوخ» و«بول فينو» عمّا حدّده «مسلان» لمهام ذلك العلم، أي علم الأديان، «فهو محاولة ترنو لتجاوز المستوى الاختباري، بغرض الكشف عن العام والمشترك، بغرض الإحاطة بالكوني، الكامن في المحلّي أو المنعزل، واكتشاف القوانين المتوارية خلف الوقائع، وإماطة اللّثام عن الجوهري المتخفّي بالعرضي، أو بعبارة أخرى التّنبه للتّطور الدّاخلي والتّجاوز للمتغيّر والمتبدّل، أي الوعي بطبيعة الدّين وجوهره عوضا عن مظاهره الخارجيّة»(6). وبذلك يكون علم الأديان جملة القواعد والضّوابط العامّة -التي تخضع لها التّجربة الدّينيّة، تجربة الإنسان مع المقدّس- المستمدّة من العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة(7). لا أتصوّر أنّ من يتطلّع للإلمام بأصول الدّين، ملزمٌ بمراعاة هذه الحدود الصّارمة في ذهنه في التّعاطي مع الوقائع الدّينية، وبالمثل لا أتصوّر أنّ «ميشال مسلان» وآخرين فاتهمْ عمق المقاربة اللاّهوتيّة للدّين أيضا، وما يمكن أن تُسهم به في فهمِ الكائن المتديّن، والحال أنّ المحاولة تتمثّل في إرساء نوع من الانتظام في حقل لا يزال متداخلا، وهو في أمسّ الحاجة إلى صرامة منهجيّة حتّى يصلب عوده.
ولكن لتتّضح معالم المنهجين اللاّهوتي العلمي، أعود إلى التّطرّق إلى خاصيّات علم اللاّهوت، أو لنقل «العلوم الشّرعيّة» بصياغة إسلاميّة. فهي علوم على صلة بلحظة مفارقة غير تاريخيّة، تعبّر عن وجهة نظر المؤمن «الدّاخليّة». حيث أنّ أصل كلمة «teo-logia» إغريقي، وهي في مدلولها العربي تعني«قولا/خطابا حول اللّه»، هو في الواقع خطاب حول ما لا عيْنَ رأت. حيث ينصبّ اهتمام علم اللاّهوت على دراسة الاعتقادات والإشكاليّات الفقهيّة والتّشريعيّة، عبر تأصيل الأحكام وتقعيد الوشائج الرّابطة بين العبد وخالقه، وضبط قواعد الاستدلال بشأن الغيبيّات، وتنظيم الأحكام المتعلّقة بالشّرعيّات، بغية تقديم نظام خُلقي دنيوي، في وصال مع ما يتصوّر المؤمن أنّه الحقيقة المطلقة. وتبعا لخاصيّات هذا العلم المعياري، فهو يرنو إلى ترتيب علاقة مثلى بين الإنسان وبارئه. أي ضمن أي السُّبل يتحقّق الفلاح الدّنيوي والخلاص الأخروي. وبشكل عام تتميّز انشغالات هذا العلم بتوطيد علاقة عموديّة تصل الإنسان بربّه، يتطلّع فيها إلى تحقيق الانسجام الأمثل.
وبالتّالي يتحرّك علم اللاّهوت في معالجة الشّعائر الدّينيّة، الصّلاة مثلا، ضمن شروط الصّحة وشروط الوجوب، فلو طالعنا كتابا متعلّقا بالصّلاة في الإسلام أو بالقدّاس المسيحي نلحظ تماثلا. في حين المقاربة العلميّة سواء في شكلها السّوسيولوجي أو الأنثروبولوجي فهي تحاول فهم أبعاد الممارسة الشّعائريّة وأثرها، مستهدِفة بلوغ مقصدها الأعلى دون أن يعنيها أمر صحّتها أو شروط أدائها، ولكن بوصفها ممارسة اجتماعيّة أو رمزيّة داخل إطار زماني وحيز مكاني.
وعلم اللاّهوت في تنظيمه لمجال الطّقوس، هو محكوم أساسا بمنطق الجواز والبطلان، والطّهر والنّجاسة، والضّلال والخلاص، والثّواب والعقاب، والمشاركة والحرمان. لذلك تحوم مجمل إشكالياته حول ترسيخ سلوك المؤمن القويم، بغرض بلوغ خلاصه الأخروي وفلاحه الدّنيوي، كما رسم معالمهما القديس أوغسطين في «مدينة اللّه»، المدينة السّماوية، التي تقف على نقيض المدينة الأرضيّة(8).
وفي الفضاء الإسلامي، حتى وإن ارتقى نسق التّطوّر التّشريعي والفقهي والتّنظيمي للوقائع الدّينيّة، بظهور علوم شرعيّة مختلفة على صلة بمتنيْ القرآن والحديث، فإنّ هذا التّطور غابت منه المتابعة الخارجيّة في التّعاطي مع الدّين. نرجع ذلك إلى عدم توفّر الشّروط التّاريخيّة المعرفيّة لذلك، وبقاء تفسير الأمور في حدود ما هو غيبي وباطني. إذ بافتقاد الشّروط التّاريخيّة المعرفيّة يتعذّر على الإنسان المتديّن إعادة قراءة تجربته، ومراجعة نسق مفاهيمه، ما أبقى العربي والمسلم عامّة في مستوى استهلاك الاعتقاد وقصوره عن بلوغ مراتب تبيّن أصول الاعتقاد، وهو ما يتطلّب تجاوز حاجيّات الغريزة إلى طرح تساؤلات الثّقافة.
وضمن السّياق المشار إليه، الذي توزّع فيه النّظر للدّين على ضربين: داخلي وخارجي، أو بوضوح لاهوتي وعلمي، برزت ملامح «علميّة» تجمع بين مختلف المباحث المكوّنة لعلوم الأديان، على صلة بخاصيّات المنهج التّجريبي الوضعي في البحث، فضلا عن المنهج الاستقرائي واختبار النّتائج، بما يضمن حياد الملاحظ. وقد عُدّت تلك العناصر كافية لاستبعاد اللاّهوت وفلسفة الدّين من عائلة المباحث العلميّة في دراسة الأديان، مع أنّ أُولى التّفرّعات خرجت من حضنيْ اللاّهوت والفلسفة، بعد أن جاء نزع الحبل السرّي الرّابط عنيفا، كما يقول المؤرخ «جوفاني فيلورامو»(9). ليتوالى توالد المباحث الجديدة مشكّلة مسارا على حدة، بدءا مع تاريخ الأديان الذي ترافق بمقارنة الأديان ثمّ مع علم الاجتماع الدّيني فالأنثروبولوجيا الدّينيّة، وعلم النّفس الدّيني.
وتبعاً لهذا السّياق التّفاعلي طورا والانشقاقي تارة في أوساط المنشغلين بتجربة الدّين، حصل استبعاد فلسفة الدّين من المقاربات العلميّة، كونها تعالج الموضوع بشكل قيمي (أكسيولوجي) واستنباطي في بحثها عن الطّبيعة «الحقيقيّة» للدّين؛ وبالمثل حصل استبعاد علم اللاّهوت بشكل حازم بوصفه تأمّلا عقليا للمؤمن في إيمانه الخاص، حيث يخضع نظره الخاص إلى موضوع ديني معياري. لكنّ التّرحيبَ باللاّهوتيين كأفراد والرّفض للاّهوت كرؤية ومنهج بقي حاضراً ضمن علوم الأديان، لعلّ الحالة الأوضح في هذا السّياق اللاّهوتي «رودولف أوتّو». فانشغاله بـ «المقدّس» يأتي في مقدّمة اهتمامات العلوم الدّينيّة به. وتُعدّ قراءته للدّين في كتابه «المقدّس» إحدى الكواشف المهمّة لتوضيح العالم الدّيني(10). لكنّ التّحوّل الجاري من «فلسفة الدّين» إلى «فلسفة الأديان»، وبالمثل من «لاهوت دين بعينه» إلى «لاهوت الأديان»، وما رافق ذلك من مراجعات للخروج من «المركزيّة المسيحيّة»(11)، بات مدعاة لمراجعة الأسس المكوّنة لعلوم الأديان، حيث أثيرت المسألة مع ثلّة من الدّارسين الغربيّين أمثال «بيار جيزل» و«أنسغار مونيكس» و«آلدو ناتاليه تيرّان»(12). والواقع أنّ ثمة محاولات لعلْموة الخطاب اللاّهوتي المسيحي من الدّاخل، على غرار محاولات «اللاّهوت النّقدي» و«المنهج التّاريخي النّقدي»(13)، وهو ما يفتقره السّياق الإسلامي.
آفاق التكامل بين المنهجين
على سبيل الذّكر، أثارت التّطوّرات المبكّرة لعلوم الأديان، التّاريخيّة والسّوسيولوجيّة والنّفسيّة، نفورا داخل الأوساط اللاّهوتيّة الغربيّة بوصفها مدعاة للرّيبة والتّشكيك في الإرث الدّيني؛ لكن تحوّلا مهمّا حصل في العقود الأخيرة، حيث بدأت الأوساط اللاّهوتيّة في احتضان المناهج الدّارسة للظّاهرة الدّينيّة لا سيما منها السّوسيولوجيّة والأنثروبولوجيّة. معتمِدة أحيانا تلك العلوم وموظّفة مقولاتها وتفسيراتها، لفهم عوامل تراجع الدّين وزحف العلمنة، وذلك بقصد قلْب المعادلة وجعل الدّين يستعيد المبادرة. وبالتّالي ثمّة محاولات لهضم المداخل العلميّة، مدفوعة بقصد توظيفها لصالح المعتقد الذّاتي ودعمه. وإن أبدى اللاّهوت المسيحي تخلّصا من الرّيبة والخشية من تلك المناهج مثمّنا دورها حينا وإسهامها في وعيه بذاته وبالعالم آخر، فالجليّ في الجانب الإسلامي غياب تلك المصالحة، ولا تزال قطيعة عميقة بين العلوم الدّينية والعلوم الشّرعيّة. والمسألة عائدة بالأساس إلى مناهج التّكوين الدّيني في جامعات العلوم الإسلاميّة.
ولو عدنا إلى أوضاع التّوتّر التي احتضنت علوم الأديان، لتبيّن لنا حدّة تأثير الصّراعات على السّياقات العلميّة، لا سيما في فرنسا إبّان الثّورة، وتواصل آثارها حدّ الرّاهن، مع خفوت ذلك التّوتّر في أوساط أخرى ساهمت في منشأ تلك المناهج، مثل الأوساط البروتستانتيّة. وعلى العموم ثمّة تقليدان في تناول الظّاهرة الدّينيّة من وجهة نظر علميّة، أحدهما فرنسي «Sciences religieuses»، والآخر ألماني «Religionswissenschaft». ترافق منشأ الأول مع غلق كليّات اللاّهوت التّابعة للدّولة في فرنسا (1885) وتدشين قسم العلوم الدّينيّة في المدرسة التّطبيقيّة للدّراسات العليا(14). إذ جاء تدريس «تاريخ الأديان» في فرنسا، في 24 فبراير 1880، تعبيرا عن قطيعة مع تدريس اللاّهوت في الجامعة الفرنسيّة. والتمشّي الذي استبدل دراسة اللاّهوت بتاريخ الأديان هو التمشّي ذاته الذي حظر تدريس «الكاتكيزم» (التلقين الدّيني) في المدارس الإعدادية(15).
فقد نشأ الفصل بين المقاربة اللاّهوتيّة والمقاربة العلميّة داخل أجواء الصّراعات الإيديولوجيّة المحمومة التي عاشتها فرنسا العلمانيّة مع كنيسة روما، بدا فيها احتكار المواقع الأكاديميّة وتوظيف السّلطة المعرفيّة، حتّى بلوغ تغيير المناهج التّعليميّة، أمرا حاسما لترجيح كفّة الثّورة. نتساءل هل ما زال مبرّرٌ لذلك الفصل الذي تحوّل إلى تقليد أكاديمي؟ إذ عادة ما يسود فصلٌ بين منهجَيْ مقاربة الظّاهرة الدّينية، العلمي واللاّهوتي، والجلّي أنّ تبنّي ذلك الفصل من قِبل من يزمعون دراسة الظّاهرة الدّينيّة غالبا ما جاء مستندا إلى حدود وتقسيمات واهية، والمسألة وفق نظري ناتجة عن أُحادية تكوين لدى دارسي «الظّاهرة الدّينيّة»، أن يكون الباحث خرّيج كلية علوم اجتماعيّة أو خرّيج كليّة دينيّة بالمعنى اللاّهوتي أو الشّرعي، فيأتي التّفكير في الظّاهرة مشوبا بتغليب أحد المنهجين. والأمر في الوسط الأوروبي يعود إلى خلفيّات سياسيّة متجذّرة في الوسط الأكاديمي، تحوّلَ بمقتضاها الدّين من معطى عمومي إلى تديّن خصوصي.
وصحيح أنّ علم الأديان يستند إلى سلسلة من العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة عدّد منها الفرنسي «ميشال مسلان»: تاريخ الأديان، وعلم الاجتماع الدّيني، وعلم النّفس الدّيني، والظّواهريّة، والإناسة الدّينيّة، والبنيويّة، والمقارنة، والرّمزيّة، وأضاف إليها آخرون، مثل «جوفاني فيلورامو»، الألسنيّة والجغرافيا الدّينية والقانون المقارن للأديان، مع ترك الباب مواربا لإمكان إلحاق علوم أخرى(16). ما أريد أن أخلص إليه في ضوء هذا التّمشّي، أنّ حدود علم الأديان مثل حدود دولة إسرائيل غير مرسومة بشكل نهائي حدّ الراهن، فلا زالت عرضة للمدّ والجزر. فلماذا هذا الإصرار على استبعاد المساهمة اللاّهوتيّة، ونحن نعيش انتفاء صراع المواقع بين ما هو كَنَسي وما هو مدني، لا سيما وأنّ المعطى اللاّهوتي قد شكّل الأرضيّة التي تولّدت منها مباحث تاريخ الأديان ومقارنة الأديان وغيرهما؟ إذ لا يعني تبنّي المقاربة العلميّة للدّين بالمفهوم الحديث، أن نلقي بسائر الإسهامات اللاّهوتيّة، التي نسِمُها بالإيمانيّة، والتي عرفها الإنسان المؤمن، على مدى قرون. والمهمّ أن نتفطّن إلى أن تلك المباحث المكوِّنة لعلم الأديان قد نشأت في فضاء غربي، ولا يعني أنّ الحضارات الأخرى قد عانت التّوتّر ذاته، أو أنّها لم تولِّد مناهجها ورؤاها في فهم الإنسان المتديّن. من هذا الباب تأتي حوافز الاستعانة بمباحث أخرى في فهم «الإنسان المتديّن»، حتى لا تبقى رؤانا مرتهنة للسّياق الغربي، بما يزيد من ترسيخ سطوته. ما يجعلني أتساءل: هل استيراد المناهج والتّقسيمات التي نشأت في الغرب كفيل بإفهامنا التّجربة الدّينية؟
الهوامش
 . V(1) Van der leeuw, Fenomenologia della della religione, tr. It., Einaudi, Torino 1960, p. 529
 . G(2) Giovanni Filoramo – Carlo Prandi, Le scienze delle religioni, Morcelliana, Brescia 1997, p. 36
 . R(3) Rudolf Otto, Il sacro, Editore SE, Milano 2009
 . G(4) Giovanni Filoramo, Che cos’è la religione. Temi metodi problemi, Einaudi , Torino 2004, pp. 131 -132
(5) ميشال مسلان، علم الأديان: مساهمة في التأسيس، ترجمة عزالدين عناية، المركز الثقافي العربي، بيروت 2009، ص: 20-21.
 . S(6) Symposiun recueilli par H. Desroche et J. Seguy, Introduction aux sciences humaines des religions, voir Henri Charles Peuch et Paul Vignaux; La science des religions en France, Editions Cujas, Paris 1970, p. 10
 G(7) Gustave Mensching, Histoire de la science des religions, traduit de l’allemand par Pierre Jundt, La Marre, Paris 1955
 . S(8) Sant’Agostino, La città di Dio, Rusconi, Milano 1984, pp. 691 -692
 . (9) Giovanni Filoramo, Che cos’è la religione. Temi metodi problemi, Einaudi , Torino 2004, p. 150
 . (10) Aldo Natale Terrin, Scienza delle religioni e teologia nel pensiero di Rudolf Otto, Morcelliana, Brescia 1978, p. 220- 225.
(11) حول الجدل القائم بشأن «المركزية المسيحية» و»مركزية المسيح» في الخلاص، يمكن الاطلاع على طروحات الاستيعاب والاستبعاد للآخر الديني ضمن ترجمتنا لكتاب الفكر المسيحي المعاصر قضايا ومراجعات: برونو فورتي- جون كسلمان-رونالد ويثروب، دار صفحات، دمشق 2014، ص: 35.
 . (12) Aldo Natale Terrin, Scienza delle religioni e teologia. Per un studio integrale delle religioni, in aa. vv., Introduzione allo studio della religione, UTET, Torino 1992, pp. 213 -51
(13) الفكر المسيحي المعاصر قضايا ومراجعات، ص: 45 وما بعدها.
 . (14) Giovanni Filoramo, Che cos’è la religione. Temi metodi problemi, Einaudi , Torino 2004, p. 128
 .(15) Julien Ries, La scienza delle religioni. Storia, storiografia, problemi e metodi, Jaca Book, Milano 2008,  p. 137 -138
 . (16) Giovanni Filoramo, Che cos’è la religione. Temi metodi problemi, p. 146