في الصميم

بقلم
نجم الدّين غربال
أية سياسات للحد من الفقر؟ (السياسات الهيكلية – حالة الميزان)
 ﴿والسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ المِيزاَنَ * ألاَّ تَطغَوْا فِي المِيزَان * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ ولاَ تُخْسِرُوا الْمِيزانَ﴾ (الرحمان:7-9)، فهل أنّ موازين الاقتصاد والسّوق والماليّة العموميّة ببلدنا تونس مُقامة بالقسط؟ سُؤال نبحث عن إجابة له من خلال معرفة حالة تلك الموازين في سياق وضعنا لسياسات هيكليّة للحدّ من الفقر مُتعدّد الأبعاد (1) ، بعد ما وضعنا، بحمد اللّه في مقالات سابقة(2) سياسات مُتعدّدة الأبعاد، إقتصاديّة واجتماعيّة وبيئيّة.
ويُراد لمعرفة تلك الموازين، أن تكون علميّة تكتسي قدرا كبيرا من الموضوعيّة، ومن خلالها، تحليل حالة كلّ منها للوقوف عند حقيقة الاختلالات الهيكليّة وأسبابها الجوهريّة بهدف امتلاك القدرة على إقامة الوزن بالقِسط وعدم خُسران الميزان في الاقتصاد والسّوق التّونِسِيَّيْن والماليّة العموميّة لدولتنا، ولعلّ ذلك يتحقّق حين نصل الى اتّخاذ سياسات هيكليّة للحدّ من الفقر والعمل على عدم اتّساع دائرته، والتي شملت أكثر من خُمس سكّان البلد إذا اعتمدنا على مؤشّر فقر الدّخل فقط (3) والّذي لا يتجاوز حده اليومي 1.9 دولار بتعادل القوّة الشّرائيّة (5.844 دينار تونسي حسب البنك المركزي التّونسي)(4).
1 - ميزان الاقتصاد
تستوجب إقامة ميزان الاقتصاد بالقسط أمورا ثلاثة بالأساس وهي: 
* مُساهمة جميع النّاشطين في تحمّل تكاليف النّشاط الاقتصادي واستفادتهم جميعا بثمار ذلك النّشاط، وهذا يتطلّب التزام الجميع بثقافة الأخذ والعطاء، وانخراط الجميع في التّنافس الشّريف والشّفّاف على تقديم الأفضل ﴿وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾ (المطففين:26) 
* توازن بين قطاعات الاقتصاد على مستوى مجالات النّشاط وكذلك على مستوى هياكل الإنتاج ونظام الملكيّة المعتمد لديها على مستوى جميع الجهات والأقاليم، شمالا وجنوبا، شرقا وغربا.
* أولويّة اعتماد التّمويل الذّاتي للنّشاط الاقتصادي وقوامه الإنفاق، بدون إسراف أو تقتير، بما يستجيب لحاجيّات المجتمع أفرادا وفئات وجهات، وبشكل مُتوازن ومُنصف، وألاّ يكون ذلك النّشاط على حساب الأجيال القادمة والبيئة والمحيط.
إن كان ذلك نظريّا، لكيفيّة إقامة ميزان الاقتصاد بالقسط، فهل أنّ ذلك واقع حال الاقتصاد التّونسي أمْ أنّ طغيانا ما حاصل ٌفي ذلك الميزان؟
• ميزان المُساهمة في الاقتصاد التّونسي:
يشهد هيكل الاقتصاد التّونسي خللا أو ما سمّاه أنس الشّابي بـ «الهيكلة الثّنائيّة للاقتصاد التّونسي»(5)  والّذي يعكس وجود نوعين من الاقتصاد، الأوّل رسمي مُعلن ومُلتزم باستحقاقات الانتماء الى المجتمع والدّولة، والثّاني مُوازِي سرّي غير مُلتزم بتلك الاستحقاقات. اقتصاد ما فتئ يتّسع ويتمدّد، حيث «يُوظّف نصف ما يُوظّفه القطاع العام، وتبلغ قيمة إنتاجه ما يُقارب نصف النّاتج المحلي الإجمالي»(6) كما تناهز نسبته من حجم الاقتصاد التّونسي ككلّ 54 %(7) وله آثار خطيرة سواء على المجتمع من خلال تعميقه للتّفاوت الاجتماعي أو على الاقتصاد الرّسمي من خلال إثقال كاهله، حيث يجعله يتحمّل النّصيب الأكبر من حجم تمويل أنشطة الدّولة خاصّة الاستراتيجيّة منها كالصّحة والتّعليم والبيئة. فمع استفادة القطاع الموازي بكلّ الخدمات العامّة، دون المُساهمة في تحمّل جزء من تكاليفها، والسّلع المدعومة من الدّولة بالمجّان،  يتكبّد الاقتصاد الرّسمي خسائر فادحة نتيجة ارتفاع تكلفة أنشطته، يكشفُها تراجع مردوديّته وبالتّالي تراجع اسهاماته الماليّة للدّولة ممّا أدّى الى تراجع دور الدّولة الاجتماعي للحدّ من الفقر (8). 
• ميزان مُساهمة القطاعات في التّنمية:
يعرف ميزان الاقتصاد التونسي اختلالا قطاعيّا، كما هو في كلّ الدّول «النّامية»، يعكسه الاعتماد الكبير على القطاع العام في تمويل المشاريع التّنمويّة، وضعف مُساهمة القطاع الخاصّ، مُقارنة بمُساهمته في الدّول «المُتقدّمة»، إذ تتراوح النّسب لديها ما بين 80 الى 100 % في حين أنّ النّسبة في الدّول النّامية لا تتجاوز 40 الى 50 % مثل مشاريع المياه  والصّرف الصّحي والأمن الدّاخلي. ونظرا لتراكم عجز الميزانيّات العامّة للدّول النّامية، بما فيها بلدنا فإنَّ مواصلة اعتمادها على القطاع العام غير ممكن، خاصّة إذا علمنا أنّ مصدر الاستثمارات هو بالأساس الاقتراض الأجنبي، وأنّ حجم مديونيّة تلك الدّول لم تعد تسمح بذلك، فضلا عن شروط الاقتراض التي أصبحت تكاليفها مُشطّة وغير مقدور عليها.
• ميزان القطاعات الإنتاجيّة في الاقتصاد التّونسي:
للاقتصاد التّونسي، على مستوى مجالات النّشاط، اختلال بنيوي لصالح الخدمات بنسبة 42.7 % من النّاتج المحلي الخام، بينما لم تتجاوز نسبة قطاع الفلاحة والصّيد البحري منه 12.3 % سنة 2022، ولم تتجاوز مساهمة القطاع الفلاحي في النّاتج المحلّي الإجمالي، بتكلفة عوامل الإنتاج سنة 2000، نسبة 11.3 % و8 % سنة  2010 (9) ومن خلال ذلك تمّ، ومنذ أمد بعيد تهميش أساس اقتصاد مُستدام ومُستقل وملائم لحاضنته الطّبيعيّة والاجتماعيّة، وباستهداف القطاع الفلاحي تمّ استهداف ضرورات العيش كالقمح والشّعير والزّيوت النّباتيّة الّتي أصبحت غير مضمونة خاصّة مع الحرب بين روسيا واكرانيا المُصَدِّرين الرّئيسيّين عالميّا لها، ممّا يزيد حتما في نسب الفقراء في العالم وفي بلدنا طبعا، ما لم نعد الاعتبار للقطاع الفلاحي في نسيجنا الاقتصادي اليوم قبل غد.
• ميزان سلوك الإنفاق:
يوجد اختلال هيكلي على مستوى الإنفاق العام ضحيّته الاستثمار، حيث لم يتجاوز نصيبه المُقدّر في ميزانية 2021، 4218 مليون دينار (م د) أي ما نسبته 9.5 % فقط من مجموع نفقاتها، وبتراجع سنة 2022 حيث قُدِّرَ بـ 4183 م د أي ما نسبته 8.9 % فقط، كما أنّ متوسّط معدّل الاستثمار بالنّسبة للنّاتج المحلّي الإجمالي في تراجع مستمر من عقد الى آخر حيث تمّ تسجيل نسبة 26.7 % في العقد السّابع من القرن الماضي، ونسبة 21 % في العقد التّاسع ليصل في العقد الأخير نسبة 19.4 % (10).  كما سجّلت الاستثمارات الأجنبيّة انخفاضا كبيرا ومُخلّا بالإنتاج والتّحويل التّكنولوجي مَعًا، إذ انخفضت من 40 % من مجموع التّمويل الخارجي أي ما يُمثّل 3.4 % من النّاتج المحلّي الإجمالي سنة 2010 الى 11.4 % أي ما يُمثِّلُ 1.7 % من النّاتج المحلّي الإجمالي سنة 2022 والّذي أدّى الى انكماش مزدوج تقني واقتصادي (11) .
• ميزان تمويل الاقتصاد:
يوجد اختلال هيكلي آخر على مستوى تمويل الاقتصاد لصالح الدّين الخارجي، حيث بلغت نسبة ذلك الدّين المُقدّرة 62.9 % من مجموع الدّين العام، سنة 2021 و63.9 % سنة 2022 في حين لا تتجاوز نسبة الدّين الدّاخلي المُقدّرة 37.1 % سنة 2021 و36.1 % سنة 2022 (12).  
ومن جهة أخرى، تمّ تسجيل ارتفاع نسبة حجم الدّين العام من إجمالي النّاتج المحلي لتبلغ 85.56 % سنة 2021 (107844 م د) و82.57 % سنة 2022 (114142 م د)(13) كما أنّ مُتابعة تطوّر مُتوسّط الدّين الخارجي بالنّسبة للنّاتج المحلّي الإجمالي يُظهِرُ منحًى تصاعديّا في المُجمل بين سنتي 1962 و2022، فمن 36.2 % (1962-1971) و33.8 % (1972-1982) يقفز الى 48.8 % (1982-1991) و47.4 (1992-2001) ثم يتراجع الى 37.4 % (2002-2010) ليقفز قفزة صاروخيّة ويصل الى 66.7 % (2011-2022) (14)
2 - ميزان السّوق
تقتضي إقامة ميزان السّوق بالقسط أمورا ثلاثة بالأساس: 
* مُلاءمةَ عرض المنتجات والخدمات الدّاخليّة مع الطّلبات الخارجيّة في الأسواق الخارجيّة، وهذا يتطلّب اشتغال كلّ من الاستثمار والتّصدير كمُحرّكين أساسيّين من محرّكات النّمو الاقتصادي بنسق سريع وبمستوى عال من الاتقان والإحسان لكسب معركة المُنافسة الدّوليّة.
* توزيعًا جغرافيًّا شاملا في كامل مناطق البلاد للإنتاج، وتوفير كلّ متطلبات ذلك من تهيئة مناخ مُلائم وجذّاب للاستثمار وتوفير التّمويل اللاّزم والبنية الماديّة والرّقمية الضّرورية والإعداد الجيّد للفاعلين الاقتصاديّين ولكلّ النّفُوس والعقول والأيادي العاملة. 
* تدرّبَ الجميع، هياكل وأفراد على إقامة الميزان بين مستوى الاستهلاك والإنتاج، وكذلك تطوّره وما يعنيه من إقامة الميزان بالقسط بين العرض والطّلب، بما يُعدّل الأسعار ويُحافظ بالتّالي على المقدرة الشّرائية للمواطنين. إن كان ذلك نظريّا، لكيفيّة إقامة ميزان السّوق بالقسط، فهل أنّ ذلك واقع حال السّوق لدينا أمْ أن طغيانا ما حاصلٌ في ذلك الميزان؟ 
• الميزان التّجاري:
هناك اختلال هيكلي على مُستوى الميزان التّجاري وما يعنيه من ضعف للصّادرات وبالتّالي ضعف المداخيل بالعملة الأجنبيّة مقابل ارتفاع الواردات وما يُلحقه من ضرر برصيدنا من احتياطيات العملة الأجنبية وبالمنتجات المحلّيّة، حيث بلغ العجز التّجاري 17820 م د سنة 2019 و11667 م د سنة 2020 و14654 م د سنة 2021 (15) وبمُتابعة متوسّط تطوّر العجز التّجاري خلال العقود الأربعة الماضية، نلاحظ ازدياد ارتفاع العجز وبشكل كبير، فمن 1085.48 م د (1982-1991) مرورا بـ 2753.46 م د بنسبة ارتفاع 254 % (1992-2001) و5057.87 م د بنسبة ارتفاع 468 % (2002-2010) وصولا الى 13708.97 م د (2011-2020) لتقفز نسبة الارتفاع مقارنة بالعجز المُسجَّل ثمانينات القرن الماضي الى مستوى غير مسبُوق 1263 %.
• ميزان نظام الإنتاج:
أنتج الاختلال الهيكلي في نظام الإنتاج خللا هيكليّا بين عرض الشّغل وطلبه حيث التّفاوت في توزيع قوّة العمل عبر الجهات الّذي استفادت منه الجهات السّاحليّة على حساب الدّاخلية منها نظرا لما حظيت به من نسب عالية من الاستثمارات العموميّة والخاصّة، وسجّلت تبعا لذلك نسبَ بطالة أقلّ من الجهات الدّاخلية. 
• ميزان الاستهلاك والإنتاج:
اختلال هيكلي بين الاستهلاك والإنتاج الدّاخليَيْن، حيث أنّ مُستوى تغيّر معدّلات الاستهلاك الخاص والعام أعلى من النّاتج المحلي الإجمالي على مدى العقد الأخير للألفيّة السّابقة والعقدين الأوّلين لهاته الألفيّة كما أنّ النّمو الاقتصادي ما فتِئ يفقد نصف نقطة مئوية (في المتوسط) بسبب العجز الدّائم في الميزان التّجاري (16).
3 - ميزانية الماليّة العموميّة
يكتسي ميزان الماليّة العموميّة أهمّية قُصوى باعتبار أنّ كلّ اختلال هيكلي عام للميزانيّة العامّة يعكس فجوة كبيرة بين حجم الإيرادات المُقدّرة والمشكوك توفّرها وحجم الأعباء الحقيقيّة المُنتظرة لتلبية حاجيات المجتمع من صحّة وتعليم وبنية تحتيّة ومُواجهة التّغيّرات المناخيّة والتّدهور البيئي، مِمّا يجعل الموارد الضّرورية لحياة النّاس ومعاشهم نادرة. 
ويتطلّب إقامة الوزن بالقسط على مستوى الماليّة العموميّة، أمورا ثلاثة بالأساس:
* زيادة حجم المداخيل ذات المصدر الدّاخلي عن حجم المداخيل ذات المصدر الخارجي فضلا عن الحدّ من استحواذ الضّرائب على النّصيب الأكبر من هيكلة المداخيل الدّاخليّة.
* جعل الإنفاق العام محكوما بأداء دور القوامة في الحياة الاقتصاديّة والاجتماعية والبيئيّة دون الانزلاق، الى الإسراف أو الى التّقتير، فكلّ إسراف إهدار للموارد المحدودة أصلا وكلّ تقتير ركود للنّشاط الاقتصادي المحدود أيضا، وبالتّالي تراجع لخلق الثّروة وعدم القدرة على الاستجابة لمتطلّبات حياة النّاس وعيشهم.
* جعل الدّائرة الماليّة والدّائرة الاقتصاديّة شبه مُتطابقة حفاضا على الدّور الأصلي والأصيل للمال في النّشاط الاقتصادي إنتاجًا للسّلع وإسداءً للخدمات، لا أن يكون دُولة بين الأغنياء أو أن يكون رِبًا يمحقه اللّه، وذلك حفاضا على اقتصادنا الوطني من الظّواهر المرضيّة كالتّضخم والرّكود والبطالة، الّتي تشلّ حركة النّاشطين فيه، وينضب تبعا لذلك رصيدنا من السّلع والبضائع، وتتعسّر بذلك حياة النّاس ومعاشهم، وتتّسع دائرة الفقر والحرمان بينهم. 
وإن كان ذلك نظريّا، لكيفية إقامة ميزان الماليّة العموميّة بالقسط فهل أنّ ذلك واقع الحال لدينا، أمْ أن طغيانا ما حاصلٌ في ذلك الميزان؟ 
• ميزان الإيرادات: 
 هناك اختلال هيكلي على مستوى إيرادات الميزانيّة، يعكسه حجم مداخيل الجباية من مجموع المداخيل الدّاخلية وحجم الاقتراض الخارجي من مجموع الاقتراض العام، فمداخيل الجباية قُدِّرت  بـ 30816 مليون دينار (م د) سنة 2021 أي ما نسبته 91 % وبـ 35091 م د سنة 2022 أي بنسبة 92 %، أمّا حجم الاقتراض الخارجي فقد قُدّرَ بـ 12150 م د سنة 2021 أي بنسبة 60 % من مجموع الاقتراض العام، وبـ 12652 م د سنة 2022 أي بنسبة 63 %.
أمّا هيكلة المداخيل الدّاخليّة فهي لصالح الضّرائب، إذ أنّ ميزان اعتماد التّمويل الذّاتي يقوم أساسا على الضّرائب، حيث بلغ ما تمّ تقديره ما نسبته 74 % سنة 2021 و76 % سنة 2022 وضعف المداخيل غير الجبائيّة حيث لا تتجاوز 3103 م د من مجموع الإيرادات الدّاخليّة المقدرة بـ 42039 م د سنة 2021 و3067 م د من مجموع سنة 2022 المقدّر بـ 45945 م د (17).
• ميزان الإنفاق العام:
هناك اختلال هيكلي على مستوى الإنفاق العام لصالح خدمة الدّين العام (أصل الدّين + الفائدة) على حساب الاستثمار في الصّحّة العامّة والتّعليم والبيئة، حيث بلغت النّفقات المُقدّرة لخدمة الدّين 14911 م د أي ما نسبته 25.2 % من مجموع الإنفاق العام سنة 2021 و14351 م د أي ما نسبته 23.3 % سنة 2022، في حين لم تحض النّفقات المُقدّرة المخصّصة للتّنمية من مجموع النّفقات سوى بنسبة 14 % سنة 2021 وبنسبة 13.5 % سنة 2022 وهذا ما يُفسّر تدهور عيش فئات عريضة من المجتمع التّونسي وتراجع مستوى حياتهم والذي تعكسه ظاهرة الفقر، بتعدّد أبعاده، من فقر في الدّخل والاستهلاك وفقر في الصّحة وفقر تعليمي وفقر في العمل اللاّئق المرتبط بفقر معلوماتي وطاقي وعلائقي وغيره من أنواع الفقر.
• ميزان الدّائرة الاقتصادية الحقيقية والدّائرة الماليّة:
رغم تقلّص الإنتاج الزّراعي والصّناعي، ازداد نصيب الخدمات الماليّة من النّاتج الدّاخلي الخام سواء على مستوى الإنتاج أو التّشغيل أو الأجور، ممّا أفرز ما يُسمّى «أمولة» الاقتصاد دون سند اقتصادي حقيقي مُوَلّدا بذلك ارتفاعا في نسب التّضخّم وتراجع قيمة الدّينار التّونسي (18) .
 ويعكس ارتفاع نسب التّضخّم اختلالا بين القُدرة الشّرائيّة للمُستهلكين المُتهاوية ومُستوى الأسعار المُتصاعد، و يُفسّرُ تهاوي القدرة الشّرائية بتراجع القيمة الحقيقيّة للأجور، فضلا عن تراجع مُستوى نُمو التّشغيل ببلدنا حيث انتقل من نسبة 3 % (1972-1981) و2.3 % (1982-1991) و2.9 % (1992-2001) و2.5 % (2022-2010) الى نسبة 0.4 % (2011-2020) (19)  مع تصاعد الأسعار والذي تعكسه نسب تضخّم في ارتفاع مُستمر، والّذي يُعبّر عنه كلّ من تطوّر مؤشّر أسعار البيع الصّناعي وتطوّر مؤشر أسعار الاستهلاك العائلي ( باعتماد أساس 100 لسنة 2015).
فإنْ مرّ مؤشّر أسعار البيع الصّناعي من 128.8 % عام 2017 الى 139 % عام 2018 و147.3 % عام 2019(20)  فإنّ مؤشر أسعار الاستهلاك العائلي قد مرّ بدوره من 109.1 % عام 2017 الى 117.1 % عام 2018 و125 % عام 2019 (21) مِمّا يُوضّح الارتفاع المُتزايد لكلّ من تكلفة الإنتاج وأسعار الاستهلاك، لتتآكل بمقتضاه قيمة الدّينار مِمَّا أشّر على تدهور صحّة الاقتصاد بما يعنيه ذلك من عدم قُدرته على خلق ما يكفي من الثّروة لتوفير الموارد الضّرورية لاقتناء حاجيات المستهلكين، الأمر الّذي يجعل مقدرتهم الشّرائية في تدهور مُستمر وبالتّالي توسّعٌ لدائرة الفقر ببلدنا.  
وأمام الطّغيان المُسجّل في موازين كلّ من الاقتصاد والسّوق والماليّة العموميّة ببلدنا، ولمعالجة هذه الاختلالات الهيكليّة، بهدف الحدّ من فقر الدولة ومجتمعنا وأفراده، لا بدّ من البحث في سياسات هيكليّة مُتعدّدة الأبعاد، بديلة وناجعة وناجزة، لإقامة تلك الموازين الثّلاث بالقسط، ولعلّ المُنطلق لذلك يكمن في  إعادة النّظر في كلّ من هيكلة ميزانيّة الدّولة، إيرادات وأعباء على حدّ سواء، وفي هيكلة كلّ من الاقتصاد والسّوق، كلّ ذلك بعيدا عن السّياسات الهيكليّة، سواء المُوجّهة للسّياسات الكلّية للدّولة، من طرف صندوق النّقد الدّولي أو تلك المعنيّة بالتّنمية والمُحدّدة من طرف مجموعة البنك العالمي، نظرا لمخاطرها، والّتي سنُلقي الضّوء عليها، في العدد القادم بمشيئة اللّه، حين نقترح سياسات هيكليّة بديلة.
الهوامش
(1)  الفقر مُتعدّد الأبعاد يشمل التّعليم والعمل اللائق والوصول الى مياه الشرب المأمونة والصرف الصّحّي الكافي( «من فقر الدخل إلى الفقر متعدد الأبعاد - مقارنة دولية» فرانشيسكو بورشي، نيكول ريبين -المعهد الالماني للتنمية Entwicklungspolitik— DIE Deutsches Institut für وكالوديو إي مونتينيغرو- البنك الدولي.
(2) راجع مقالاتي الثلاث الصادرة تباعا بمجلة «الإصلاح» الالكترونية اعداد 196-197-198 www.alislah.mag
(3) تونس تطرح مخططا تنمويا جديدا(2023 - 2025) يراهن على القطاع الخاص لتعافي الاقتصاد تسعى من خلاله  إلى مكافحة الفقر وخفض نسبة البطالة وزيادة إنتاج الفوسفات وتعزيز زراعة أكثر استدامة. موقع: https://alarab.news ،  الأربعاء 04/01/2023
(4)  https://www.bct.gov.tn/bct/siteprod/arabe/cours_ar.jsp?la=AR
(5) «تحديات الاقتصاد التونسي في المرحلة الانتقالية (2011-2017)» لعلي الشابي جامعي تونسي متخصص في القضايا الاقتصادية ص 8
(6) محاضرة هيرناندو دي سوتو يناقش من خلالها الاقتصاد غير الرسمي في تونس، https://youtube/yCtSqtxYXD8
Todaro, M., “A model of labor migration and urban unemployment in less developed countries”, American Economic Review, 59, 1969, p. 138-148.
(7)  /20/2/https://www.aljazeera.net/ebusiness/2019
(8) لمزيد الإحاطة بخطورة الاقتصاد الموازي والحلول الممكن لا دماجه في الاقتصاد الرسمي الرجوع الى مقال لي بعنوان «التجارة الموازية: الآثار والحلول» ،موقع الاتحاد الجهوي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية بصفاقس  www.utica-sfax.org 
(9) «تحديات الاقتصاد التونسي في المرحلة الانتقالية (2011-2017)» لعلي الشابي جامعي تونسي متخصص في القضايا الاقتصادية ص 14
(10)«إصلاحات من أجل اقتصاد مستدام ومنصف مساهمة الشباب الديمقراطي الاجتماعي» ص 23
https://library.fes.de/pdf-files/bueros/tunesien/19768.pdf
(11)  https://ar.lemaghreb.tn
(12) «تقرير حول ميزانية الدولة لسنة 2022»، الجمهورية التونسية وزارة المالية ديسمبر 2021، المعهد الوطني للإحصاء
(13) التّقرير السابق.
(14) «إصلاحات من أجل اقتصاد مستدام ومنصف مساهمة الشباب الديمقراطي الاجتماعي» ص 25 ، مرجع سابق
(15) المعهد الوطني للإحصاء، تقرير حول ميزانية الدولة لسنة 2022، الجمهورية التونسية وزارة المالية ديسمبر 2021 ص 8
(16) «تحديات الاقتصاد التونسي في المرحلة الانتقالية (2011-2017)» لعلي الشابي ، مرجع سابق، ص 14
(17) المعهد الوطني للإحصاء، تقرير حول ميزانية الدولة لسنة 2022، مرجع سابق.
(18) Hédi Mechri, L’économiste Maghrébine p 04, Spécial Finance Nov 2022. 
(19) دفاتر الإنتاجية عدد 4، المعهد التونسي للقدرة التنافسية والدراسات الكمية 2020 ITCEQ، إصلاحات من أجل اقتصاد مستدام ومنصف مساهمة الشباب الديمقراطي الاجتماعي» ص 21.https://library.fes.de/pdf-files/bueros/tunesien/19768.pdf
 (20) Tunisie en chiffre 2021, Statistiques Tunisie p 27 Source Institut National de la Statistique
(21) نفسه