في العمق

بقلم
أ.د.عماد الدين خليل
مدخل إلى بناء العالم في المنظور القرآني (الحلقة الخامسة)
 ثمة منحة إلهيّة أخرى تَجِيءُ بعد اكتمال معمار العالم، وبموازاة دنيا النّبات ... إنّها عالم الحيوان الذي أريد به إطعام الإنسان والحيوان، وتهيئة وسائط النّقل لهذا الكائن الفريد الذي كرّمه اللّه سبحانه وتعالى وفضّله على كثير من الخلق تفضيلاً ... فضلاً عن إشباع حاجته للجمال، والشّفاء، والتّدفئة، والفرش، والبناء والتّأثيث وهو 9 ينوّع في خلقه هذا ما بين دابّة تمشي على بطنها وأخرى على رجلين وثالثةً على أربع ورابعة تطير في الهواء وهي تخفق بجناحيها، فلا تمسكها عن السّقوط إلاّ إرادة اللّه ... وينوّع جلّت قدرته في أشكالها وألوانها التي تبهر العين وتشبع حاجتها للجمال. وكلّنا رأى على شاشات التّلفاز تلك العروض اللّونيّة الباهرة للكائنات المائيّة وهي تسبح في مياه البحار والمحيطات، فتأخذنا الدّهشة لهذه القدرة التي لا نهاية لإبداعها وتنويعها، وكلمات اللّه التي ما لها من نفاد !! وهو جلّت قدرته أعلن ضمانه لإدامة رزق الإنسان والحيوان، وإطعامهما المستمر، فليس ثمّة ما تقوله بعض النّظريّات الظّنيّة كنظريّة «مالثوس» من أنه سيَجِيءُ اليوم الذي تزداد فيه كثافة البشرية فلا يعود الطعام كافياً لإشباعها فتتعرض للانقراض والزّوال. ها هنا شيء آخر يضرب هذه الظّنون بالحقيقة الثّابتة وهي إرادة اللّه التي كفلت الرّزق للإنسان والحيوان معاً ما دام هنالك نفس في هذه الدّنيا :﴿وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا...﴾(هود:6).
وكل هذه الكائنات الحيّة تمارس إذعانها لأمر اللّه وطاعتها له سبحانه وتعالى بالسّجود والتّسبيح كلّ على طريقته الخاصّة التي قد لا نفقه نحن لغتها، ولكنّه الأمر الواقع الذي تشير إليه وتؤكّده أكثر من آية كما سنرى.
ويبدو في ضوء هذه المعادلة المدهشة سخف أولئك الفلاسفة النّباتيين الذين يحرمون ما أنزل اللّه، فيمتنعون عن أكل اللّحوم إشفاقاً على الحيوانات ... وأكثر سخفاً منهم تلك الطّائفة الهندوسيّة التي تحرّم أكل لحم البقر، وتدعها تسرح في مدنهم وقراهم، وتلحق الأذى بالنّاس وعروض التّجارة، وليس ثمّة من يمدّ يده لمنعها، والذين يجرؤون على ذلك تطالهم سكاكين الطّائفيّة فتذبح منهم العشرات والمئات... وأكثر سخفاً وفجاجةً من هؤلاء وأولئك، تلك الطّوائف التي تنزل بعبادتها إلى درك البهيميّة فتعبد هذا الحيوان أو ذاك، وتتّخذ لهم أصناماً تسجد لها من دون اللّه ... بل إنّ بعض الطّوائف الضّالّة تذهب بهم عبادتهم بعيداً باتجاه الأعضاء التّناسليّة لهذا الحيوان أو ذاك!
أفلا يتحتّم بعد هذا كلّه، ومع هذا كلّه، أن نتوجّه بالشّكر والامتنان للّه الذي منحنا نعمه الكبيرة هذه، وفي المقدمة فئة العلماء الذين يدركون جيّداً، بسبب دراساتهم المعمّقة، وآليّاتهم الدّقيقة، أسرار هذا الكائن العجيب الذي ما كان يمكن أن يكون لولا إرادة اللّه سبحانه وتعالى الذي لو كان البحر مداداً لكلماته لنفد البحر قبل أن تنفد كلماته ولو جِيءَ بمثله مدداً !!
وثمّة لمسات تحدّثنا عن معجزة الخلق في أكثر من اتجاه، فضلاً عن التّنويع والتّلوين ... ذلك الحليب الأبيض الصّافي الذي ينطوي على العديد من الفوائد، والذي يخرج من بين فرثٍ ودمٍ لبناً سائغاً خالصاً للشّاربين ... من الذي جعله يخرج بهذه الصّفة المدهشة، من بين أكداس من الفضلات والدّماء غير إرادة اللّه؟ والعسل، الذي يحدّثنا كتاب اللّه أنّ فيه شفاء للنّاس، والذي كتبت في ذلك مئات البحوث وأخرجت عشرات الانسكلوبيديّات، من الذي أوحى لصانعيه من النّحل، سواء اتخذت الجبال بيوتاً أو الشّجر أو ممّا يعرش النّاس، أن تقدّم هذا الطّعام اللّذيذ، الذي جرّبنا جميعاً، كيف يشفينا من الأوجاع والأسقام.
ومن أجل ذلك كلّه، طالما نادتنا آيات القرآن الكريم، بل نادت أولئك الضّالين الذين غطّوا أعينهم بطبقة من الرّماد، وقلوبهم بالرّان والقار، أن يبصروا ابداعيّة اللّه في الخلق، وأنّ في ذلك كلّه لآيات لقومٍ يتفكّرون: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ*وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ*وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُـرُونَ﴾( يس:71-73).
إنّ عالم الحيوان هذا أمر مستودع في كتاب اللّه، سواء في رزقه أم في مستقره، وهو يتشكّل من أمم أمثالنا... ثمّ إلى ربهم يحشرون... فلتطمئن تلك الطّوائف السّاذجة من النّاس، والدّاعية إلى عدم قتل الحيوان وسفك دمه إشفاقاً عليه... لتطمئن، فهي بمجرد أن تشغل عقولها بذكاء، وتتجاوز العمى الذي حجبت به على أعينها، سترى رأي العين الحكمة من هذا كلّه الذي يجري على مسرح الحياة أو يمدّها بالبقاء والجمال. 
يوماً ، وأنا أتلو هذه الآية : ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ﴾(البقرة:26) فيتعرض عليّ أحد المتشكّكين قائلاً : حقاً أنّ البعوض يمثل مشكلة فلسفيّة! فقلت له : كيف؟ أجاب: كيف تبرّر أسباب خلق هذا الكائن التّافه الصّغير، الذي طالما أقلقنا خلال النّوم، وطّن في آذاننا السّاعات الطّوال، وامتص دماءنا، ولم يدعنا نغفو لحظةً واحدة ... هل ثمّة مبرّر لخلقه على الإطلاق ؟
قلت له : ارجع إلى الآية القرآنيّة التي تتحدّث عن هذا الكائن الصّغير فستجد الجواب على سؤالك المحير، والإجابة على ما تسميّه معضلة فلسفيّة. فلمّا تلوتها عليه لم يكد يفقه منها شيئاً، وأعاد القول بأنّها معضلة ليس لها من جوابٍ شافٍ !
أجبته : ولهذا ضرب القرآن الكريم بها مثلاً، وجعل النّاس ينقسمون ازاءها إلى صنفين:المؤمنون الذين «يعلمون» أنّه الحقّ من ربّهم، والكفّار الذين يقولون: ماذا أراد اللّه بهذا مثلاً؟ ولاحظ معي صفة «العلم» التي ألحقها بالمؤمنين، وكأنّه يريد أن يقول : إنّه بالإيمان والعلم معاً يمكن أن نعثر على الجواب. الإيمان بالتّسليم المطلق لحكمة اللّه 9 في الخلق، بدءًا بأكبر الكائنات الحيّة حجماً وانتهاءً بأصغرها... والعلم الذي سيكشف لنا حيناً بعد حين أبعاد الحكمة من خلق كائنات كهذه ... هذا إلى أنّ البعوض، وكلّ الحشرات المؤذية الأخرى ، تمثّل تحدّياً للإرادة البشريّة وتتطلّب استجابة من نوعٍ ما ... ومن مجموع هذه الاستجابات تتشكّل الحضارات البشريّة ... إنّني أتذكّر هنا ما ذكره المؤرّخ البريطاني المعاصر «ارنولد توينبي» من أنّ الحضارة المصريّة التي هي واحدة من أقدم الحضارات في العالم، ما كانت لتحقّق لولا قدرة المصريين القدماء على الاستجابة لتحديات البيئة المصريّة الصّعبة المترعة بالمستنقعات والبعوض والملاريا ... فشمّروا عن ساعد الجدّ، وطمروا المستنقعات، ولاحقوا البعوض، وأوقفوا زحف الملاريا، وصنعوا حضارتهم المصريّة تلك. وأتذكّر أيضاً كيف أنّ الصّين أعلنت يوماً عن حملة شاملة لمحو الذّباب المتكاثر في البيئة الصّينيّة، وابتكرت لذلك الوسائل، وأخذت بالأسباب، وأعلنت عن سلسلة من النّشرات التي تلقفها الصّينيّون ولاحقوا الذّباب وكادوا أن يأتوا عليه ... وغير هذين المثالين عشرات بل مئات الأمثلة، ليس أقلّها خطراً الإفادة من سموم العقارب والحيّات لتصنيع الأمصال المضادّة للسّم ونجاحها المدهش.
ثمّ إنّ هذه الكائنات التّافهة، كما قد يخيّل للبعض، كشفت المتابعات العلميّة في تركيبها الحيوي المدهش، في صنعها وتصميمها، بما في ذلك خراطيمها التي تعد بالعشرات والتي تصنف وفق وظائفها، فبعضها للمس وبعضها الآخر للامتصاص، وفئة ثالثة للتّحليل ، فكأنّها معمل كيماوي في أقصى درجات التّعقيد. والقرآن الكريم عندما يقول : ﴿فَمَا فَوْقَهَا﴾ فإنّ دلالة الكلمة تذهب إلى الكائنات الأصغر منها حجماً، والتي تحتوي هي الأخرى بقوة الكشف العلمي على تركيبها المدهش ...
إنّ عالم الطّبيعة ينطوي على شبكة من التّوازنات الحيويّة، من أجل إدامة الحياة وتوفير لقمة العيش للكائنات جميعاً. فلا يقل أحد من أنّ الكائن الفلاني لا حكمة من خلقه وحاشا للّه. وثمّة فارق كبير بين أمّة استفزها الذّباب، فقرّرت أن تعلن الحرب عليه، وبين أمّة أخرى تركته يتكاثر في ديارها ويتساقط على أطعمتها فيلوثها بالميكروبات ويسوق آلاف المواطنين إلى زنزانات الأوجاع والأمراض ... أكان يمكن أن يحدث هذا لو أنّ الإنسان أدرك الحكمة التي تكمن وراء خلق البعوض والذّباب ؟!
والآن فإلى هذه المنظومة المنتقاة من الآيات القرآنية الخاصة بدنيا الحيوان : ﴿وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾(هود:6). ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ ... ﴾(الحج:18). ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾(النور:41). ﴿وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾(النور:45). ﴿... وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ ...﴾(لقمان:10). ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ﴾(السجدة:27). ﴿وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ﴾( فاطر:28). ﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ*وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ ... ﴾(غافر:79-80). ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ﴾(الملك:19). ﴿أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ﴾(الغاشية:17). ﴿وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ﴾(الأنعام:38). ﴿وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ ...﴾(الأنعام:142). ﴿وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ*وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ*وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ*وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ*وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾(النحل:5-9). ﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ﴾(النحل:66). ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ*ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾(النحل:68-69). ﴿وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ﴾(النحل:80). ﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾(المؤمنون:21). ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ* وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ*وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ﴾(يس:71-73). 
وامتداداً لتقديم أطباق الفواكه والثّمار واللّحوم، وتزيين الحياة الدّنيا بألوان الجمال المدهشة وصنوفه المبدعة ، هنالك تأكيد القرآن الكريم على مبدأ استمراريّة الرّزق في الحياة الدّنيا، ومع الرّزق أنواع النّعيم التي لا تعدّ ولا تحصى والتي تتدفّق على البشريّة ليلاً ونهاراً وصباحاً ومساءً ... والتي يصعب إحصاؤها لغزارتها وتنوّعها، والتي تقدّم بسخاءٍ عجيب، والتي أسبغت علينا ظاهرةً وباطنةً، والتي تَجِيءُ في كثير من الأحيان موازيةً للجهد البشري في الاستقامة على الطّريق والاستجابة لدعوات الأنبياء (عليهم السلام).
إنّه عطاء اللّه سبحانه وتعالى الذي ما له من حدود ... ذلك الذي جعل لنا ما في الأرض جميعاً، وذرأ لنا ما فيها مختلفاً ألوانه، وخلق لنا الأزواج كلّها ممّا تنبث الأرض ومن أنفسنا ممّا لا نعلم ...الرّزق والعطاء الدّائم الذي ما له من نفاد... من أجل إدامة الحياة وتطمين حاجات النّاس والحيوان إلى الطّعام والشّراب والملبس والمسكن، وتعشقهم للزينة والجمال ... ومن ثمّ يَجِيءُ التّحدّي الكبير في كتاب اللّه لكلّ أولئك الذين يرون هذا بأمّ أعينهم ويلمسوه بأيديهم ولكنّهم ينكرونه ... يطلب منهم البرهان إن كانوا صادقين ... فهل قدروا أو يقدرون على الردّ إزاء هذا التّحدي؟ ﴿... وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾(النمل:64). ﴿أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ؟﴾(الملك:21).
ولكن أنّى لهؤلاء الذين اختاروا العمى على الإبصار أن يروا ويقدّروا هذا كلّه؟ فلنقرأ في كتاب اللّه بعيون مفتوحةً وعقل يعرف كيف يرى الظّواهر والأشياء على حقيقتها... فحينذاك سيسوقه هذا الذي يراه بعينه وعقله إلى شهادة لا إله إلا اللّه : ﴿وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾(هود:6). ﴿وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا ... ﴾(إبراهيم:34). ﴿قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإنسَانُ قَتُوراً ﴾(الإسراء:100). ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ..﴾(لقمان:20). ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَــاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُــلِ اللَّهُ ...﴾(سبأ:24). ﴿...  وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾(النمل:64). ﴿... يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾(الشورى:12). ﴿أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ...﴾(الملك:21). ﴿وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً﴾(الجن:16). ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ*الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ﴾(قريش:3-4). ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ... ﴾(المائدة:66). ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ ﴾(الأعراف:10). ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾(الأعراف:96). ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ...﴾(البقرة:29). ﴿وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ﴾(النحل:13). ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾(النحل:18). ﴿سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ﴾(يس:36).
وثمة وقفاتٍ عديدة في كتاب اللّه عند المسألة الجماليّة في بناء العالم، وما ذلك إلاّ لتأكيد قصديّة الخلق وغائيته، وإلاّ لو كانت الطّبيعة العمياء هي التي خلقت هذه الكائنات، كما يرى دعاة الصّدفة الحمقاء، لما كان الأمر بحاجة إلى إقامة هذا المهرجان الرّائع من التزّين والتّجميل على صفحات الكائنات، وفي تكوينها وممارساتها، والذي يصل حدّ الإعجاز، ويثير الدّهشة في عيون وبصائر كلّ من يرى ويبصر!! فما الذي يدل عليه هذا ؟ 
إنّ بناء العالم يقوم على ركيزتين أساسيتين هما المنفعة والجمال ... وجهان لحقيقة واحدة ... وبإيجازٍ شديد، فإنّ هناك هدفاً من وراء هذا كلّه يقودنا ولا ريب إلى أنّ الذي أقام بنيان العالم وفق هذه الثّنائيّة، إنّما هي إرادة مسبقة تنطوي بالضّرورة على قصدية للغاية التي أُنْشِئَ لها العالم من أجل أن يليق بالكائن القادم الذي فضّل على كثير من الخلائق، وأريد له أن يحيا حياة آمنة سعيدة مترعةً بالبهجة والفرح، حيث تنتفي الصّدفة من عمليّة الخلق ... فهل تملك الطّبيعة العمياء ذائقة جماليّة لكي تصنع هذا كلّه، أم تحكمها الفوضى لا الصّدفة التي لا تملك من أمرها شيئاً ؟!