رسالة فلسطين

بقلم
أ. د. محسن محمد صالح
قراءة في المأزق الإسرائيلي في قطاع غزة (*)
 بالرّغم من العدوان الوحشي الإسرائيلي على قطاع غزّة، واستشهاد وجرح أكثر من مائة ألف فلسطيني، والدّمار الهائل الذي لحق بالقطاع، إلّا أنّ ذلك لم يُخفِ المأزق الإسرائيلي المتصاعد سياسيّاً وعسكريّاً وداخليّاً وخارجيّاً.
يطرح هذا المقال ثمانيةً من أبرز معالم المأزق الإسرائيلي في حربه على قطاع غزة:
أولاً: الفشل في تحقيق الأهداف المعلنة للعدوان:
تمثّلت أهداف العدوان في القضاء على حماس، وتحويل غزّة إلى منطقة آمنة إسرائيليّاً، وتحرير المحتجزين الإسرائيليّين لدى حماس، وتهجير ما أمكن من أبناء القطاع. وبالرّغم من أنّ الجانب الإسرائيلي تفوَّق في غروره وعجرفته، وفي التّدمير وارتكاب المذابح، لكنّه بعد أكثر من مائة يوم على بدء العدوان، فشل فشلاً ذريعاً في تحقيق أيّ من أهدافه، كما فشل في كسر المقاومة وإرادتها، والتي ما زالت تقوم بأداء بطولي فعَّال.
وتكمن خطورة هذا الفشل، في أنّ الكيان الإسرائيلي اعتبر هذه المعركة «معركة الاستقلال الثّانية» أو «معركة وجود»؛ وبالتّالي فهو مسكون بـ «رعب الفشل» الذي يعني انهيار نظريّته الأمنيّة، وفكرة الملاذ الآمن لليهود، وفكرة شرطيّ المنطقة والقوّة المهيمنة فيها. وقد يعني ذلك على المدى الوسيط والبعيد بدء العدّ العكسي للكيان الإسرائيلي. إذ إنّ بقاء حماس ونجاحها في فرض معادلتها، والتفاف الجماهير حولها له انعكاساته المستقبليّة الكبيرة على الوضع الفلسطيني وعلى بُناه السّياسيّة والقياديّة، وعلى تبنّي خيار المقاومة، وانهيار مسار التّسوية.
ثانياً: فقدان الرّؤية:
تعاني الحكومة الإسرائيليّة من فقدان الرّؤية والبوصلة، خصوصاً فيما يتعلق بوضع قطاع غزّة بعد الحرب، وفي كيفيّة الخروج من الحرب بانتصار أو بشكل انتصار تُقنع به جمهورها اليهودي. وقد كثرت التّصريحات والكتابات لقيادات ورموز ومفكّرين صهاينة يَتَّهمون نتنياهو وحكومته بفقدان الرّؤية، وعدم القدرة على تحديد أهداف ممكنة التّنفيذ، في ظلّ حكومة متطرّفة مهدّدة بالسّقوط، وغير قادرة على التّعامل الواقعي مع الحقائق على الأرض، وغير قادرة على «النّزول عن الشّجرة».
وإلى جانب اعتراضات كثيرة سابقة، ظهرت مؤخّراً اعتراضات ايزنكوت وغانتس على استمرار العمليّة العسكريّة، كما انتقد وزير الجيش الإسرائيلي غالانت التردّد السّياسي الذي يَضرّ بسير العمل العسكري، وحذّر رئيس أركان الجيش هاليفي ممّا سماه «تآكل إنجازات الجيش في غزّة»، ومن قدرة حماس على إعادة تنظيم نفسها في شمال القطاع، بما يعيد الجيش للعمل من جديد في المناطق التي ظنّ أنّه أنهى عمله فيها.
كما سقطت كلّ المشاريع الإسرائيليّة والأمريكيّة والغربيّة بشأن حكم غزّة في اليوم التّالي للحرب، فلا حكم إسرائيلي، ولا قوّات دوليّة، ولا قوّات عربيّة إسلاميّة، ولا عشائر القطاع، هي بدائل مقبولة أو ممكنة التّنفيذ. وحتّى السّلطة الفلسطينيّة في رام اللّه لا تستطيع تولّي شؤون القطاع إلاّ ضمن توافق فلسطيني داخلي تكون حماس عنصراً أساساً مقرّراً فيه.
وقد يعني ذلك استمرار الاستنزاف الإسرائيلي دون تحقيق نتائج، مع تصاعد الضّغوط الدّولية لوقف العدوان، وترسيخ الوجه البشع للكيان في البيئة العالميّة. وهو ما قد يُقوِّي أوراق القوّة لدى حماس.
ثالثاً: تعاظم الخسائر العسكريّة والاقتصاديّة:
بالإضافة إلى الضّربة القاسية التي تلقّاها الكيان الإسرائيلي في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 فإنّ خسائره استمرت في التّصاعد، على مدى أكثر من مائة يوم. ويحرص الجانب الإسرائيلي على إخفاء خسائره نظراً لتأثيرها الكبير على كتلته الاستيطانيّة؛ ومع ذلك فإنّ ما يرشح من أخبار يشير إلى أضعاف ما يعترف به المتحدّثون الرّسميّون الإسرائيليّون. وثمّة توقّعات بأن تزيد الخسائر الاقتصاديّة وتكاليف الحرب عن خمسين مليار دولار أمريكي، مع تعطّل السّياحة وعدد من القطاعات الاقتصاديّة… وغيرها.
هذا «النّزيف» الإسرائيلي سيجبره عاجلاً أم آجلاً على التّخفيف من مكابرته وعجرفته، وسيعيد حساباته في ضوء انخفاض النّتائج المتوقّعة مقابل الخسائر والتّكاليف المدفوعة.
رابعاً: الهجرة الدّاخليّة، والهجرة المعاكسة:
مع إخلاء المستوطنين في غلاف غزّة وفي شمال فلسطين المحتلة، بعيداً عن خطوط المواجهة ثمّة 400–500 ألف مستوطن فقدوا مراكز استقرارهم، وفقدوا الشّعور بالأمن، وتحوّلوا إلى عبء كبير على الحكومة الإسرائيليّة. كما تشير بعض الإحصاءات إلى مغادرة أكثر من 250 ألف يهودي «إسرائيل» إلى بلدان العالم المختلفة. وهذا يشير إلى أنّ الكيان يعاني من أزمة حقيقيّة في توفير الأمن لمستوطنيه، وهي أزمة إن طالت ستفقده أهم أساس قام عليه وهو توفير «الملاذ الآمن» لليهود.
خامساً: الأزمة السّياسيّة:
تسبّبت صدمة السّابع من أكتوبر وما تلاها، والأداء الإسرائيلي على الأرض بتفاقم الأزمة السّياسيّة الإسرائيليّة الدّاخليّة. وبالرّغم من الرّغبة العارمة بالانتقام وتوفير الأمن التي أظهرت نوعاً من الالتفاف الإسرائيلي حول هذا الهدف، إلّا أنّ ثمّة فروقات متزايدة حول كيفيّة إدارة المعركة، ومستقبل قطاع غزّة، وعمل صفقة حول المحتجزين الإسرائيليّين، وطرق التّعامل مع البيئة الدّوليّة والضّغوطات العالميّة.
وقد أصابت الهزّة السّياسيّة الأحزاب الإسرائيليّة، وخصوصاً حزب اللّيكود الحاكم، الذي يَتسيّد السّاحة السّياسيّة منذ 15 عاماً متواصلة، والذي سيفقد نحو نصف مقاعده في أيّة انتخابات قادمة. كما أنّ عملية «طوفان الأقصى» قضت على المستقبل السّياسي لنتنياهو، الذي استمتع بوضع استثنائي بوصفه أطول رؤساء الوزراء حكماً منذ إنشاء الكيان الإسرائيلي، متفوّقاً حتّى على الزّعيم الصّهيوني المؤسّس بن غوريون. ويظهر استطلاع أجراه المعهد الإسرائيلي للدّيموقراطيّة نشره في 2 كانون الثاني/ جانفي 2024 أنّ 15 % يرغبون ببقاء نتنياهو رئيساً للوزراء. كما تتعالى الأصوات داخل حزبه «الليكود» بضرورة استبداله، بعد تصاعد القناعات أنّه «انتهى».
ويُظهر آخر استطلاعٍ أجرته صحيفة معاريف صعود نجم حزب معسكر الدّولة بقيادة جانتس 39 مقعداً، واللّيكود 16، كما تظهر تراجع الصّهيونيّة الدّينيّة. وهو ما يعني سقوط التّحالف اليميني الدّيني الحاكم (قبل 7 أكتوبر) بشكل كبير، مع صعود قويّ للمعارضة.
سادساً: تعطُّل مسار التّطبيع في البيئة العربيّة والإسلاميّة:
حيث تحوّل هذا المسار إلى عبءٍ كبير على الدُّول المُطبِّعة. وهذا مسار استراتيجي حيوي بالنّسبة للكيان، حيث فرضت معركة «طوفان الأقصى» أكلافاً عالية على المُطبِّعين، في بيئات شعبيّة ترفض أغلبيتها السّاحقة التّطبيع، وترى بأمّ أعينها الوحشيّة والدّمويّة الصّهيونيّة في قطاع غزّة وفلسطين.
سابعاً: تصاعد الضّغوط الدّوليّة… وافتضاح الصّورة العالميّة للكيان:
حيث أحدثت معركة «طوفان الأقصى»، والعدوان الإسرائيلي على القطاع هزّة عالميّة مضادّة للكيان، بعد انكشاف وجهه المتوحّش، وسقوط دعاياته كواحة للدّيموقراطيّة، وفشل تقديم نفسه كضحيّة. وقد كسب الفلسطينيّون المعركة الإعلاميّة والتّعاطف الدّولي فيما زادت عزلة الكيان. كما زادت ضغوط حلفاء الكيان لإنهاء عدوانه وتخفيف حدّة جرائمه… وهو ما يعني أنّه قد يضطرّ في نهاية المطاف لإيقاف عدوانه والانسحاب قبل تحقيق أهدافه.
ثامناً: صعود حماس:
ثمّة قناعات متصاعدة لدى كافة القوى العربيّة والدّوليّة، بما فيها أعداء حماس وخصومها، باستحالة القضاء على هذه الحركة، خصوصاً في ضوء أدائها البطولي وكفاءتها القتاليّة العالية، سواء في هجوم السّابع من أكتوبر أم في القتال الفعّال طوال أكثر من مائة يوم، وإيقاع خسائر كبيرة بالصّهاينة بالرّغم من مواجهتها لتحالف عالمي إسرائيلي أمريكي غربي.
غير أنّ اللاّفت للنّظر هو تزايد شعبيّة حماس بشكل واسع وسط الشّعب الفلسطيني، بما في ذلك قطاع غزّة نفسه، وازدياد التفاف الحاضنة الشّعبيّة حول حماس وخيار المقاومة داخل فلسطين وخارجها، بعكس أهداف العدوان الصّهيوني. وكذلك ديناميّة حماس العالية في قطاع غزّة، التي تُمكّنها من العمل العسكري في مناطق تواجد الاحتلال، واستعادة السّيطرة السّريعة على الأماكن التي ينسحب منها، وتنظيم نفسها وقوّاتها بما يكفل متابعة المقاومة الفعالة.
لقد أثبتت المعركة أنّه لا يمكن الفصل بين حماس وبين النّاس، وأنّ حماس مرشّحة للفوز بشكل ساحق في أيّة انتخابات فلسطينيّة حرّة نزيهة.
***
لا شكّ أنّ المأزق الإسرائيلي في القطاع كبير، وهو سيضطر للنّزول عن عجرفته وغروره للتّعامل بواقعيّة أكثر مع الحقائق التي فرضتها المقاومة. ومع إدراكنا للأثمان الهائلة والتّضحيات التي قدّمها الشّعب الفلسطيني ومقاومته خصوصاً في قطاع غزّة، إلّا أنّه سيرى ثمرة صبره وجهاده عاجلاً أم آجلاً إن شاء اللّه.
الهوامش
(*) تمّ نشر أصل هذا المقال على موقع الجزيرة نت، ، 19/01/2024.