نافذة على الفلسفة
بقلم |
أ.د. عبدالرزاق بلقروز |
قيمة العقلانية عند محمد أركون في منظور طه عبد الرحمن (2/2) |
مسألة العقل في الخطاب العربي المعاصر: مظاهر التجزييئية والتشييئية
إنّ مساءلة مسألة العقل في الخطاب العربي المعاصر لها أكثر من مبرّر، سواء في سياق حديثنا عن نظرة طه عبد الرحمن لمسألة العقل ونقده لأنماط العقلانيّة المنتشرة، أو في سياق حديثنا عن الكيفيّة التي عاش بها الخطاب العربي صلته بالعقل كأداة ومرجع وفعاليّة. وفضلا عن ذينك المبرّرين؛ فإنّ الحقيقة السّاطعة التي لا يُنكرها قلق الارتيابي «أنّ العلاقة بمسألة العقل والعقلانيّة مازالت علاقة مضطربة في الفكر العربي، والوعي بها مازال وعيا لاتاريخيّا حتّى الآن»(1)، والعرض الأوضح على هذا الاضطراب، انشطار الخطاب العربي المعاصر في تعامله مع مسألة تحدّي العقل والعقلانيّة إلى فرق متباينة، وتصوّرات متصادمة، تنتهل من مرجعيّات فكريّة هي الأخرى متباينة، وتتشارك هواجس التّحضّر والإصلاح والتّحديث، وقد حصرت بعض الدّراسات هذه الفرق في تعاطيها مع مسألة العقل إلى فرق ثلاث:
1 - الرّفض النّكوصي للعقل.
2 - الانغماس الشّامل في نظامه.
3. التَّحليل النّقدي له.
الفرقة الأولى يتصدّرها الاتجاه السّلفي، يستهجن العقل، من باب احتسابه جوهرا لحضارة مادّية هي الحضارة الغربيّة «وبدعة مدسوسة لآداء وظيفة إزاحة المقدّس وتهميش الروّحي وتنمية نظام قيم مادّي غرائزي عار من كلّ وازع أخلاقي، أمّا الفرقة الثّانية فيتقاسمها كلّ من الإتجاه اللّبرالي والإتجاه الماركسي وهما على اختلاف أجيالهما وحقول اشتغالهما ينتظمهما رابط مشترك هو الوعي بكونيّة الحضارة الإنسانيّة المعاصرة، وكونيّة العقل الذي هو جوهرها، وأساس حركة التّقدّم التي طبعتها. ولقد ذهب أصحاب هذين الاتجاهين إلى أنّ الفكر العربي والمجتمع العربي يحتاجان إلى جراحة حقيقيّة لزرع قيم العقل والعقلانيّة لتنمية روح التّاريخ والتّطوّر التّاريخي فيهما، وإخراجهما من الفوات والتّقليد. أمّا الفرقة الثّالثة فتقوم على فضح العقلانيّة المركزيّة الغربيّة كغلاف للقمع الإيديولوجي والاستغلال والتّهميش العاديين، والتسلّط السّياسي للدّولة اللَّيبيراليّة على الحرّية، والبرمجة الآليّة لإنسانيّة الإنسان، والقولبة الاجتماعيّة للممارسة الحياتيّة... إنّها نصّ يدافع عن الاختلاف ضدّ المطلقيّة Absolutismeوالشّموليّة أو الكلّيانيّة Totalitarisme التي يمثّلها العقل في تجلّياته الفكريّة والمادّية: الإجتماعية والسياسية والاقتصادية» (2).
وفضلا عن هذا التّقسيم للكيفيّات التي عاش بها الفكر العربي المعاصر مع العقل كأداة ووظيفة ومرجع؛ فإنّ ثمّة بعض الاجتهادات الأخرى التي تتبنّى تقسيما مغايرا، يكتفي برصد إتجاهين رئيسيين هما الاتجاهيين المهيمنين: العقل التّراثي والعقل الوضعي؛ والملمح الجوهري المُراهن عليه من أجل مجاوزة هذين الإتجاهين هو «العقل التّكاملي»:
«فمهمتنا في حقيقة الأمر تقديم نموذج لعقل تكاملي مُغاير في بعض أُسسه، وكثير من تفاصيله، للنّموذجين السّائدين في عالمنا اليوم:العقل الوضعي والعقل التراثي، لذلك فإنّ جهدنا لا يتوقّف على تحديد الأسس الكليّة والثّوابت المبدئيّة للعقل البديل الذي يتكامل فيه فقه الهداية والتّنزيل وفهم الطّبيعة والتّاريخ، بل يتضمّن أيضا عمليّة تفكيك وتركيب لثوابت العقلين السّائدين والمهيمنين» (3) .
إنّ اللاّفت للنّظر هنا، أنّ قلق مسألة العقل في الخطاب العربي الإسلامي المعاصر، لم تُحسم بشكل واضح ودقيق، لا في منشئها التّاريخي الذي أفرز ظواهر التّوفيق والتّقريب ولا في عودتها المكرورة التي أفرزت ظواهر الرّفض النّكوصي والتّبنيّ التّرحيبي؛ إنّ هذه كلّها جميعا أعراض على مرض في الخطاب العربي الاسلامي المعاصر، وطه عبد الرحمن لم تخفى عليه هذه الظّاهرة بخاصّة وأنّه أدرك تكاثر الكلام في العقل: «لقد كثر الكلام عن «العقل» و«العقليّة» و«العقلانيّة» و«المنهج العقلي» و«السّلوك العقلاني» و«العقلنة» و«التعقل» و«التعقيل» في الكتابات الإسلامية والعربية منذ القرن الماضي، ومازال الخطاب الدّاعي إلى العقلانيّة والمُطالب بتقويم التّراث الإسلامي العربي بمقتضى المنهج العقلي مسيطرا على توجّهات الباحثين وعلى هموم المناضلين، حتّى إنّ بعضهم يدّعي القدرة على تنقية هذا التّراث وإرسائه على مبادئ وقواعد عقلانيّة راسخة ونهائيّة، يتساوى في ذلك من أخذته الغيرة الدّينيّة على الحالة المتردّية للأمّة الإسلاميّة، ومن ساورته الحميّة العربيّة المتطلّعة إلى النّهوض بالواقع المتخلّف للعالم العربي»(4)، ومن أجل مُجاوزة أعراض هذا المرض في مشكلة العقل، سعى طه عبد الرحمن متوسّلا بمفهومه المَخصوص للعقل الذي جرت الإشارة إليه في الجزء الأول من المقال(5)، إلى تشخيص هذه الأعراض، ومطبقا على نموذج هو محمد أركون في بقائه متوسّلا بالفُهوم التّقليديّة للعقل والمُصادمة لمقتضيات المجال التّداولي الذي يتحدّد فيه العقل بدلالة أخرى ووظيفة أوسع.
3.محمد أركون وحُدود دعوى شرعانيّة العقل الإسلامي:
يمَُوضِعُ طه عبد الرحمن المباحث الفكريّة حول العقل في الخطاب العربي المعاصر، ضمن دائرة فكريّة تنتظم داخل قياس منطقي يلخّص مقدّماتها ونتائجها في صيغة دعاوى تميّزت بالقول بـ :
وجود «عقل»خاص بالتراث «العربي»و«الاسلامي».
وقوف «هذا العقل» الخاص، حائلا دون قيام التّراث بأسباب العلم والتّقدّم.
ضرورة تجاوز هذا «العقل»والأخذ بغيره»(6).
ولقد جرت ألسنة جمهور المثقّفين، بهذه الدَّعاوى إلى مستوى تعذّر إمكانيّة تصوّر ما يُخالفها، وترتّب عنها تصوران رائجان هما: التّصوُّر الذي يصِف العقل العربي بالصّفة البيانيّة، والجابري في طليعة هؤلاء، والتّصوُّر الثّاني يصف العقل الإسلامي بالصّفة الشّرعانيّة وأركون في طليعة هؤلاء.
إنّ القول بالصّفة الشّرعانيّة للعقل الإسلامي، جاءت نتيجة لتأثّر أركون أو بالأحرى افتتانه بالإنتاجيّة المنهجيّة التي بلغتها العلوم الإنسانيّة المعاصرة (كالتّحليل اللّغوي، والمنهجيّة النّشوئيّة الجينالوجيّة، والملاحقة الأركيولوجيّة لأصول الأشياء، والتّحليل النّفسي للمعرفة، التّفكيك...)على اختلاف فروعها وتعدّد مجالاتها، هذا التّأثر أخرج خلاصات معرفيّة تضمّ مشروع أركون بأكمله، ويذكر منها طه عبد الرحمن:
- تمييزه بين مُكونات النّظر الإسلامي ومكونات النّظر الحديث.
- مقابلته بين خصائص الخطاب القرآني وبين معايير العقلانية، مع الاحتكام في تقويمه لهذه الصّفات القرآنيّة إلى «العقلانيّة»، دون الاحتكام إلى القرآن حين وصف «العقلانيّة».
- اعتبار مذاهب الفقهاء ومدارس المتكلّمين مجرّد حركات، من جهة تساند تناحر الجماعات السّياسية للهيمنة في مجال السّلطة، ومن جهة أخرى تساهم في التّنكر لمقتضيات التّاريخ، سواء ما تعلّق منها بتعاقب الأحداث أو ما ارتبط بتجدّد أحوال الإنسان.
- إنكاره على «الفكر الإسلامي»التّوجيه الدّيني لتصوّراته وأنساقه النّظرية» (6) .
وبالفعل، فالمتفحّص للإنتاجية الفكرية الأركونية يُدرك مدى الحضور المكثّف لهذه المواصفات، منها تخصيصا الدّمج بين المعرفة والسّلطة كوحدة تحليل في فهمه للتّراث المعرفي الإسلامي، أي أنّ ثمّة رهانات سياسيّة تسكن العقائد الإيمانيّة. إن أركون يُدخل إرادة القوّة هذه مفهومة بالمعنى الذي نعثر عليه في تاريخ هيمنة النّظم اللاّهوتيّة السّياسيّة وتأويلها للعالم وفق منظوريّتها، يدخلها كأداة تحليل تفكيكي وأداة نقد تاريخي للإنتاجيّة المعرفيّة التّراثيّة الإسلاميّة ولمفهوم الحقيقة المُطلق الذي ترفعه الأديان اللاّهوتية، «فالدّين يقع في خدمة الفاعلين الاجتماعيّين الذين يتوزّعون على الفئات المُتنافسة من أجل ضمان السّيطرة على الأملاك الرَّمزيّة التي لايمكن اقتناص السّلطة السّياسيّة أو ممارستها بدونها. وما يقدّمه لنا الفكر اللاّهوتي على هيئة «أرثوذكسيّة»دينيّة يعرّيه لنا علم الاجتماع الدّيني أو الأنثربولوجيا الدّينيّة بصفته إيديولوجيا كلّ فئة اجتماعيّة تحاول فرض هيمنتها...[إنّها]رهانات محسوسة ولكنّها محجوبة بواسطة مفردات المعجم الدّيني» (7).
وطه عبد الرّحمن يرفض هذه الدّعاوى رفضا، ويبصر فيها موقفا غير مستند إلى البعد المنهجي الذي تخلّق في إطاره العلم الإسلامي، فضلا عن استناده إلى رؤية متحيّزة تنطلق من رؤية معرفيّة تبيح لنفسها أوصاف العلميّة وتحرّمه على غيرها، وبيان ذلك كالتالي:
1.3. مفهوم العلم عند الفقهاء وقصور تصوّر أركون له:
إن الدّلالة التي يخلعها أركون على مفهوم العلم لا تنسجم والدّلالة التي بلغتها جهود الفقهاء، فالعلم يطلق بالاشتراك على الجهد المعرفي الذي يبذله شخص أو مؤسّسة في حقل من حقول المعرفة، كما يقصد به المنهج المتوسّل به من أجل الحصول على المعرفة، أو هو نظام منهجي يمتلك وحدات مخصوصة، لأنّ العلم هو روح المعرفة وجوهر الحضارة. إنّ الأهم إذن، بناء على هذا، لا يتعلَّق بالمحتوى أو المضمون المعرفي الذي أنتجه الفلاسفة والعلماء، إنّما اتباع المسيرة والمنهج، فالعلم دون بيان طريقة تحصيله يستحيل إلى مجرد خاطرات وأفكار انتقائيّة، من هنا كانت الحاجة إلى الضّابط المنهجي ذات أهمّية قصوى بما هو - أي الضاّبط المنهجي- «القانون الفلسفي أو المبادئ الفلسفيّة النَّاظمة بتحديد واضح للأفكار، فالمنهجيّة تقنين للفكر، ودون هذا التّقنين للفكر يتحوَّلُ الفكر إلى تأمُّلات وخاطرات انتقائيّة، قد تكون عبقريّة ومشرقة جدّا، وذات جدوى في كثير من الأحيان، وتصلح للمواعظ والمجادلة الحسنة، ولكنّها لا تكون منهجيّة، فمنهجيّة الأفكار أو تقنينها بالمنهج تماثل حالة توليد القوانين من الطّبيعة» (8). والمعنى الثَّالث للعلم يراد به أيضا جُملة المعارف المكتسبة، بما تحتويه من نظريّات ومناهج وتصوُّرات تحقّق أحد أوصاف العلم وهي صفة التّراكميّة. وبرأي طه عبد الرحمن فإنّ «محمد أركون يميل إلى المعنى الأخير، فيفهم من العلم كلّ العلوم، سواء تلك التي استكملت مقوماتها أو التي لازالت تتلمّس طريقها، فيطالب في النّظر إلى الإنتاج الفكري «الإسلامي»، بالاستفادة من كلّ هذه العلوم على تعدّدها واختلاف مناهجها»(9)، وهذا الاعتراض المبدئي ذو دلالة جليّة، هي عدم القَبول بالإتيان بجميع مكتسبات المعرفة الإنسانيّة والاعتراض على كونيّتها، إنّها دعوة إلى عدم تقديس النّموذج المعرفي الغربي، «وعدم المبالغة في الإنبهار بعقله الذي حقّق المنجزات، والتزام مبدأ المسافة أو الوسط في الأخذ عن الغير؛ مع الشّك في هذا المنقول حتّى تثبت صحّته، ويتأكّد جدواه بعد إخضاعه للتّجربة والإجراء»(10).
وليس هذا الموقف تعبيرا عن نزعة إرتكاسيّة منجذبة نحو ذاتها مهما كانت حالها، أو نداء لرفض منجزات المعرفة الحداثيّة، والصّد عن مناهجها ومذاهبها ونظريّاتها النّقدية، ذلك «أنّ مسألة الاستعارة من الغير والاستنارة بنموذجه الحداثي، هي قضيّة لا غنى عنها يمليها الواقع ويفرضها. بل إنّ شرعيّتها ليست قصرا على العقل العربي وحده، فهي حاجة ملحّة وضروريّة لكلّ عقل أوثقافة، كثقافة العالم الثّاني أو الثّالث السّائر على طريق النّمو والتّطور-يريد أهلها أن يخوضوا معركة ضدّ الخرافة والتّفكير الخرافي من أجل ترسيخ التّفكير العلمي وسيادة العقل. ولكنّ التَّحديث والاستعارة من الغير باعتبارهما ضرورة حضاريّة وحلاّ مفروضا شيء، وأن يتحوّل التّحديث إلى حداثة مستنسخة:تستعير النّموذج الغربي وتستنسخه وتقلّد فكره الجاهز؛ وتتّبع آثاره الثّقافيّة في تنميط وتقديس شيء آخر، سيما وأنّ الحداثة الغربيّة ذاتها، تراجع نفسها، وتقف على مواطن الخلل وعلى الأماكن الفارغة من أجل ملئها. وتدارك النَّقص والأخطاء التي أوصلت العقل الغربي إلى الحائط المسدود»(11)وإدخال هذه التّفرقة بين ضرورة الاستفادة وعدم الاستغراق الكلّي في منتجات المعرفة الغربيّة هي التي سلكها طه عبد الرحمن في آليات تعامله مع منقول الفكر الغربي، ومن أجل إتقان هذه الوظيفة التّشغيليّة يضع طه عبد الرحمن شروطا يجب أن يستوفيها خطاب الاستفادة من العلوم الغربيّة هي تواليا:
1 - أن يُعيّن المُستفيد طريقا لتركيب هذه العلوم فيما بينها تركيبا متكاملا.
2 - أن يبني نظريّة للإستفادة من هذه العلوم.
3 - أن يُحدّد نموذجا يحقّق قضايا هذه النّظريّة» (12) .
ووضع شروط الاستفادة هذه من العلوم المعاصرة، يدفع بنا إلى تسليط الضّوء على مدى حضور هذه القواعد أو غيابها في توظيف أركون للعلوم الإنسانيّة المعاصرة. برأي طه عبد الرحمن أنّه لم يستوف لهذه الشّروط حقّها، رغم أنّ افتتاحاته دائما تطالعنا بالكثافة المنهجيّة وتحديد المناهج التي سيسلك وفق مقتضياتها، وبما أنّه لم يوفّ بهذه الشّروط فـ «لن تكون أحكامه إلاّ دعاوى مبنيّة على مذهب «توفيقي» لا على مسلك «تحقيقي»؛ بينما تصوّر الفقهاء للعلم ليس هذا التّصور التّلفيقي، وإنّما يتّصل بالمعنى الثّاني الذي ذكرناه وهو المنهج لتحصيل المعرفة، فالعلم هو الإحاطة بمسائل الشّرع وقواعد استنباط فروعه من أصوله. وهذا مطلب معقول وقابل للتّحقيق»(13).
جليّ إذن، كيف يفتقر خطاب أركون إلى الدَّلالة المنهجيّة للعلم، واقتصاره فقط على الدّلالة التراكميّة، أو جملة العلوم المكتسبة، فضلا عن لجوئه إلى الإبقاء على البنية الصّوتية أثناء ترجمته للمصطلحات واختياره للرّسوم العربيّة المطابقة لها صوتيّا مثل: «الأنثربولوجيا»والإستتراتيجي «والإبستيمي»، والصّواب بخلاف هذه الطّرائق، «ذلك أنّ ترجمة مصطلح أجنبي بمصطلح عربي يكون أصليّا في اللّغة العربيّة وليس غريبا عنها، يجعل القارئ يدرك مباشرة وبعفويّة مدلولها كما يتحدّد داخل المنظومة اللّغويّة العربيّة التي هي المجال التّداولي الأصلي لهذه الكلمة. لأنّ العبارة من حيث هي مدلول تحمل داخل منظومتها اللّغويّة خصائص رؤية أهلها للعالم وتصوّراتهم وطرق تفكيرهم. وهي عمليّات فكريّة تقع بكيفيّة آليّة وخفيّة ولاواعية، ولكنّ هذا المنزلق الفكراني لا يكون دافعا إلى منزلق فكراني آخر أشد خطرا، وإنّما يستوجب ضرورة البحث في تأصيل المفاهيم والمناهج»(14).
وهذا بخلاف فلاسفة الإسلام القدامى عندما تعرّفوا على المنطق الأرسطي، حيث «ناقشوا موضوعات لم يعتن بها أرسطو مثل علاقة المنطق بعلوم اللّغة، وشارك الفقهاء والمتكلّمون الفلاسفة في العناية بمناهج التّفكير، وكثيرا ما وجّهوا النّقد لمنطق أرسطو... وناقشوا نظريّات أرسطو في المقولات والتّعريف، ومالوا إلى رفض التّعريف الأرسطي للماهيّة بالجنس والفصل، وأدخلوا التّعريف بالرّسم الذي يصف الجزئي...[رغم هذا]فالمسلمون كانت لديهم مناهج في دراسة أصول الفقه وكان علم الأصول بمثابة المنطق في المشكلات العمليّة التي صادفت مفكّري الإسلام»(15)، أي أنّ اهتمامهم كان أكثر موصوليّة بالوظيفة المنهجيّة التي يحقّقها منطق أرسطو، ولم يكن دائرا على محتوى الفكر، وهذه المسلكيّة شبيهة تماما بعلوم النّحو، حيث يهتم النّحوي بالقواعد أكثر من اهتمامه بالجمل المكوّنة.
2.3. إنكار محمد أركون المزايا العلمية التي أتى بها الفقهاء:
يظهر لنا القلق الثّاني في خطاب محمد أركون، بخاصّة في مسألة إنكاره على الفكر الإسلامي التوجُّه الدّيني لأنساقه النّظريّة ومسالكه الاستدلاليّة، من اتهامه للفقهاء بالتّنكُّر للمُلابسات التَّاريخيّة وإضفاء المشروعيّة على المؤسّسة الحاكمة، والمنافحة عن رؤية خطيّة أُحاديّة ترسم لها وتسوّغ لها أيضا، لذلك وتبعا لمستلزمات المقاربة الأركونيّة من الأجدى «أن نعلم أنّ الأنظمة اللاّهوتيّة تعكس إرادات القوّة والتوسُّع والهيمنة فيما تخلع عليها القدسيّة والمشروعية والطّقوس الشّعائريّة، ولم تنفك إرادة القوى هذه في التّصارع والتّحارب...إنّها [أي الأنظمة اللاَّهوتيّة]أنظمة ثقافيّة ذات عقلنة ظاهرّية، تنبذ بعضها بعضا لكي تؤكّد على ذاتها وترفع من قيمتها إلى مرتبة الدّور التّاريخي بصفتها المؤتمن الوحيد والموثوق على الوحي» (16).
إن الفقهاء يلجؤون على ضوء هذا الاقتباس إلى الاستخدام الرّمزي للنّصوص الإسلاميّة الدّينيّة، وذلك ليس سعيا وراء الحقيقة، إنّما استجابة لخيارات سياسيّة، وتعتقد في استجابتها لهذه الخيارات أنّها تقدّم القراءة الصّحيحة والمطابقة لمرادات النّص الأصلي، إلاّ أنّ طه عبد الرحمن ينفي عن الدّرس الفقهي مثل هذه التّحليلات المتأثّرة بدورها بنظريّة وحدة المعرفة والسّلطة عند فوكو وروافدها الأصليّة ممثّلة في إرادة القوّة والمعرفة عند نيتشه (17) ، لأن هَمَّ الفقهاء كان «هو بناء نسق نظري يستعان به على ضبط استخراج الأحكام المستجيبة لكلّ مااستجد من الأحوال... فالعلم عندهم يستجيب لشرطين أساسيين هما:الاستدلال والتَّعليل؛ فقد وضعوا قواعد لاستنباط الفروع من أصول الشّريعة، وحدّدوا مسالك التّعليل المختلفة؛ ولهذا جمعوا بين الشَّرط العقلاني للعلم الصُّوري والشّرط العقلاني للعلم الطبيعي، ولا عجب في ذلك مادام مجال الشّريعة هو مجال يجمع بين العلم والعمل» (18).
إذن فالمُوجّه الحقيقي ليس دوافع حيوية لتكريس هيمنة فئة سياسيّة على غيرها، إنّما دوافع معرفيّة منهجيّة، والدّليل على ذلك أنّه لو كانت غايتهم هي تلك المذكورة (أي التّسويغ المنطقي لإرادات القوى والاستجابة للخيارات السّياسيّة المحايثة لها)، لكانت أحكامهم أحكاما متقلّبة بتقلّب أهواء السّاسة، وموصوفة بما هي موصوفة به الممارسات السّياسيّة من عفويّة وعدوانيّة وتلقائيّة، خاصّة وأنّ وقائع التّاريخ السّياسي للعالم الإسلامي تقلّبت بتقلّب إرادات الهيمنة والاستقواء، وفيها ما يتظاهر لتقوية هذه الفكرة. إنّ أبنيتهم المنهجية لا تخالف الشّروط الواجب توفّرها في كلّ نسق منطقي وعلى رأس هذه الشّروط: الاتساق والبساطة والكفاية.
والشّواهد المنهجيّة التي ابتكرها الفقهاء وعلماء الأصول وطوّروها تعكس البعد المنهجي العميق في تفكيرهم، والمعبر عن روح الحضارة الإسلاميّة، هذا البعد المنهجي يستمدّ عمقه من ثنائية الإبداع التي اختص بها: الأولى، تنصب بنقد علماء الأصول بخاصّة الشّافعي والمتكلّمون والفقهاء بخاصّة ابن تيمية نقدهم للمنطق الأرسطوطاليسي، فعلماء الأصول رفضوه في تبنّيه لفكرة المماثلة بين اللّغتين اليونانيّة والإسلاميّة، وقيام المنطق الأرسطوطليسي على خصائص اللُّغة اليونانيّة، وعلماء الكلام رفضوه من منطلق مخالفته لعلم الإلهيّات الإسلامي، من هنا اعتبروه وثيق الصّلة بالميتافيزيقا وكثير من أصوله تتّصل بأصولها، أمّا الفريق الثّالث فهو فريق الفقهاء، يتقّدمهم في ذلك ابن تيميّة، «وقد ذكر ابن تيميّة العلّتين اللّتين ذكرهما الأصوليّون والمتكلّمون من قبل وتوسّع فيهما، ثمّ أضاف إليهما الأسباب الآتية:
أولا:المنطق الأرسطوطاليسي يقيّد الفطرة الإنسانيّة بقوانين صناعية متكلّفة في الحد والإستدلال.
ثانيا:اتجاه الإسلام إلى الوفاء بالحاجة الإنسانية المتغيّرة بينما المنطق الأرسطوطاليسي يعتبر قوانينه كلية وثابتة.
ثالثا:عدم اشتغال الصّحابة والأئمة بهذا المنطق الأرسطوطاليسي مع توصّلهم إلى كل نواحي العلم» (19).
وبهذا الإجراء الكاشف عن حقيقة الإنتاجيّة الفقهيّة في الحضارة الإسلاميّة، يتبدّد القول بانغراس المعرفة الإسلاميّة في الخيارات السّياسيّة واختزالها في ذلك المحدّد، هذا فضلا عن أنّ هذا الاختزال للعلوم إلى نزاعات القوى السّياسيّة ينفي عن هذه القراءة صفة العلميّة، لأنّها ترتكز على السَّلطة كوحدة تحليل، وتحوّلت ثنائيّة المعرفة والسّلطة بدورها إلى سلطة معرفيّة تمارس نوعا من الهيمنة والغطرسة والطّغيان المعرفي على غيرها من المعارف التي لا تتماثل معها.
3.3. استناد تحليليّة أركون إلى شرعانيّة أخرى:
من المنطلقات الأساسيّة التي يبني عليها أركون مقاربته للتّراث المعرفي الإسلامي كما جاء في بداية هذا النّص، القول بشْرعانيّة العقل الإسلامي، وإقامة المقابلة بينه وبين وصف العلميّة التي يموضع مقارباته ضمن نسقها: «ينبغي علينا كباحثين علميين، أن نعود إلى تاريخ كل مجتمع من هذه المجتمعات وثقافته الخاصّة إذا ما أردنا أن يكون التَّحليل دقيقا ووافيا. وفي ما يخصّ مسألة الفضاء المتوسّطي، فإنّه من المهمّ أن نحدّد العقبات الإيديولوجيّة التي تؤخّر من دراسته أو تطمس أهمّيته بالنّسبة للاستفادة النّقديّة الحديثة لتاريخ الأديان والفلسفة والثّقافات»(20).
وواضح من خلال هذا النّص تلك المقابلة المكرورة بين ما هو علمي دقيق وماهو إيديولوجي متحيّز. لكن وكما جاء في النّقد السّابق أن أركون إمّا أنّه بنى أحكامه على أسس علميّة حقيقيّة، وإمّا أنّه استند إلى إيديولوجيّة أو شرعانيّة مخصوصة، أمّا وأنّ طه عبد الرحمن بيّن أنّ المنهج الذي يدّعي العمل به هو منهج تلفيقي لا تحقيقي، فيترتّب عن ذلك سقوطه في الشّرعانيّة أو الفكرانيّة، «ولما كان يعترض على الشرعانيّة الإسلاميّة، فقد سقط إمكان نسبته إليها، فلا يبقى إلّا أن نقول بدعوى استمداده من «شرعانيّة أخرى». فما أجراه إذن من حكم على «العقل الإسلامي» أولى أن يُجرى على ادّعائه، وما تهافتت دعوى مثل تهافتها بقلب دليلها عليها» (21).
هذا، ومن الأعراض الدالّة على وقوعه في متاهات الشّرعانية، اعتماده مسلك التَّعدّديّة المنهجية، خاصّة إذا كانت هذه التّعدّدية لاتقتصر على تقنيات إجرائيّة، بقدر ما تختلف باختلاف رؤاها للعالم أو أن اختلافها اختلافا بنيويّا أصوليّا «وقد وقع أركون في هذا النّوع من الخطأ [مثلا]عندما جمع بين فلسفتي فوكو وهابرماس، وهو ما أوقعه في الخلط ومن ثمّ إحداث كثير من الثّغرات والفراغات في خطابه النّاقد للعقل الإسلامي... هكذا كان في التجائه مثلا، إلى هابرماس يستحضر متقبلا مغايرا عن المتقبل الذي استحضره أثناء اعتماده حفريات ميشيل فوكو، لقد كان بالنّسبة إلى الأول يرضي الضّمير الإسلامي عندما حافظ على محسوسيّة الحقيقة، ولكنّه وقع في الوقت نفسه في تضارب معرفي مع فوكو حين راح يرضي الضّمير العلمي في الغرب، إنّ ذلك إخلال بشروط الانسجام العلمي للخطاب. وبذلك جعل أركون خطابه عرضة لتسرب الفكرانيّة والأعراض والفراغات، فإعطاء النُّقاد مفاتيح النّقد والنّفاذ إلى فراغات الخطاب: خطاب الإسلاميّات التَّطبيقيّة باعتبارها المنهج الذي أرتآه أركون لنقد العقل الإسلامي» (22).
هكذا إذن، يقع خطاب محمد أركون في إحراجات اللاّعلمية والتوكأ على الشّرعانيّة والإيديولوجيّة في مقاربته للتراث المعرفي الإسلامي، إنّها الأوصاف نفسها التي خلعها على بنية المعرفة والعقل الإسلاميّين، وفضلا عن هذا فيما يرى طه عبد الرحمن كما هو الشّأّن مع نماذج أخرى كالجابري مثلا، أنّ أركون يتبنّى المفهوم السُّكوني للعقل والممارسة العقلانيّة، المفهوم الذي يجمّد العقل ضمن نموذج وإطار مرجعي متأثر بدوره بنظريّة العقل عند اليونان، باعتباره جوهرا قائما بالإنسان يفارق به الحيوان ويستعد بواسطته لتلقّي المعرفة، وكان من الأجدى والأقوى الخروج من هذا المفهوم التّثبيتي الذي يتأسّس على فكرة كونيّة العقل؛ والاستناد إلى التّصوّر الوظيفي والتّحوّلي الذي يقضي بأن تكون العقلانيّة فعّاليّة إدراكيّة لا جوهرا ثابتا، وأنّ الفعاليّات الإدراكيّة بدورها تختلف باختلاف الزّمان والمكان والمعايير والمقاصد التي توجّهها، وما المفهوم الغربي للعقل وإنتاجاته سوى تجليا من تجليّات العقلانيّة الوَظيفيّة والتّحوُّليّة.
هذا ومن منحى تحليلي آخر، يعتقد أركون بأنّ الحدود والمسافات جليّة بين العقلانيّة واللاّعقلانية «وهذا أمر ينقضه واقع تطوّر المعارف الإنسانيّة، بحيث لا نجانب الصّواب إن قلنا بأن «العقلانيّة» و «اللاّعقلانيّة» إن هما إلاّ طرفان متقابلان لسلّم واحد، بينهما مراتب لا حصر لها تتزايد أو تتناقص فيها درجة العقلانيّة، أو «اللاّعقلانيّة»... والعقلانيّة تقتضي منّا أن نعمل بالأحكام المتناقضة إذا توافرت لنا الأسباب لقبول كلّ واحد منها، ولم تمهلنا الضّرورة العمليّة إلى أن نكتشف سبيلا لحذف بعض عناصر هذه الأحكام حتّى يرتفع التّناقض ويحصل الاتساق» (23) .
وبالفعل، فالإتجاهات الفكريّة المعاصرة، لم تعد تبصر في العقل مسلكها الآمن نحو تحقيق التّقدّم والاستقلاليّة، بقدر ما أضحى سلطة هيمنة وطاغية يجري توظيفه بما ينسجم والأنظمة المهيمنة التي تتّجه نحو تكوين الإنسان الاستهلاكي الذي يتحرّك بوحي من غرائزه، فضلا عن أنّ نتائج الدّرس الأنثربولوجي قد أوحت بخلاصة غير معهودة فيما يتّصل بالبنية التَّكوينيّة للثّقافات الإنسانيّة. إنّ العقلانية التي يجرى الدّفاع عنها والتّبشير بمعاييرها، إن هي إلاّ العقلانيّة المتخلّقة ضمن أنساق الثّقافة الأوروبيّة؛ وعدم قَبُول الثَّقافات الأخرى لهذا النّموذج التّحديثي الأوروبي، ليس بسبب تخلّفها أو بسبب ميكانيزمات فطريّة في تفكيرها، إنّما بسبب أنّها تمتلك معقوليّتها الخاصّة التي تتحدّد انطلاقا من رؤيتها للعالم ومرجعيّتها المعرفيّة في تأويل العالم ورسم منظومة القيم لديها، وليس غريبا بعد هذا، أن تتراجع العقلانيّة التي صاغتها ثقافة القرن التّاسع عشر، وصارت الفعّاليّة العقليّة تعترف بما كان لاعقلانيّا كالبحوث التي نشهد عودتها في الدّرس الصّوفي ومباحث الأسطورة والتّفكيرات اللاّعلميّة.
الهوامش
(1) عبد الإله بلقزيز، أسئلة الفكر العربي المعاصر، سوريا: دار الحوار، ط1، 2001، ص 72.
(2) المرجع نفسه، ص ص 61, 62.
(3) لؤي صافي، إعمال العقل من النّظرة التَّجزيئية إلى الرُّؤية التكاملية، سوريا، دار الفكر، ط1، 1998، ص 16.
(4) طه عبد الرحمن، العمل الديني وتجديد العقل، مرجع سابق، ص 15.
(5) أنظر مقالنا بمجلة الإصلاح، العدد 198، جانفي 2024.
(6) طه عبد الرحمن، في أصول الحوار وتجديد علم الكلام، المغرب، بيروت، المركز الثقافي العربي، ط 3، 2007، ص 145.
(6) طه عبد الرحمن، المرجع نفسه، ص 149.
(7) أركون، الفكر الإسلامي نقد واجتهاد، ترجمة هاشم صالح، بيروت، دار الساقي، ط1، 1990، ص 105.
(8) محمد أبو القاسم حاج حمد، منهجية القرآن المعرفية أسلمة فلسفة العلوم الطبيعية والإنسانية بيروت، دار الهادي، ط1، 2003، ص 33.
(9) طه عبد الرحمن، في أصول الحوار وتجديد علم الكلام، مرجع سابق، ص 150.
(10) سمير حميد، خطاب الحداثة، قراءة نقدية، الكويت، روافد «سلسلة آفاق»، ط1، 2009، ص 35.
(11) المرجع نفسه، ص 36
(12) طه عبد الرحمن، في أصول الحوار وتجديد علم الكلام، ص 150.
(13) المرجع نفسه، ص 150.
(14) مختار الفجاري، نقد العقل الإسلامي عند محمد أركون، بيروت، دار الطّليعة، ط1، 2005، ص 60.
(15) أميرة حلمي مطر، الفكر الإسلامي وتراث اليونان، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط1، 2010، صص 43، 44.
(16) محمد أركون، الفكر الأصولي واستحالة التأصيل (نحو تاريخ آخر للفكر الإسلامي)، ترجمة هاشم صالح، بيروت، دار الساقي، 1999، ص 313.
(17) يقول فريديريك نيتشه في هذا المقام «ما المعرفة في التّحليل الأخير؟ إنها تأويل؛ استثمار لمعنى، فهي في أغلب الحالات لا تفسر؛ إنّها تأويل جديد لتأويل قديم أضحى غير صالح ولا منتفع به، ولم يعد سوى مجرد علامة، لا توجد هناك حالة واقعية، كل شيء في سيلان، يستحيل المسك به، والأكثر دواما هي آراؤنا» Nietzsche,la Volonté depuissance tom 1, Trad.G. Bianquis, Gallimard, N.R.F.1948 t §133p 239.
(18) طه عبد الرحمن، في أصول الحوار وتجديد علم الكلام، مرجع سابق، ص 151.
(19) علي سامي النشار، مناهج البحث عند مفكري الإسلام واكتشاف المنهج العلمي في العالم الإسلامي، مصر، دار السلام، ط1 لدار السلام، 2008، ص 288.
(20)محمد أركون، الفكر الإسلامي نقد واجتهاد، مرجع سابق، ص 43
(21) طه عبد الرحمن، في أصول الحوار وتجديد علم الكلام، ص 151.
(22) مختار الفجاري، نقد العقل الإسلامي عند محمد أركون، مرجع سابق، ص 63
(23)طه عبد الرحمن، في أصول الحوار وتجديد علم الكلام، مرجع سابق، ص 152.
|