بحثا عن المشترك

بقلم
أ.د.احميده النيفر
في الذكرى الخمسين لوفاته، بن نبيّ والتجديد المغاربي: من أجل عالم جديد
 كان انطلاق الفكر الإصلاحي في المجال السّياسي والحضاري قائما على سؤال مركزي:  لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدّم غيرهم؟ هذا السّؤال كان في جانب منه تعبيرا عن وعي بالتخلّف وحرصا على ضرورة استيعاب إيجابيّات الآخر. 
ضمن هذا التّوجه يمكن أن نتناول جانبا من فكر مالك بن نبي(1) في علاقته بالتّوجه الإصلاحي الذي ارتبط به وطوّره بصورة لافتة عندما حرص على الإجابة عن ذات السؤال المركزي للإصلاح لكن بمنهج جديد. هذا ما يتيح لنا القول إنّ أهمّ ما ميّز الأثر الفكري لمالك بن نبي هي الوجهة النّقدية التي توخّاها في وقت كان معاصروه في المشرق خاصّة قد أحجموا عن كلّ تواصل موضوعي مع الإصلاح خاصّة بعد الصّيغة التي تبنّاها الشّيخ رشيد رضا.
تمثّلت هذه الوجهة النّقدية لمالك في تطوير نوعيّ لمقولة الإصلاح بالتّنظير لأطروحة النّهضة التي عالجها من زاويتين متفاعلتين هما: الآخر والذات. من جدل هذين الطّرفين برزت في أدبيّاته ثلاث مقولات للنّهضة هي:
(1) أن الغرب ليس اختيارا؛
(2) الإسلام دين وحضارة؛
(3)طبيعة المعركة بين الذّات والآخر هي فكرية-حضاريّة أساسا.  
يمكن إبراز أهمّية هذه المقولات والرّؤية التي اعتمدها مالك حين نعمد إلى تنزيلها  في مجال الخطاب المعاصر الذي يخوض منذ ثلاثة عقود تقريبا سجالا حادّا  عن صراع الثّقافات أو حوارها.
لقد كان صاحب «حديث في البناء الجديد»(1960) حاملا لتوجه رائد لأنّه كان قبل ثلاثة عقود، على الأقلّ،  من «هنتكتون» ونظريّة «صدام الحضارات» ومن «فوكوياما» ومقولة «نهاية التّاريخ» رافضا القول بإحدى النّظريتين على وجه الإطلاق.
الواقع الموضوعي والوعي التّاريخي جعلا مالكا يرى أنّ الصّراع قائم إلى جانب الحوار في ذات الوقت ودون انفصال. لذلك فلا عجب إن رأيناه مهتمّا بالحضارة الإنسانيّة، تقدّمِها ومصاعبِها، مبيّنا ما يمكن أن يسهم به الفكر والثّقافة الإسلاميّان لفائدة الإنسان. من جهة أخرى لا يتردّد في نقد المستشرقين محدّدا نقاط الاختلاف معهم في تشخيصهم لما يرونه اعترى الفكر الإسلامي من علل. فعل ذلك مثلا مع المستشرق الأنجليزي «جيب» مؤلف «الاتجاهات الحديثة في الفكر الإسلامي» الذي اعتبر أنّ الفكر الإسلامي عاجزٌ عن التّركيب مغرقٌ في التجزيء و«الذرية».   
من هذه الناحية يكون ابن نبيّ تواصلا مع ما قال به الإصلاحيّون الأوائل من ضرورة الفصل نظريّا وعمليّا بين الثّقافة الغربيّة ومبتكراتها التّقنيّة من جهة وبين السّياسات الغربيّة تجاه العالم الإسلامي من جهة ثانية. 
تحقّق هذا باستيعابه للثّقافة الأوروبيّة الحديثة وقيمها إلى جانب تمثّل الثّقافة الإسلاميّة التّقليديّة. أضاف إلى هذه الخضرمة المعرفيّة تكوينا في مدرسة فرنسيّة للكهرباء وهندستها أتاحت له صرامة فكريّة عندما اتجه بعد ذلك إلى معالجة مشكلات الحضارة. 
مع كلّ هذا كان – وهو وليد قسنطينة- « مريدا» مولعا بفكر رائد الفلسفة الاجتماعيّة والتّاريخ، عبد الرحمن ابن خلدون. 
هنا ندرك أنّ إضافته بالنّسبة إلى الإصلاح تعدّ إضافة نوعيّة، فتجعله من أصحاب الرّؤية (visionnaire) أو كما اختار هو أن يسمّي نفسه بتواضع: «شاهد قرن». كان يعي معنى هذه الشّهادة ومستلزمات خطاب أصحاب الرّؤى، لذلك كان يقول «كلّ كلمة لا تحمل جنين نشاط معيّن فهي كلمة فارغة، كلمة ميّتة».  
تتّضح صلاحيّة مقاربة مالك اليوم - وهو المتوفّى سنة 1973 من ثلاثة أوجه: 
أوّلها، أشرنا إليه حين ذكّرنا أنّه أرسى فكرة ترفض مقولة صدام الحضارات كما تُعرض في نفس الوقت عن دعوى حوار الحضارات. الأمران عنده لا ينفصلان، هو حوار وصدام معا، هذا هو الدّرس الأول للفكر الحضاري. لكنّ الأهمّ من أيّ سجال إيديولوجي هو أنّه لا معنى للحوار والصّدام في غياب الإنسان الحامل لروح وفكر يجعلانه قادرا على الحوار والصّدام. من هنا جاءت عنايته بتحليل شروط النّهضة ومسألة القابليّة للاستعمار.  
ثانيا، كان يرى أنّ الحضارة الغربيّة أصبحت حضارة عالميّة، فلا بدّ من الإفادة من منتجاتها قصد الوصول إلى ندّية يمكن بها مواجهة السّياسات الغربيّة المعادية للمسلمين. 
هذه الندّية ، ليست ثأريّة -كما يذهب إلى ذلك دعاة أستاذيّة العالَم- لكنّها رهان على أهمّية الخصوصيّات الثّقافيّة والرّوحيّة ضمن أيّ توازن استراتيجي.  مثل هذا التّوجّه يتجاوز بأشواط الواثقين من أنّ التّحكّم في الحوار أو الصّدام يعتمد على العناصر العسكريّة والسّياسيّة والاقتصاديّة فحسب.
ثالثا، يرى صاحب «مستقبل الإسلام» أنّ هذا المستقبل لا يتأتّى إلاّ بصياغة منظور معرفي ومنهجي بديل أشدّ تجذّرا في الواقع المحلّي وأكثر مع الفكر الإنساني تكاملا، لأنّنا نعيش حضارة واحدة تفرض تحوّلات عالميّة شاملة. 
لذلك يصبح الإشكال: أتتحقّق هذه الصّياغة المفضية إلى ولوج جديد في التّاريخ الحديث بذهنيّة حضاريّة «بِكْر» مُعرضة عن العالَم أو بهويّة ثقافيّة «أصيلة» لم تقع إعادة تركيبها؟
من ثمّ جاء الجهد البنائي، فكانت «الظّاهرة القرآنيّة» إعادة لتركيب الخصوصيّة الثقافيّة العربيّة بما أتاح ظهور «ميلاد مجتمع» على أنّه يمثّل القيمة المضافة لشعوب عديدة في العالَم القديم.  
هذا هو رهان مالك بن نبيّ قبل أن يظهر الحديث عن النّظام العالمي الجديد، وقبل أن تبدأ العولمة بأكثر من ثلاثة عقود. لقد أمكن عده صاحب رؤية لأنّه كان مدركا بوعي الحاجةَ  إلى عالم جديد أي نمط جديد من الحياة ورؤية محدّدة للوجود. أمّا تنميط الشّعوب والثّقافات فهو مشروع آيل للفشل لكونه يتجاهل أهمّ عناصر بناء الحضارة، وهو عنصر فعاليّة الإنسان التي لا يمكن أن تقطع مع خصوصيّاته الثّقافيّة والتي تجعله أقدر على المساهمة والإضافة في المستوى الإنساني. 
الهوامش
(1) يُعدّ المفكر الجزائري مالك بن نبي (1905-1973م) (الموافق لـ1323 هـ - 1393 هـ) من أعلام الفكر الإسلامي في القرن العشرين.وأحد رُوّاد النّهضة الفكريّة الإسلاميّة في القرن العشرين ويُمكن اعتباره امتدَادًا لابن خلدون، ويعد من أكثر المفكرين المعاصرين الذين نبّهوا إلى ضرورة العناية بمشكلات الحضارة.