خواطر

بقلم
شكري سلطاني
مرايا الإنسان
 للإنسان قطبان وواجهتان، وهي مرايا لذاته وتحقّق وجوده في الحياة وتُساير صيرورته الدنيويّة. مفارقة جدّ عميقة وعويصة في كينونة الذّات البشريّة. وطالما هو في الحياة، فإنّ جانبين نقيضين يعتملان فيه يتجاذبانه فهو بين نزول وصعود ، بين أقصى الإنحطاط أي أسفل السّافلين وأسمى السموّ أي أحسن تقويم. فكيف نفهم الذّات البشريّة في حدّيها ونقيضيها البنيوي الجسدي -النّفسي والمعنوي -الرّوحي ؟
1 - القطب الجسدي -النّفسي : 
ينساق الإنسان في حياته إلى بُعده النّفسي لإشباع رغباته وتلبيّة ضروراته الجسديّة وحظوظ نفسه ولا ينفكّ - طالما مازال ناشطا حيويّا - على مطاردة أحلامه وآماله لتحقيق ما يرغب في إنجازه والحصول عليه فرغبته جامحة للإستيلاء والإستحواذ والتملّك والتباهي والتّعالي.
جانب نفسي صارخ ذاتي تملكه النّفس وتهواه، وتسير به طيلة حياة صاحبها طالما لم يتم تأديبها بالحرمان والتّزكية والتخلّي عن القيّم السّقيمة والتحلّي بمكارم الأخلاق.
عديد من المظاهر والسّلوكيات البشريّة في حياة النّاس هي من صنائع النّفس ورغباتها وتعلّقها بالحياة الدنيا. تنجذب النّفس بيُسر للحياة الدّنيويّة بمتاعها وملذّاتها، ويساير الجسد النّفس ويستجيب بغرائزه وألياته عبر ردود أفعال تجعل الشّخص منسجما مع واقعه الدّنيوي المادّي الحسيّ، ولو كُتب له البقاء لواصل التوثّب والتّعلّق بالدّنيا .
تلك مأساة الإنسان وإبتلاؤه وبلاؤه، فعِلّته في نفسه وشرهه في طمعه وزهده في تركه وورعه! كما «في وجوده عدمه وفي عدمه وجوده».
 الجانب الجسدي-النّفسي ينجذب للدّنيا وينشغل بها ويتعلّق بها أيمّا تعلّق. إنّه واقع حاصل بالملامسة والشمّ والذّوق والنّظر والسّمع وكلّها ارتباطات واتّصال مع العالم الخارجي لا انفكاك منها بسهولة.فكيف ينجو الإنسان سباحة والأمواج عاتيّة؟ من سديد الرّأي أن يستهم سفينة النّجاة مع أولي الألباب وصفوة البشر للعبور إلى برّ الآمان والسّلامة من الغرق.
2 - القطب المعنوي-الرّوحي :
يُمثّل القطب المعنوي-الرّوحي المتجاوز لماديّة وجثمانيّة البشر بُعْدا راقيا ومتعاليّا عن قعر الدّنيا وحضيضها وسُفليتها، ففيه التعلّق بالقيّم السّليمة والمعاني الخالدة والباقيات الصّالحات، وخيرها في إرتباط العبد بمولاه وتجذير حبل الودّ معه بالتواصل معه والإتصال به روحيّا وذلك بأداء فروض الطّاعة والدّعاء والذّكْرِ والتّلبية والتّهليل والتّسبيح والتّكبير والحمد والشُّكر وكلّها من بشائر ونسائم السّعادة الأبديّة.
إنّ الخير كل الخير هو في إنسياب وإنتشار دواعي الخير والحقّ في كامل الذّات البشريّة دون نقص ولا إفتراضيا ولا وهْما بل تحقّقا بالحقائق الربّانيّة وإنسجاما مع التجليّات الالهيّة.
لا يُمكن للإنسان بما إستودع ربّه فيه من فطرة وما وهبه من قدرات وإستعدادات ومواهب وبما حباه من رزق ونِعَمْ أن يكون غير مهتم ومستقلا عن جانبه الرّوحي فمن الغباء والجهالة والحماقة إن فعل نكرانا للجميل كفرا وإلحادا عصيانا وعنادا.
هذا الجانب المعنوي ليس ملكيّة للنّفس خاصّة ولا خالصة للإنسان يتصرّف فيه وكأنّه المالك الأصلي إذ أنّه مؤتمن وقد حمل من قبل الأمانة التي أبت السّماوات والأرض والجبال حملها. إنّه من اللّه وباللّه وللّه.وليت الإنسان يتفطّن لذلك ليُحْسِن التّعامل مع كينونته وذاته البشريّة ضمن رؤية ومقاربة شموليّة تُغنيه عن نرجسيّة وأنانيّة واهمة وغرور وسراب. إذ الرّوح وديعة وسوف تُسْلب بالموت والنّفس هويّة وقالب معنويّ وهي مُعطى من اللّه الوهاب سبحانه وتعالى. فلا يدعو الإنسان الملكيّة لما لا يملك ،فليس له السّيطرة الكُليّة والسّلطان على معناه وحقيقته فهو من اللّه وباللّه وإلى اللّه . فلا يتجاوز العبد حدود ذاته بالإبحار والسّير خارج دائرة عبوديّته فيلبس رداء العزّ والكِبَر ويغترّ ويتعاظم .
عندما تتعاظم النّفس وتنتشر تتضاءل الرّوح وتنحسر، وعندما تواصل النّفس في ثرثرتها وهذيانها تصمت الرّوح وتخرس. فبين بيع الرّوح للّه عزّ وجلّ وحطّ الرأس تواضعا لرفعته ومقامه وبين غرور ورعونة وطيش النّفس بون شاسع. فالفرق واضح بين من باع نفسه وماله للّه سبحانه وتعالى لعلمه أنّ المُلك للّه وحده وبين من تمسّك بنفسه وتشبّث بها وجعلها معلّما له وموجّها كأنّه خالد بِذَاتِه ولِذاتِه.
الجانب الجسدي-النّفسي وسيلة لتحقيق غاية وهي تحقّق القطب المعنوي-الرّوحي بحقيقته الإلهيّة ولكن ما ثمّة على مرّ الزمان إلاّ قلب للمعادلة والحقيقة. ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾(الزمر: 9).