شذرات

بقلم
د.محمد عمر الفقيه
قال تعالى : يمحو اللَّهُ ما يشاءُ ويثْبِت وعنده أُم الْكتابِ.
 قال تعالى:﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾ (الرعد:39).
حينما تقرأ هذه الآية الكريمة وترجع إلى كتب التّفسير تصاب بالدّوار والتّشتّت من كثرة الآراء المتعارضة التي قيلت في تفسيرها، وسأعرض لكم عيّنة منها على النّحو التّالي :
1 - عن ابن عباس ، في قوله : ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾، قال : كلّ شيء غير السّعادة والشّقاء، فإنّهما قد فرغ منهما.
2 - عن مجاهد في قوله : ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ﴾، قال : إلاّ الحياة والموت والسّعادة والشّقاوة فإنّهما لا يتغيّران.
3 - عن ابن عباس أنّه قال في هذه الآية : ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾، قال : كتابان: كتاب يمحو منه ما يشاء ويثبت، وعنده أمّ الكتاب .
4 -  عن عثمان النّهدي قال : سمعت عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه يقول، وهو يطوف بالكعبة: اللّهم إن كنت كتبتني في أهل السّعادة فأثبتني فيها، وإن كنت كتبت عليّ الذّنب والشّقوة فامحني وأثبتني في أهل السّعادة، فإنّك تمحو ما تشاء وتثبت، وعندك أمّ الكتاب.
5 - عن ابن عباس قوله :﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾، يقول : هو الرّجل يعمل الزّمان بطاعة اللّه، ثمّ يعود لمعصية اللّه، فيموت على ضلالة، فهو الذي يمحو، والذي يثبت : الرّجل يعمل بمعصية اللّه، وقد كان سبق له خير، حتّى يموت وهو في طاعة اللّه، فهو الذي يثبت.
6 - أنّ كعبا قال لعمر رحمة اللّه عليه: يا أمير المؤمنين، لولا آية في كتاب اللّه لأنبأتك ما هو كائن إلى يوم القيامة قال: وما هي؟ قال: قول اللّه :﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾.
7 - حدّثنا همام قال : حدّثنا الكلبي قال:﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾، قال : يمحو من الرّزق ويزيد فيه، ويمحو من الأجل ويزيد فيه.
هذه عيّنة ممّا جاء في تفسير هذه الآية، وكما هو ملاحظ أحيانا الصّحابي الواحد ينقل عنه قولان مختلفان في تفسيرها.
لماذا تعارضت الأراء في تفسير هذه الآية واختلفت؟
السّبب الرّئيس في كلّ هذا التّباين والاختلاف هو المنهج الذي اتبعوه في التّفسير، حيث نظروا إلى الآية الكريمة نظرة جزئيّة، ولم ينظروا إليها في إطار النّظرة العامّة والشّموليّة لكتاب اللّه، وقفوا فقط عند كلمتي «يمحو» و«يثبّت»، وعكسوا دلالتهما على أمّ الكتاب، علما بأنّ الآية الكريمة واضحة وليس فيها أيّ التباس حينما تُقرأ في إطار البنية المتكاملة لكتاب اللّه، فالحقّ عزّ وجل يبيّن للنّاس في الآية الكريمة مشيئته المطلقة في عالم الشّهادة حيث يثبّت ويمحو وفق اختيارات الإنسان، فالإنسان حينما يرتكب معصية فإنّها تسجّل عليه، وحينما يتوب إلى اللّه ويستغفره ويعمل صالحا يمحو اللّه ذنبه ومعصيته، وكذلك لو اختار إنسان لنفسه الهلاك فأراد أن يلقي بنفسه في واد سحيق، فسيموت حتما، وتقبض الملائكة الموكلون به روحه، وإذا عدل عن قراره بالانتحار فسيستأنف حياته.  
إذا، فعمليّة المحو والإثبات هي في عالم المشيئة الإلهيّة في عالم الشّهادة وفق اختيارات الإنسان، ولكن عالم الأمر ليس فيه محو أو تعديل أو تغيير، لذلك قال تعالى ﴿وَعِندهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ حيث النّسخة النّهائيّة التي لا يجري فيها التّغيير والتّبديل والمحو، لأنّ علم اللّه تعالى علم مطلق يعلم ما كان وما هو كائن وما سيكون إلى يوم القيامة، فكلّ الخيارات التي سيسلكها الإنسان هي بعلم اللّه، لذلك لا تغيير فيما هو مكتوب في أمّ الكتاب ولا تبديل ولا محو فيه، أمّا ما يتعلّق بعالم الشّهادة فيتم التّبديل والتّغيير والكتابة والمحو بناء على اختيار الإنسان نفسه، لذلك يُكتب ما يقوم به من أعمال وما يترتّب عليها من نتائج وكذلك يتمّ المحو والتّغيير بناء على اختيارات الانسان وسلوكه، فقد يسلك مسالك الشّياطين فتسجّل له أعماله الشّيطانيّة وبعد ذلك يتوب وينوب فتمحى عنه سيئاته، وقد يسلك طريق السّفهاء والمبذّرين فيعيش فقيرا شقيّا، ثمّ يسلك طريق الجادّين العاملين السّاعين إلى الرّزق الحلال فيُكتب في سجل الميسورين، ولكنّ النّسخة الأصليّة والتي هي أمّ الكتاب، لا يجري عليها التّعديل والتّغيير لأنّها متضمّنة لعلم الّله المطلق.