تطوير الذات

بقلم
محمد أمين هبيري
مبدأ المدنية
 المقدمة
اتفق أغلب الحكماء على وصف الإنسان بأنّه كائن مدنيّ بالطّبع، منذ أرسطو مرورا بابن خلدون وصولا إلى فلاسفة الأنوار، ويقصد به أنّ الإنسان كائن اجتماعي أي أنّه لا يعيش إلاّ في جماعة، فالإنسان لا يستطيع تحقيق حاجاته بمعزل عن الآخر، فطبيعته تدفعه «بالضّرورة» إلى التّعاون والتّعايش ضمن مجال مشترك مع الآخر. ومن هذا نكتشف أنّ المدنيّة مبدأ يحكم الفعل الإنساني في جوهره، إذ أنّ هذا الفعل لا يصلح إلاّ في إطار مكاني يدعى «المجتمع الإنساني».
هذا المفهوم تمّ تحويل وجهته باستخدام جهاز معرفي فلسفي معاد للدّين المسيحي في أوروبا وعوض أن يكون مبدأ يحكم الفعل الإنساني أصبح وصفا لدولة الحداثة التي فصلت الدّين عنها، فقالوا عنها أنّها دولة مدنيّة. إشارة لكون حكّام الدّولة ليسوا برجال دين وإنّما مواطنون مدنيون. وقد اتخذت الحداثة ركيزتين أساسيتين لتكريس هذا الفصل عن الدّين (الأولى أنّ الدّولة بتشريعاتها القانونيّة ذات مصدر إنساني إنثبوقراطي والرّكيزة الثّانية هي الرأسماليّة في بعدها الاقتصادي أي المادّيات).
في هذا الإطار، يمكن استعراض مصطلح المدنيّة بصورتها الحاليّة كوصف لها للدّولة الحداثيّة إذ يشير مفهوم المدنيّة إلى حالة تنظيم المجتمع بشكل أساسي على أساس قانوني وسياسي، وذلك بمعنى أن القوانين واللّوائح والمؤسّسات الحكوميّة هي السّلطات المهمّة التي تدير وتنظّم شؤون المجتمع. هذا يعني أن القرارات والسّلطة في المجتمع تأتي من خلال هياكل حكوميّة وقوانين محدّدة بدلاً من القوى الدّينيّة أو العرقيّة أو القبليّة أو العائليّة. كما تشجّع المدنيّة على فصل الدّين عن الدّولة، وتضمن المساواة أمام القانون وحماية حقوق الإنسان والحرّيات الأساسيّة. يتمثّل دور الحكومة في حفظ النّظام وتوفير الخدمات العامّة وتنظيم القوانين التي تحكم حياة المواطنين.
بشكل عام، يمثل المفهوم المدني محطّ أهمّية كبيرة في العديد من الدّول حول العالم، حيث يعكس التّطوّر نحو مجتمعات مبنيّة على أسس العدالة وحقوق الإنسان والحرّيات الشّخصيّة. إلاّ أنّ الحرّيات المقصود بها ليست في «الحرّية من...» بل في «الحرّية إلى...» فعوض أن أكون ملكا لنفسي أكون ملكا بيد المادّيات.
تشير كلمة «المدنيّة» في اللّغة العربيّة إلى كلّ ما يتعلّق بالمدن أو الأمور والقضايا الحضريّة. على سبيل المثال، يمكن أن تستخدم للإشارة إلى المواضيع المتعلّقة بالحياة في المدينة مثل البنية التّحتية، والنقل العام، والتّنمية الحضريّة.
أما اصطلاحا، ففي السّياق الاجتماعي، يُشير مصطلح «المدنيّة» إلى مجموعة من المفاهيم والمبادئ. عادةً ما تتعلّق هذه المبادئ بالقانون وحقوق الإنسان والدّيمقراطيّة. وفي السّياق القانوني، يمكن أن يُستخدم مصطلح «المدنيّة» للإشارة إلى القانون المدني، وهو نوع من القوانين ينظّم العلاقات بين الأفراد والكيانات غير الحكوميّة في المجتمع. يغطّي القانون المدني مسائل مثل العقود والملكيّة والمسؤوليّة المدنيّة. أمّا في السّياق السّياسي، يُشير مصطلح «المدنيّة» إلى مفهوم الدّولة التي تحترم حقوق الإنسان وتكون مستقلة عن التّدخل الدّيني أو العرقي أو القبلي. تعكس هذه المفاهيم الأسس الدّيمقراطيّة وحكم القانون.
الجزء الأول: مبدأ المدنية في ذاته 
يمكن تقسيم الجزء الأول إلى عنصرين؛ الأول أساس المبدأ والثاني مبررات المبدأ 
العنصر الأول: أساس المبدأ 
مبدأ المدنيّة يقوم على أسس نظريّة مهمّة تشمل عدّة مفاهيم. يعزّز هذا المبدأ حرّية الأفراد داخل المجتمع الإنساني في ممارسة نشاطاته المختلفة. يستند هذا المبدأ إلى قيم التّعاون والتّآنس والتّنافس، حيث يؤكّد على أنّ المجتمع الإنساني مجتمع متماسك إذا مرض تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمّى.
مصادر هذا المبدأ تتضمّن فلسفة الإشارة إلى عقل الإنسان وحاجة الإنسان الطّبيعيّة للاجتماع البشري التي نقلها الفلاسفة مثل أرسطو وابن خلدون. كما تستند إلى تجارب تاريخيّة مثل تشكّل القرى والمدن والاجتماع البشري بصفة عامّة، التي أظهرت أهمّية الجماعة والتّفكير الجمعي في بناء الحضارات الإنسانيّة. هذه الأسس النّظريّة تسعى إلى إقامة مجتمعات عادلة ومتنوّعة يمكن للأفراد فيها التّعبير عن أنفسهم وممارسة حقوقهم دون تمييز أو اضطهاد.
العنصر الثّاني: مبرّرات المبدأ
مبدأ المدنيّة يأتي مدعومًا بمبرّرات قويّة ترتكز على مفاهيم مهمّة من أجل بناء مجتمع عادل ومتطوّر. يعزز هذا المبدأ، من خلال هذا التّصوّر الفكري، التّعايش بين جميع الأفراد على أساس المساواة كأسنان المشط، ممّا يحافظ على الحرّيات الدّينيّة ويمنع التّمييز الدّيني بصفة عميقة، ليست كمثل التّجارب الأوروبيّة الكاذبة. كما تتيح المدنيّة أيضًا فرصة التّنوع والتّعايش الثّقافي والدّيني داخل المجتمعات.
مصدر هذا المبدأ يشمل الفلسفة والأفكار المناهضة للتّمييز الدّيني والتّفرقة الدّينيّة. يمكننا الإشارة إلى أفكار فلاسفة مثل أرسطو وابن خلدون الذين أسّسوا لأفكار المدنيّة بناء على حاجات الإنسان الطّبيعيّة.
بشكل عام، تعكس مبرّرات المدنيّة التّسامح والتّعاون والتآنس، ممّا يجعلها مكمّلة أساسيّة لبناء مجتمعات متقدّمة ومزدهرة.
 الجزء الثاني: مبدأ المدنيّة في موضوعه 
يمكن تقسيم الجزء الثّاني إلى عنصرين؛ الأول نتائج المبدأ والثاني حدود المبدأ 
العنصر الأول: نتائج المبدأ 
ينجر عن مبدأ المدنيّة العديد من النّتائج الإيجابيّة على مستوى الدّولة والمجتمع، حيث يشكّل أساسًا هامًا للتّنمية والاستقرار. يؤدّي التّطبيق النّاجح لهذا المبدأ إلى تحقيق المزيد من الحقوق والحرّيات للمواطنين وتعزيز العدالة والمساواة بينهم. تأتي النّتائج كما يلي:
* حماية حقوق الإنسان: يضمن مبدأ المدنيّة حماية حقوق الإنسان والحرّيات الأساسيّة مثل حرّية التّعبير وحرّية الدّين وحقّ المساواة أمام القانون.
* تعزيز قيمة الشّورى: يشجّع المبدأ على الانتخابات الحرّة والنّزيهة والمشاركة الشّعبيّة في اتخاذ القرارات السّياسيّة، ممّا يعزّز قيم الشّورى والمساءلة.
* تحقيق العدالة والمساواة: يعمل المبدأ على القضاء على التّمييز وضمان المساواة أمام القانون، ممّا يسهم في تحقيق العدالة الاجتماعيّة.
* تعزيز التّعايش الثّقافي: يسمح المبدأ بالتنوع والتعايش الثقافي والديني داخل المجتمعات من خلال فصل الدين عن الدولة.
* تعزيز الاستقرار والتّنمية: يخلق المبدأ بيئة من الاستقرار والثقة في القوانين والمؤسسات، مما يشجع على الاستثمار والتنمية الاقتصادية.
 بشكل عام، يمكن القول إنّ مبدأ المدنيّة يسهم في بناء مجتمعات أكثر عدالة وتقدمًا لكن ليست بناء على نظريّة التّقدّم التي أسهمت في خلق مشاكل بيئيّة وصحيّة أثّرت سلبا على الكوكب بأسره ولكن تقدم بناء على وظيفة الإنسان الفعليّة التي هي عمارة الأرض بقيم الاستخلاف. 
العنصر الثّاني: حدود المبدأ
على الرّغم من فوائده، يتضمن مبدأ المدنيّة حدودًا مهمّة. 
أولًا، يمكن أن يؤدّي إلى توتّرات في بعض الحالات حيث يتعارض مع القيم والمعتقدات الدّينيّة لبعض الفئات السّكّانيّة، خاصّة في المناطق التي يغيب فيها التّجانس العرقي والمذهبي. ممّا يثير التوتّرات الداخليّة والصراعات الطائفيّة.
ثانيًا، يمكن أن يتسبّب مبدأ المدنيّة في التّقليل من التّوجّهات الثّقافيّة والتّقاليد الدّينيّة الهامّة لبعض المجتمعات، ممّا يثير مخاوف بشأن فقدان الهويّة الثّقافيّة والقيم التّقليديّة.
ثالثًا، يحتاج الفعل الإنساني المدني إلى إطار كياني يدبّر أمر الجماعة عبر تنظيم قوانين معقّدة ومتعدّدة لإدارة التّنوّع الثّقافي والدّيني، وهذا يمكن أن يزيد من التّكلفة الإداريّة والقانونيّة داخل الكيان الواحد.
تلخص هذه الحدود في ضرورة البحث عن توازن بين مبدأ المدنيّة والحفاظ على التّنوع الثّقافي والدّيني واحترام الحقوق والحرّيات الفرديّة.
الخاتمة
في الختام، يُظهر مبدأ المدنيّة أهمّية كبيرة في بناء مجتمعات عادلة ومتطوّرة من النّاحية الأخلاقيّة من خلال تعزيز القيم الإنسانيّة والسّياسيّة والحرّيات الأساسيّة، يوفّر هذا المبدأ إطارًا حاكما للتّنوع والتّعايش والازدهار.
ومع ذلك، يجب أن ندرك أنّ مبدأ المدنيّة له حدوده. فقد يؤدّي التّطبيق الجامد لهذا المبدأ إلى توتّرات ثقافيّة ودينيّة، وقد يتسبّب في فقدان بعض الهويّات الثّقافيّة. لذلك، يجب أن نسعى إلى تحقيق توازن بين المدنيّة واحترام التّنوّع والقيم الإنسانيّة والسّياسيّة.
في النّهاية، يظلّ مبدأ المدنيّة أساسًا لتحقيق حضارة متوازنة في المجتمعات المعاصرة، وإدراك أهميته مع تطبيقه بحذر وحكمة يمكن أن يساهم في خلق عالم أفضل للأجيال الحالية والمستقبليّة.
الهوامش
(1)  لمزيد من التوسّع في الموضوع يمكن مراجعة المصادر التالية:
 «T* The Secular State and Religious Conflict: Liberal, Neorepublican, and Democratic Perspectives» by Robert Audi
  «T*The Challenge of Pluralism: Paradigms from Muslim Contexts» edited by Abou El Fadl and Noah Feldman
  «T*The Idea of the Secular State» by A. N. Wilson