الدولة في الحديث النبوي

بقلم
الهادي بريك
الحلقة التاسعة : الدولة بين الدين والدنيا
  تدبير الشّأن العامّ (من مثل شأن الحكم والدّولة والمال العامّ والإقتصاد والسّياسة الدّستورية والتّنظيميّة والعلاقات الخارجيّة مع مختلف الدّول والأمم) هل هو أمر ينتمي إلى الدّين فهو يرتّبه، أم هو أمر فوّت فيه الدّين إلى العقل الإنسانيّ ليعالجه بما وصل إليه من خبرات وتجارب؟ وإذا كان الدّين هو الذي يعالج الشّأن العامّ ـ بما فيه الدّولة ـ فكيف يرتّبه : هل بأوامر ونواه معروفة بمثل ما رتّب الشّأن العقديّ مثلا أو التعبّديّ أو الأسريّ العائليّ، أم بطريقة أخرى؟ وما هي؟ ولماذا؟ ذلك هو السّؤال الأكبر الذي ظلّت الأمّة تعالجه بطريقة صحيحة على إمتداد ثلاثة عشر قرنا تقريبا حتّى تسلّلت إليها الغزوات الفكريّة وأردتها في حبائل ذلك السّؤال الذي إنقسمت فيه الأمّة إلى طائفتين : طائفة علمانيّة متأثّرة بالمعالجة الغربيّة لعلاقة الدّين بالحياة، وهي الطّائفة التي إستخلصت الدّولة منذ عقود طويلات. وطائفة ظلّت تقاوم تلك الغزوات الثّقافيّة كما تقاوم الدّولة التي شيّدت سياساتها كلّها تقريبا على مقتضى الرّؤية الغربيّة. وهي طائفة معتصمة برؤيتها الإسلاميّة الصّحيحة ولكنّها ضعيفة عددا وعدّة. أمّا العمق الشّعبيّ العامّ للأمّة فهو حيال هذه المعركة حامية الوطيس كمثل اللاّعب الإحتياطيّ الذي انصرف إهتمامه عن المشهد بالكلّية بسبب ما أصابه من ملل وشبه يأس. 
من مستندات الطّائفة العلمانيّة
من عجيب ما جاء به العلمانيّون ـ أو بعضهم ـ ممّا قد يظنّه الغافل أنّه برهان ساطع على أنّ تدبير الدّولة ـ والشّأن العامّ كلّه ـ معالجة عقليّة قحّة لا يقترب منها الدّين إستنادهم إلى حديث نبويّ صحيح أخرجه مسلم عن أنس وهو قوله ﷺ «أنتم أعلم بأمور دنياكم». يجب أن يحيلنا هذا الإستناد أوّلا وقبل كلّ شيء إلى منهج فهم الإسلام. 
للإسلام ـ كما لكلّ علم ـ منهجان: منهج للفهم ومنهج للتّنزيل، ذلك أنّ الإسلام معالجة مركّبة وليس معالجة أحادية الإتّجاه أو معادلة بسيطة التّكوين. منشأ ذلك التّركيب هو أنّ الإسلام يعالج الحياة كلّها وليس جانبا منها فحسب أو أكثر من ذلك وأنّه يعالج الإنسان. والإنسان نفسه كائن مركّب التّكوين وليس أحاديّ الإتّجاه. ومن لا يعي هذا له أن يكون مسلما ككلّ مسلم في أيّام الإنحطاط والإستسلام والسّلبية ولكن ليس له أن يؤمّ النّاس أو أن يدعو إلى الإسلام، لأنّه سيضلّهم. وفاقد الشّيء لا يعطيه كما قالت العرب .
من فقرات منهج الفهم
فيما يتعلّق بهذا الحديث الصّحيح : صحّة الحديث ليست كافية للحكم به. علينا كذلك البحث عن مناسبته، أن ينتزع حديث من سياقه فيتّخذ لغير ما قصد به. مناسبته هو أنّه ﷺ نهى الأنصار في المدينة ـ بصيغة نهي غير مؤكّدة بل هي إلى النّصيحة أقرب ـ عن تأبير نخلهم. فهم أولئك أنّه يتحدّث من مقام البلاغ الدّينيّ كعادته فتركوا التّأبير فجاءت ثمرة نخلهم شيصا (غير ناضجة) فلمّا راجعوه في الأمر قال لهم «أنتم أعلم بأمور دنياكم». وفقرات أخرى من منهج الفهم، منها أنّ القرآن الكريم حاكم على كلّ شيء مطلقا البتّة وبدون أيّ إستثناء بما في ذلك السنّة حتّى عندما تكون أصحّ من الصّحة وأصرح من الصّراحة إلاّ فيما يدرسه طلبة العلم، من مثل تقييد لمطلق أو تخصيص لعامّ أو بيان لمجمل. وهذا رغم وجوده قليل جدّا ولا يشغب على تلك القاعدة العظمى أي حاكمية القرآن الكريم. 
القرآن الكريم إمتلأ بنصوص صريحة تأمر بالتّدبيرات السّياسيّة وتدبيرات الشّأن العامّ كلّه وفي كلّ الحقول. جاءت بذلك قصص لا تكاد تحصى، وقبل ذلك نصوص قاطعة في وجوب الحكم بالعدل والقسط وإقامة الشّريعة وإنصاف المظلوم وقمع الظّالم وكيفيات توزيع المال العامّ وكيفيات معالجة شؤون الحرب والسّلم والعدوان. هذا لفرط العلم به لم يجادل فيه مجادل على إمتداد ثلاثة عشر قرنا كاملات. بل سار عليه النّظام حتّى عندما إنحرفت الدّولة عن طريق إكتساب الشّرعية الشّعبية (من الأمويين حتّى العثمانيين). ولكنّ المشروعيّة ـ بمعنى تحكيم المرجعيّة العليا للشّريعة دون غيرها ـ ظلّت محفوظة أبدا. السنّة نفسها صحيحة صريحة في وجوب تحكيم الشّريعة في الشّأن السّياسيّ داخليّا وخارجيّا وماليّا ودستوريّا وقضائيا. 
كلام العلمانيّين هنا إذن مردود عليهم كلّ ردّ، والحقّ أنّ المسلم الذي يموت على هذه العقيدة العلمانيّة بأنّ الشّريعة قاصرة على حقل في الحياة دون غيره فقد مات على شعبة من شعب الجاهليّة دون ريب. ومن يموت عاصيا شهوة ـ ومن منّا غير كذلك ـ مرشّح للمغفرة والرّحمة. ولكنّ الذي يموت حاملا في جوفه قيمة فكريّة غير إسلاميّة فلا أظنّ أنّه كذلك. إلاّ أن يشاء اللّه سبحانه شيئا. فهو الذي يحكم بين عباده يوم القيامة.
طائفة أخرى من المسلمين ضلّت الفهم هنا
قبل يومين فحسب كنت بصدد تقديم دورة شرعيّة وكان الموضوع (شروط التّفكير العقديّ الإسلاميّ. وهي ستّة : التّفكير التّوحيديّ والمقاصديّ والسّننيّ السّببيّ والمتكامل المتوازن والمقارن). وفي أثناء الحوار مع الطّلبة قال لي أحدهم مستعجبا : «أين الفقه هنا؟»، قلت له : «ما تقصده بالفقه هو تفكير عمليّ (جوارحيّ) وهذا مطلوب ولكنّه يشيّد الهيكل العظميّ فحسب. وما قدّمته قبل قليل يكسو ذلك الهيكل العظميّ لحما وشحما وجلدا وقوّة تحمي الهيكل نفسه وتزيّنه. وهو الفقه القيميّ المتعلّق بالقيم الأخلاقية والثّقافية التي تجهّز المسلم بجهاز فكريّ جامع مانع يقيه تسلّلات علمانيّة أو منحرفة بصفة عامّة». نقلت هذا ـ مسرورا وحزينا في الآن نفسه ـ بسبب أنّ أكثر المسلمين يظنّون أنّ ما هو مدوّن في الفقه ـ بالتّعبير السّائد الشّائع ـ كاف للعلم بالإسلام. وعندما يعلم المسلم ذلك فأيّ حاجة له بأن يكون تفكيره إسلاميّا أو غير إسلاميّ؟ الفقه العمليّ لا يضمن هذا ولا يكفله. ولذلك نرى اليوم مؤمنين قانتين كلّ قنوت ولكنّهم يقفون محايدين حيال (طوفان الأقصى) مثلا، أو حيال الإستبداد السّياسيّ أو القهر الإجتماعيّ أو الغزو الفكريّ الذي قد يكون بعضهم فريسة له وهو لا يعلم. تلك جرعة وعي ليست مهمّة فحسب، بل هي أولى ـ بالمنهاج الإسلاميّ ذاته ـ من جرعة فقه عمليّ مكانه متأخّر وليس متقدّما.
بين الدّين والسّياسة وصل وفصل معا
أكثر المسلمين اليوم هم من الطّائفة التي ترى أنّ العلاقة بين الدّين والسّياسة علاقة وصل وطيدة لا تسمح للعقل بالنّفاذ. ويزيدهم أنصاف المتعلّمين جهالة بإستنادهم إلى آيات وأحاديث من مثل قوله سبحانه :﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ﴾(الأنعام: 38) وغير ذلك. سبب ذلك الجهل هو عدم الإطّلاع طلبا للعلم. وهذا الجهل مسؤول عن قيام جماعات إسلاميّة تضاهي (الخوارج) في جهلها رغم إخلاصها. ولكنّ الطّائفة العلمانيّة هي نفسها على ضلال، إذ ترى أنّ العلاقة بين الدّين والسّياسة علاقة فصل كاسحة لا تسمح لأيّ تعليم إسلاميّ ـ مهما صحّ وصرح وأيّده التّنزيل النّبويّ نفسه ـ بالنّفاذ. كلاهما على طرفي نقيض. وكلاهما ضلّ السّبيل الأقوم لفهم الإسلام فهما صحيحا. الطّائفة الأولى من المسلمين يحكون ـ دون وعي منهم ولا قصد ـ التّجربة الغربيّة في معركتها بين الكنيسة ورجال العلم، أي يعيدون التّجربة (التّيوقراطيّة) نفسها، وهو ما جعل بعض الأنظمة توظّفهم لشرعنة حكمها القهريّ. أمّا الطّائفة العلمانيّة العربيّة فهي تعيد التّجربة الغربيّة ذاتها ولكن في الإتّجاه الآخر، أي إستنبات علاقة فصل قهريّة حادّة بين الدّين والحياة في مناخ إسلاميّ قحّ أبا عن جدّ. وبذلك سقطت تجربتهم حتّى عندما تبنّتها دول عربيّة ودعمتها. وطائفة العدول ـ بالتّعبير النّبويّ ـ طائفة صحيحة الفهم مقاومة. ولكنّها صغيرة عددا وضعيفة عدّة. وفي تجربتها أخطاء وأخطاء عوّقت مسيرتها. ذلك هو معنى أنّ الإسلام دين مركّب مزدوج العناصر والمستويات، فيه ما هو عقديّ أو تعبّديّ خاضع إلى نصوص صحيحة صريحة. لا تحتمل عقلانيّة إلاّ بمعنى فهم مقاصدها وتعميق معانيها وتخصيب أبعادها. وفيها ما هو معاملاتيّ ـ بالتّعبير الفقهيّ العمليّ ذاته ـ مبناها كلّه التّعليل والإستصلاح. فحيثما كان العدل كانت وحيثما كان الجور غابت. ومن ذا جاءت فيها أدلة كلية عامّة وليس نصوص مقيّدة. وبين المستويين مستوى ثالث ـ كأنّه حلقة وصل بينهما ـ وهو مستوى الأسرة التي تكافلت فيها النّصوص الجزئيّة مع الأدلّة الكليّة والعامّة.
تلك هي خلاصة العلاقة
وتلك هي معادلة التّكافل ـ فهما وتنزيلا معا ـ بين علاقتي الوصل والفصل معا ممّا جعل الإسلام ـ على خلاف النّصرانيّة ـ متأبّيا عن (تروّم) أخضعت له النّصرانيّة إذ جاءت إلى أوروبا الرّوميّة تريد تنصيرها. ألم يقل الشّاعر : «وكم من ساع سعى ليصطاد فاصطيد». الغرب الفلسفيّ يريد ـ ممّا يريد ـ تغريب الإسلام كما روّم النّصرانيّة ثمّ وظّفها لخدمة أغراضه. الطّائفة العلمانيّة هي جيش ذلك التّغريب. كما يجعل ذلك الإسلام محصّنا ضد (التّيوقراطيّة) التي تدعو إليها طائفة المحرّفين للكلم ظنّا منهم أنّ الدّين والسّياسة لا يتمايز بعضهما عن بعض حتّى وهما تحت السّقف العقديّ ذاته، فلا وصل تامّ الوصل ولا فصل تامّ الفصل، ولا تغريب ولا تيوقراطية، بل زيتونة لا شرقية ولا غربية. لماذا كان ذلك كذلك؟ حتّى يظلّ الإسلام قادرا على إستيعاب كلّ زمان وكلّ مكان وكل جديد. فلا يجمد على قديم فيهجره النّاس ولا يذوب في جديد فيجعله النّاس لهم أهواء لا تشبع وأمزجة متقلّبة.