التجديد الحضاري

بقلم
د. محمد المجذوب
الحضارة الغربية النهايات العدمية.
 تظهر الإشكاليّات الأخلاقيّة والتّمزّقات الاجتماعيّة والتّناقضات الفكريّة، التي أوجدتها أخلاقيّة الحضارة الماديّة الثّنائيّة الأبعاد «الإنسان/العالم» بعيداً عن هدى اللّه سبحانه، كونها رفضت الأخلاقيّة الدّينيّة الإيمانيّة بسبب صورتها المسيحيّة المسيئة للدّين الحقّ، مراهنة على أخلاقيّة أداتيّة تقنيّة منقسمة على نفسها، انتهت إلى تعطيل الأبعاد الرّوحيّة والأخلاقيّة في الإنسان ومعانيها، بعد أن حوّلت الفاعليّة الإنسانيّة من قوّتها الإبداعيّة وطاقتها التّجديديّة الإيمانيّة المتعالية، إلى مجرّد عقل أداتي حسابي يطبّق باسم منطق الأشياء وباسم الموضوعيّة، رقميّة قاحلة تحدّدها الرّياضيّات والإحصائيّات وبرمجيّات الحاسوب. 
والحقّ أنّه ليس ثمّة إمكانيّة معرفيّة أو أخلاقيّة لتجديد أخلاق الحضارة إلاّ بإعادة تجديد المعاني الأخلاقيّة الإنسانيّة بالاستناد على هدي الدّين والمعنى الدّيني، باعتبار أنّ الفكر الدّيني المتجدّد في حيويته الدّافقة يعبّر عن حاجة الإنسان المتزايدة إلى المثل والقيم الأخلاقيّة، وهو الواقع الذي يبرّر الحنين للأخلاقيّة الدّينيّة، لأنّها تبحث في المسائل والقضايا الفلسفيّة الكبرى للإنسان، وتجيب على قلقه الإنساني الوجودي المتلازم والمتزايد مع الحالة المادّية والبعديّة المادّية، كالكرامة والعدالة والمساواة والحقوق، وكيفيّة تحقيق الصّلاح للإنسانيّة، وأسئلة البداية والنّهاية والمصير والمآل ... الخ. 
لأنّ التّصوّرات العامّة للأخلاقيّة الإيمانيّة في الإسلام، تعبّر عن حاجات واقع متجدّد يضجّ بطاقات الإبداع والابتكار، ويسعى للبحث الدّائم عن آفاق إنسانيّة متعالية، لا يتوانى في إظهار بعض الابتلاءات التي تواجه المصير الإنساني في هذه المرحلة المتجدّدة أو تلك من الحياة المعاصرة، باعتبار أنّ غياب الإيمان العميق بوجود اللّه تعالى، كقوّة عليا حافظة لطيفة ورحيمة أي بغياب ما هو إلهي، يؤدّي إلى غياب ما هو إنساني وإلى وجود حالة من قهر القدر والقلق والعصاب الذي يقهر كلّ الإرادات ويقضّ كلّ المضاجع ويضع الإنسان في حالة اغتراب لا حدود لها.
وعندها فإنّ دائرة الاختناق الوجودي المفعم بالقلق والتّوتّر والعصاب، ستتّسع يوماً بعد يوم، ممّا يجب على الإنسان أن يواجه عالما يفيض بالخطر الدّائم. وليس أمام الإنسان إلاّ أن يتكيّف مع هذا الواقع الجديد وأن يتعايش مع هذا الخطر المستمر والألم الوجودي المزمن، كما يتعايش مع أيّ مرض له طابع الاستمراريّة الزّمنيّة. 
بعبارة أخرى، إنّ الحالة الأخلاقيّة الحاليّة التي تقلق مضاجع الإنسانيّة ككل، كما تقلق مضاجع أعلام الحضارة المادّية، توجب علينا البحث عن إنقاذ الحضارة المادّية نفسها بمدّها بالمبدأ المعني الإلهي كمكاملة لبناء النّسق الوجودي التّوحيدي: الإلهي والإنساني والطّبيعي، وبالتّالي تحقيق النّقلة الواعية من مبدأ الأشراك والفصل والاستبعاد والعصاب في الحالة ما بعد المادّية، إلى مبدأ الوحدة والتّكامل والتّوحيد والإيمان والتّواصل الإنساني في الحالة الأخلاقيّة الإيمانيّة، ذلك أنّه - وعلى خلاف الأنظمة الثّنائيّة المغلقة - فإنّ السّياق الأخلاقي ثلاثي الأبعاد «اللّه تعالى» و«الإنسان» و«الطّبيعة»، يبشّر بحالة من الانفتاح الواسعة، وهذا الانفتاح يؤسّس بدوره لمناخ يحفز على الإبداع وينضج بإمكانيات الابتكار والتّجديد في مناحي الحياة الإنسانيّة المختلفة. 
ودلالة ذلك أهمّية البحث في مثال الحالة الأخلاقيّة الإنسانيّة، التي تحقّق التّوافق الرّوحي والاجتماعي والثّقافي والسّياسي والفنّي والفلسفي والاقتصادي والعلمي ... الخ، للإنسان وتحقّق المصالحة بين العقل والرّوح، وبين المظاهر المادّية للحضارة والمظاهر الرّوحية فيها، بين الأخلاقيّة والذّاتية.
والحقيقة أنّه وأمام هذا الواقع لا بدّ أن تتّجه العقول والمجتمعات والنّخب المؤمنة وتتوحّد لإعادة تجديد أخلاق الحضارة الإنسانيّة، باعتبارها يمكن أن تشكّل في توحّدها على هدي المعنى الإلهي، عناصر أساسيّة لواقع إنساني متجدّد يؤدّي إلى بناء حالة أخلاقيّة تواصليّة إنسانيّة جديدة قادرة على توفير الشّروط الحضاريّة اللّازمة لعمليّة إبداع متواصلة وحركة تجديد دافقة في مختلف ميادين الوجود والحياة الإنسانيّة، في سياق أخلاقي تكاملي توحيدي.
 بما أنّ الإيمان باللّه هو وحده الذي يمنح البشر الإحساس العميق بالأمن الوجودي الخلّاق، ويغذّيهم بطاقات وجوديّة خلاّقة تمنحهم الإيمان والاستقرار والسّكينة والقدرة على مواجهة مختلف الابتلاءات الحياتيّة التي تضع الإنسان في دوائر الخوف والقلق، ولأجل هكذا غاية إنسانيّة كريمة، فإنّه يجب التّدخّل لتحقيق الحالة الإيمانيّة، وذلك بإصلاح منظومات التّعليم والمعارف التّربويّة والزّواجيّة والعلميّة والتّكنولوجيّة فضلاً عن إصلاح منظومات قيم مؤسّسة الحكم والولاية والاقتصاد العام في المجتمع ... الخ.