في العمق

بقلم
أ.د.عماد الدين خليل
مدخل إلى بناء العالم في المنظور القرآني (الحلقة الثالثة)
 إنّ بناء العالم بهذا القدر المحكم من الصّياغة، والتي سنواصل متابعتها عبر هذا البحث، لا يمكن بحالٍ من الأحوال أن يَجِيء نتيجة صدفة عمياء، أو طبيعة خرساء، أو سخف طائش، رغم أنّ اتباع المدرسة المادّية الفاجرة هذه يظلّون يردّدون هذا مع أنفسهم ومع الآخرين، ويظلّون يردّدونه حتّى أصبح بالنّسبة إليهم بمثابة الحقائق المطلقة المسلّم بها، والتي لا تقبل، رغم سخفها وفجاجتها، ارتطاماً بطبائع الأشياء، وبنسق الخلق ونواميسه، جدلاً ولا نقاشاً. فماذا عن الأمطار التي لولاها، ولولا استمراريتها في ايصال القطرة العذبة إلى أفواه الناس وضرعهم وزرعهم لما قامت للحياة قيامة؟
نحن نعلم، على مستوى الرّياضيّات والفيزياء، أنّ حدوث ظاهرةٍ ما بمفردها قد يكون وليد الصّدفة التي لا هدف لها ولا غاية ... ولكن عندما تنبني عليها ثانيةً لكي تقودها إلى هدف محدّد، فإنّ الصّدفة تضعف وتغيب وتتلاشى ... فكيف إذا انبنت عليها ثمانية حالات توافقيّة أخرى؟ ألا يتوقّف مؤشّر الصّدفة عند نقطة الصّفر المطلق لكي يسمح للغاية أن تعمل عملها في هذه الظّاهرة المدهشة التي طالما نبّه كتاب اللّه عليها قرّاءه في أكثر من مائة وستين آية أو مقطع قرآني، لكي يتأكّدوا بما لا يسمح لأيّ مجال للجدل والمناقشة، أنّ وراء ظاهرة الأمطار هذه إرادة علويّة قديرة فاعلة مبرمجة، هي التي ترتّب الأسباب على المسبّبات، وتسوق المقدّمات إلى نتائجها المحتومة؟!! وهي ها هنا ايصال الماء العذب للإنسان والحيوان والنّبات على السّواء، بعد جملة من العمليّات الكبرى التي يعقب بعضها بعضاً، والتي في حالة غياب أيّة حلقة منها، ستبوء المحاولة إلى الفشل المحتوم؟!
إنّنا هنا بازاء ثمانية حلقات محكمة الأداء، يقوم بعضها على البعض الآخر، لكي ما تلبث أن تؤول في نهاية الأمر إلى المطلوب والمطلوب هو إدامة الحياة البشريّة والطّبيعيّة بايصال الماء العذب لسقيها وإدامتها، والذي لولاه لتوقّفت عجلة الحياة في أيّام معدوداتٍ ... فها هي ذي الحياة تجتاز آلاف السّنين وهي ضامنة حقّها في الحصول على الماء من لدن خالق السّماوات والأرض، ومبدعها، 9 ...
نقطة البداية تتمثّل في تكوين هذا الخزين الاستراتيجي الهائل من الماء في البحار والمحيطات التي تغطّي خمسة أسداس كرتنا الأرضيّة هذه، فلا يتعرّض للنّفاد أو الجفاف، حتّى لو مضى عليه آلاف السّنين ومئات آلافها، إنّه بحقّ خزين استراتيجي محسوب حسابه في علم اللّه الأزلي ... ومن أجل أن تظلّ أعماق هذا الخزين صالحةً للحياة، فإنّ مياهه المتجمّدة يخفّ وزنها – بإرادة اللّه وحده – لكي ما يلبث أن ترتفع إلى السّطح ويبقى ما دونها في حالته السّائلة ... ولكنّ السّؤال الذي يبرزها هنا : ماذا لو تحرّك هذا الخزين في عمليّات سونامي شاملة كبرى وطغى على السّدس المحسور من اليابسة، ألاّ يعني ذلك غرق الحياة وبوارها في دقائق معدودات؟
ها هنا، وبعد التّخزين الكبير تَجِيءُ موافقة أخرى تنبني عليه ... إنّها (التسكين) الذي طالما حدّثتنا عنه آيات القرآن الكريم : ﴿وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً﴾(الفرقان:53)،﴿... وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً ...﴾(النمل:61)،﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ*بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ﴾(الرحمن:19-20). إذن بعد عمليّة التّخزين الكبير تَجِيءُ عمليّة التّسكين المدهش الذي يلجم مياه البحار والمحيطات عن أن تتحرّك وتثور وتطغى على اليابسة فتقضي على الحياة ... هذا إلى دقّة وإحكام التّوزيع الحراري للكرة الأرضيّة الذي يحمي الكتل القطبيّة من الذّوبان والطّغيان على اليابسة.
ونحن نعلم أنّ الماء السّاكن سرعان ما يتعرّض للفساد، ويصبح بيئة صالحة للعفن ولأنواع لا تحصى من الميكروبات التي بمقدورها أن تغزو اليابسة وأن تدّمر الحياة على الأرض في مدياتٍ زمنيّة قصيرة وقصيرة جداً ... وهنا تَجِيءُ العمليّة الثّالثة (التّمليح) : وضع الملح في مياه البحار والمحيطات لحفظها من الفساد، حتّى لو مضى عليها آلاف السّنين ... فأيّة صدفة هي تلك التي ترتّب الأسباب على المسبّبات، فتخزن وتسكن وتملح وفق ترتيب قصدي تديره إرادة عليا وتغيب فيه أيّة صدفة على الإطلاق؟
ولكن ماذا عن تحويل هذا الماء المالح الذي لا يمكن شرابه إلى ماء عذب صالح للشّرب والسّقي والاستخدام اليومي؟ ها هنا تنبني عمليّة رابعة على مسار الظّاهرة، وهي عمليّة (التّبخير) التي تفكّ الارتباط بين ملوحة مياه البحار والمحيطات وبين عذوبتها، بتسليط قدر مناسب من الحرارة على سطح هذا الخزين الهائل من الماء وتحويله إلى حالة بخاريّة خفيفة تمكّنها من الارتفاع إلى فضاء البحار والمحيطات وقد رشح منها ملح البحار؟!
فمن الذي وضع الشّمس، هذا الفرن الذرّي المتفجّر منذ آلاف السّنين، والموضوع في مكانه المناسب تماماً من الأرض، والذي يدفع إليها بالنّسبة المعقولة من الحرارة لكي تمارس عمليّة التّبخير، فضلاً عن إسهامها في عمليّة التّمثيل الكلوروفيلي الذي تتشكّل بموجبه الثّمار والبذور والتي بدونها لن تتمكّن الحياة من الاستمرار لأسابيع معدودات؟ ومن الذي وضع الأرض في مكانها المناسب من الشّمس؟ فلو أنّها ابتعدت عنها قليلاً لتجمّدت الحياة وقضي عليها، ولو أنّها اقتربت منها قليلاً لتعرّضت للاحتراق؟
ولكن، رغم هذه العمليّات الأربع، لم يصل بعد شيء من الماء العذب إلى الإنسان وإلى ضرعه وزرعه... هنا تَجِيءُ العمليّة الخامسة بإرادة اللّه وحده : (التّحريك) وذلك بتسخير الرّياح لتحويل هذا الكم الهائل من البخار المعلّق في سماوات البحار والمحيطات، إلى سماء اليابسة، استعداداً لنزول المطر، وإذا بنا نجد أنفسنا قبالة رياح تتشكّل وتتحرّك باتجاهات مختلفة، تذكّرنا بآليّات المكائن والأجهزة الميكانيكيّة التي تتحمّل مسؤوليّة الحركة ذات اليمين وذات الشّمال، وإلى أعلى وإلى أسفل... فهناك الرّياح الموسميّة، والعكسيّة، والتّجاريّة والاعصاريّة ... و... و... تندفع بكلّ اتجاه لكي تمارس مهمّتها بالعدل والقسطاس فتوزع السّحب على أكبر قدر من اليابسة(1)... ولكن، مرّةً أخرى، فرغم هذه العمليّات الخمس، فإنّ النّاس وضرعهم وزرعهم لم يتلقوا بعد شيئاً من الماء العذب الذي يديمون به حياتهم ويقضون حاجاتهم. فما تلبث الحلقة السّادسة أن تَجِيء : تحويل الحالة البخاريّة للماء المعلّق في سماوات الأرض القريبة، إلى حالة سائلة، بتلقيح السّالب بالموجب وتشكيل القطرات العذبة الثّقيلة التي تشدّها جاذبيّة الأرض إلى التّساقط مطراً على الأرض:﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ﴾(الحجر:22).
إنّ بيت القصيد في الحلقات الثّماني هو (المطر)، فهو الذي طالما وصفه القرآن الكريم بأنّه يحيي الأرض بعد موتها، ويسقي الأناسيّ والأنعام والزّرع، ويخرج الثّمرات المختلفة الألوان، ويمنح الرّزق للعباد، ويزين الحياة الدّنيا، وينبت الحدائق ذات البهجة، ويبدع الأزواج من شتّى الصّنوف، ويفتح على النّاس البركات، ويملأ ساحات العالم بالخضرة الواعدة ويُنْشِئُ جنات النّخيل والأعناب والحبوب والزّيتون والرّمّان؟
والآن، فإنّ تكنولوجيا العالم كلّه، على تقدّمها الأسطوري المدهش، لا يمكن أن تقوم مقام الصّنع الإلهي بإنزال المطر بهذا الكمّ الهائل الذي يغطّي مساحات الأرض ... ولقد جرت محاولات في هذا السّبيل ولكنّها في نهاية الأمر لم تأت بطائل على الإطلاق. ومن ثمّ كان الإذعان لأمر اللّه سبحانه وتعالى حتّى من أشدّ النّاس كفراً ومروقاً :﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴾(العنكبوت:63). ﴿أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ*أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ* لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ﴾(الواقعة: 68-70).
في الحلقة الثّامنة من هذا المسلسل المدهش ينقسم الماء النّازل من السّماء مطراً ولحكمة اللّه ورحمته بعباده إلى ثلاثة أقسام كي لا يذهب هدراً إلى البحر: يمضي قسم منها ليشكّل الأنهار ويغذّيها بالماء، ويمضي القسم الآخر إلى باطن الأرض وتجاويفها لكي يخزن هناك، ثمّ ما يلبث أن يتدفّق آباراً ومجاري وعيوناً لتلبية حاجات الإنسان، بوسيلة آليّة أو بغير ما وسيلة، إنّها ما يسمّيه الجيولوجيّون وعلماء الرّي:(المياه الجوفيّة) التي تعين الأنهار على تأدية وظيفتها الأساسيّة في إدامة الحياة(2).
يقول رئيس قسم الجيولوجيا ( طبقات الأرض ) في كلية العلوم بجامعة الموصل عن آخر كشف لعلماء الجيولوجي: إنه جدار طيني، غير مسامي، عازل، وهو الجدار الثالث لمخازن المياه الجوفيّة، والذي يمنع تسرّب قطرةً واحدةً من الماء في التّجاويف الأرضيّة، ويحمي هذا الخزين العجز لحين الإفادة منه في إدامة الحياة، حيث قد لا تكفي، أو تصل مياه الأنهار إلى كلّ بقاع الأرض. فكأنّه بذلك يؤكّد الآيات الأربع التي تتحدّث عن هذه الظّاهرة المدهشة : ﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ ﴾(الحجر:22)،  ﴿أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً ﴾(الكهف:41)،  ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ﴾(المؤمنون:18)، ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ﴾( الملك:30).
وأما القسم الثّالث من مياه الأمطار النّازلة من السّماء فيذهب إلى أعالي الجبال والمناطق الباردة حيث درجات الحرارة المنخفضة تسوقه إلى التّجمّد في كتل هائلة، تمثل هي الأخرى خزيناً دائماً يتدفّق مجاري وشلالات لكي يغذّي الأنهار في مواسم الحرّ والجفاف والصّيهود ينخفض مستواها من جهة، ويتعرّض الثّلج المتجمّد للذّوبان من جهةٍ أخرى.
فيا سبحان اللّه على هذا الإحكام في واحدة فحسب من الظّواهر الطّبيعيّة والذي تنتفي معه الصّدفة رياضيّاً وفيزيائيّاً بأيّ شكل من الأشكال، وتتأكّد الغائيّة التي تسوق الظّاهرة عبر مراحلها المتعاقبة المبنيّة بعضها على بعض بإرادة فوقيّة إلى هدفها المرسوم.
والآن، وبعد أن اكتمل معمار العالم عبر الزّمن المتطاول الذي اجتازه، وخلق اللّيل والنّهار، والشّمس والقمر، والبحار والجبال الرواسي، ومهّدت الأرض، وأنزلت الأمطار، يجيئ الدّور على إطعام الجوعى، وتقديم أطباق الفواكه والأثمار، وتنويع هذه الأطباق، والسّخاء في توفيرها للنّاس والحيوان، والتّفنّن في طعومها وأشكالها وألوانها، وفي عرضها سائغةً لكلّ جائع، معروضةً لكلّ طالبٍ، فلا تشح ولا تغيب ... ها هي الآن تعرض نفسها لكلّ من يريد ... هيّنةً ليّنةً ... إنّها مرّةً أخرى صنع اللّه الذي أتقن كلّ شيء، وسخاؤه الكبير الذي ما له من حدود ... فما من كائن على هذه الأرض، ولا من دابّةٍ إلاّ وعلى اللّه رزقها ... فهو 9 يضرب بعمله الجليل هذه النّظريات الوضعيّة التي تقوم على الظّن والهوى والتّخمين، بما فيها نظريّة «مالثوس» التّشاؤميّة التي قال فيها بأنّ اليوم الذي سيغيب فيه التّناسب بين الانفجار السّكاني وحاجة النّاس للغذاء سيَجِيءُ طال الوقت أم قصر، فيما يقود الحياة البشريّة إلى البوار.
مع هذه الأطباق السّخيّة التي ما لها من نفاد، ومن ورائها يد اللّه القدير والمبدع 9، فليس ثمّة ما يوحي بانعدام التّكافؤ بين النّاس وبين ما يمكنهم من مواصلة الحياة.