رسالة فلسطين

بقلم
أ. د. محسن محمد صالح
استئناف مشروع التحرير.. وليس العودة لحظيرة التسوية(*)
 من أبرز المظاهر السّياسيّة الغربيّة والإسرائيليّة التي يُتابعها المراقب باشمئزاز؛ ذلك النّقاش حول المشاريع والحلول المفترضة لمستقبل قطاع غزّة في حالة التّخلّص من «حكم حماس» بحسب زعمهم.
محاولات تطويع وكسر إرادة:
يَنصَبُّ الحديث حول كيفيّة تطويع القطاع، وكيفيّة ضمان أمن الكيان الإسرائيلي، وكيفيّة منع حماس وقوى المقاومة من العودة للحكم، وكيفيّة استيعاب عمليّة تهجير قسريّة محتملة لأبناء غزّة، وكيفيّة استعادة الكيان لقوّة الرّدع، وللصّورة المصطنعة التي حاول رسمها عن نفسه في السّنوات الماضية، بعد أن فضح عدوانُه على غزّة مدى وحشيّته وبربريته ودمويّته.
العقل الغربي منشغلٌ في كيفيّة إعادة الفلسطينيّين إلى «الحظيرة» وليس في كيفيّة تحريرهم منها، منشغلٌ في كيفيّة إطالة أمد معاناتهم، وتجاهل أبسط حقوقهم، وفي كيفيّة إطالة أمد الاحتلال والقهر الصّهيوني، وفي شرعنته وتوسيعه وترسيخه.
وهكذا، وبعد ثلاثين عاما من الاستعمار البريطاني و75 عاما من الاحتلال الصّهيوني، وبعد 105 أعوام من القمع والقهر والمعاناة، ومن الصّمود والانتفاضات والثّورات الفلسطينيّة.. لم يتغيّر التّجاهل الغربي للحقوق الطّبيعيّة للإنسان الفلسطيني.. ولم يتقدّم إيجابا بشكل جاد، ولو حتّى لأنصاف الحلول التي تبنّوها سابقا ووافقت عليها قيادة منظّمة التّحرير والأنظمة العربيّة، مثل «حلّ الدّولتين» بكلّ ما فيه من عَسفٍ وظلمٍ للشّعب الفلسطيني؛ بل قاموا بتوفير الغطاء الذي يحتاجه الكيان للتّهرب من هذا الحلّ، وللاستمرار في برامج التّهويد والاستيطان في القدس والضّفة الغربيّة، حتّى سقط هذا الحلّ، وشارف الصّهاينة على إغلاق الملف الفلسطيني، بالتّعاون مع القوى الغربيّة ومع الأنظمة العربيّة المُطبِّعة.
الحلول المعروضة كلّها كانت تحاول فقط إيجاد بعض «الإغواء» لأطراف فلسطينيّة وعربيّة للاستمرار في مسارات ضبابيّة، لا تحمل أفقا حقيقيّا ولا التزامات قاطعة، وهو استمرار لا يخدم إلاّ الاحتلال، ولكنّه يوفّر كافّة عناصر التّفجير والثّورة في وجه الاحتلال وفي وجوههم.
أمّا الرّسالة الأساسيّة لمعركة طوفان الأقصى، ولأقوى ضربة تلقّاها الكيان الصّهيوني منذ إنشائه قبل 75 عاما، فهي أنّه لا يمكن تجاهل الإنسان الفلسطيني ولا يمكن تطويعه، وأنّ المقاومة قادرة على قلب الطّاولة، وعلى فرض معادلتها عربيّا وإقليميّا ودوليّا، وأن تعيد الملفّ الفلسطيني ليتصدّر الأجندة العالميّة؛ وأنّ نظريّة الرّدع والأمن الصّهيوني نظريّة ساقطة، وألاّ نجاح لمسارات التّطبيع، وألاّ أمن ولا استقرار لتجمّعات المستوطنين في فلسطين المحتلة، على حساب حقوق الشّعب الفلسطيني ودمائه وأشلائه..
مشاريع إدارة القطاع:
المشاريع المطروحة لما يسمّيه الصّهاينة والقوى الغربيّة مرحلة «ما بعد حماس»؛ يتحدّث أحدها عن وضع قطاع غزّة تحت إدارة عربيّة مؤقّتة من دول مُطبّعة توافق عليها أمريكا، مثل الإمارات والسّعوديّة ومصر والأردن، مدعومة بقوات أمريكيّة وفرنسيّة وبريطانيّة وألمانيّة، ويتحدّث ثانيها عن وضع غزّة تحت إدارة مؤقّتة للأمم المتّحدة، ويتحدّث ثالثها عن محاولة إيجاد إدارة فلسطينيّة داخليّة من وجهاء القطاع وأبنائه، بمساعدة الأونروا، وقوّات حفظ أمن مصريّة وأردنيّة وإماراتيّة وبحرينيّة ومغربيّة، ويقترح أن يقود القوّات مغربي بحكم أنّ البعد الجغرافي يعطيه أفضليّة ليكون أكثر قبولا.. ويتحدّث رابعها عن حكم إسرائيلي مؤقّت بانتظار تحقّق الشّروط الإسرائيليّة، بينما يدعو سيناريو صهيوني مسرّب عن المخابرات الإسرائيليّة كحلّ خامس إلى تهجير سكان قطاع غزّة إلى مصر ومنع عودتهم باعتبار ذلك حلاّ جذريا لـ «مشكلة غزّة»، وفرض توطينهم على مصر والبلدان التي يمكن أن تستقبلهم. ويدعو حلّ سادس لاستلام سلطة رام اللّه حكم غزّة؛ غير أنّ الجميع يدرك أنّ السّلطة التي تقدّم نفسها سلطة وطنيّة لا تقبل أن تظهر وكأنّها جاءت على ظهر دبابّة إسرائيليّة. لذلك تميل معظم الاقتراحات إلى مرحلة انتقاليّة (سنتين أو ثلاثة) لترتيب أوضاع القطاع، تحت إدارة لا تكون حماس جزءا منها؛ بل تسعى لتصفية نفوذ حماس في الوزارات والمؤسّسات والمواقع المؤثّرة.
مشاريع مرفوضة وساقطة:
هذه المشاريع مرفوضة وساقطة، ولا تملك أقداما تقف عليها، ولا بيئة نجاح، لعدّة أسباب، أوّلها أنّ هكذا مشاريع تحتقر الإرادة الفلسطينيّة، ولا تحترم حقّ الشّعب الفلسطيني في اختيار قيادته، وتريد أن تفرض عليه قيادة وفق المواصفات والمعايير الصّهيونيّة الأمريكيّة؛ وتريد أن تبقى وصيّة عليهم. وهي عقليّة متعجرفة متخلّفة ما تزال تعيش أوهام الهيمنة والتّطويع والإخضاع التي ثبت فشلها على مدى السّنوات المائة الماضية. والشّعب الفلسطيني شعب واعٍ ناضج مُضحٍّ سيواصل نضاله وتضحياته حتّى يفرض إرادته.
وثانيها، أنّ بعض هذه المشاريع يتحدّث بشكل غامض عن ضرورة وجود أمل للفلسطينيّين، لكنّه لا يلزم نفسه بشيء ولا يسعى لإلزام «إسرائيل» بشيء، بمعنى أنّها تسعى إلى إعادة الوضع إلى سابق عهده من التّيه والضّياع، وإبقاء الفلسطينيّين داخل «الحظيرة» وتحت السّيطرة.
والسبب الثّالث أنّ حماس فكرة وأيديولوجية لا يمكن القضاء عليها، وهي مشروع إسلامي لفلسطين يحشد الأمّة وليس الشّعب الفلسطيني فقط نحو فكرة التّحرير، وأنّ شعبيّة حماس وتجذّرها الفلسطيني والعربي والإسلامي واسع وعميق، وأنّ كل محاولات الاجتثاث والحروب السّابقة لم تزد حماس إلّا قوّة واتساعا، وأنّ خطّ المقاومة بات هو الخطّ الذي يعبّر عن الوجدان الفلسطيني الذي يلتفّ حوله أكثر من 80 في المائة، وأنّ هذه الحرب ستزيده مصداقيّة واتساعا، في الوقت الذي سقط فيه مسار التّسوية وبرنامجه.
والسّبب الرّابع أنّ نظريّة الرّدع الإسرائيلي لم تعد قائمة، وأنّ المشروع الصّهيوني بات يواجه أسئلة وجوديّة متعلّقة بأمنه واستقراره، وقدرته على لعب أدوار حقيقيّة كبيرة في المنطقة (دور الشّرطي مثلا)، وأنّ الانتقام الوحشي الإسرائيلي والمذابح التي طالت آلاف الأطفال والنّساء، وتدمير المدارس والمستشفيات والمساجد والكنائس، لن تكون إلاّ وقودا للثّورة، ولن تكون إلاّ سببا في توسيع الرّغبة في الانتقام ومتابعة مشروع التحرير.
أمّا السّبب الخامس فهو أنّ المعركة ما تزال في أوجها، وما زالت المقاومة تقدّم أداء قويّا، وما زالت الحاضنة الشّعبيّة متمسّكة بالصّبر والتّضحية والثّبات؛ وأنّ الاحتلال الإسرائيلي لن يستطيع فرض إرادته على شعب مقاوم، ولعلّه يتلقى انكسارا كبيرا يضاف إلى ضربة 7 تشرين الأول/ أكتوبر. ولهذا فإنّ حكومة الاحتلال مسكونة برعب الفشل في عدوانها على القطاع، لأنّه سيعني بداية العدّ العكسي لهذا الاحتلال.
وسادسا، فإنّه يجب النّظر إلى هكذا مشاريع واقتراحات كجزء من الحرب النّفسيّة التي يمارسها الاحتلال وحلفاؤه الغربيّون، وأنّها ستتحطّم على صخرة المقاومة، كما تحطّمت عشرات المشاريع الفاشلة التي حاولت فرض إرادة الاحتلال على مدى عشرات السّنوات.
وأخيرا، فإنّ الشّعب الفلسطيني ومعه الأمّة مصمّمون على تحرير فلسطين، وإنّ كلّ محاولات تطويعهم أو إخضاعهم أو وضعهم في «حظيرة التّسوية» مصيرها إلى مزبلة التّاريخ.
(*) تمّ نشر أصل هذا المقال على موقع «عربي 21» ، 11/11/2023.