مرايا

بقلم
أ.د.احميده النيفر
الديني والسياسي في نصوص تونسية معاصرة من مذكرات الشيخ محمد البشير النيفر ومراسلاته مع الزعيم الحبيب
 في ترابط الذاتي بالموضوعي
تربطني بالشّيخ محمد البشير النّيفر علاقة قرابة وطيدة لكوني حفيده الأول الذي حظي بموقع القرب الخاصّ الذي تمتزج فيه المحبّة والعناية بالعطاء والتّواصل، ممّا كان له أدوم الأثر في نفسي وأشدّ الفعل في عقلي. من هذه العلاقة الحميمة التي تشابكت فيها عناصر عدّة تظلّ أمامي شخصيّة الشّيخ محتفظة بحضور تعسر مغالبته، حضور أحسب أنّه مكّن له مقاما لدى الكثيرين ممّن عرفهم سواء اتفقوا معه أم اختلفوا. ما يجعله في عيني متميّزا عن أكثر من عرفت من الأقارب والأساتذة وشيوخ العلم، هو تلك الشّخصيّة التي تعكسها حركاته وسكناته، نظراته ونبرات صوته، هدوؤه وغضبه، معالجته للمسائل العادية فضلا عن الخطيرة. من جملة هذه الأمور ومن غيرها كان يصدر عنه نوع من الوقار لا يكاد يفارقه بما يجعل الذين يعايشونه يشعرون إزاءه بحرج شبه دائم أو تقصير لا يعرفون له سببا محدّدا.
خصوصيّة علاقتي بالشّيخ في جانبها الذّاتيّ تتمثّل في هذه الصّلة التي تجذبك إليه بقوّة لكنّها تُملي عليك ألاّ تتجاوز حدّا معيّنا في القرب منه. في هذا النّوع من العلاقة يمتزج الحبّ بالخشية والتّقدير بمراقبة النّفس بما يتيح لتلك العلاقة أثرا مستمرّا لا تزيده الأيام إلاّ فاعليّة ونفاذا.
لكلّ هذا يكون العامل الحاسم الذي دفعني اليوم لإنجاز هذا الكتاب(1) هو الاقتناع بأنّه لا معنى للفصل بين الجانب الذّاتي وما ينبجس عنه من بناء فكري عقلاني.
ما استوقفني حين قرأتُ مذكّرات الشّيخ وكتاباته وأمعنت النّظر فيها لنشرها بالعودة إلى ما باشرته بنفسي في صلتي به متعرّفا على صميم شخصيّته ومواقفه الجليلة والدّقيقة انكشف الجانب البارز من شخصيّة الشّيخ البشير بتعبيراتها المختلفة والمتفاعلة. أهمّ ما في هذا الجانب هو ما يمكن تسميته: طبيعة نظرته للحياة والنّاس وما تورثه لدى أقرانه ومعارفه من أثر بالغ ممتد في الفكر والسّلوك.
قراءةُ الوثائق من هذا المنظور تفيد تكاملا بين الجانبين الذّاتي والموضوعي بما يستبعد تناقضهما. هي الرّابطة التي تُكسِب الجانبَ العقلي عمقا ً وموضوعيّة ً لا مندوحة عنهما لما تقتضيه مصداقيّة الاعتبارات العاطفيّة. الذّاتي يصبح عندئذ رافعة قويّة لخطاب العقل بتسديده وتحييده عن مبالغات التّهويل التي توهن من جدارة الشّخصيّة ومن قيمة البحث وسداده.
تناظرٌ مفصليٌّ
يعرض هذا الكتاب لشخصيّة الشّيخ محمد البشير النّيفر (1306-1394هـ/ 1889-1974م) من خلال بعض الجوانب من حياته العامّة والعلميّة معتمدا في ذلك بالأساس على جملة من النّصوص المخطوطة التي سجّلها الشّيخ بنفسه والتي تتّصل بالسّنوات التي سبقت حصول تونس على الاستقلال السّياسي وما صاحب ذلك من تحوّلات هامّة داخليّة وفي عموم البلاد العربيّة. 
تعود أهميّة هذه النّصوص من مذكّرات الشّيخ وأبرز مراسلاته خاصّة مع الزّعيم الحبيب بورقيبة في كونها تُنشر لأوّل مرّة من جهة ولأنّها تضيء جانبا من مرحلة مفصليّة من التّاريخ المعاصر لتونس.
في مستوى ثانٍ كنتُ في سعيي إلى تقديم مقاطع من حياة الشّيخ وشخصيته أعمل على تحديد أهمّ مواقفه واختياراته في الفترة التي فصلت بين الحربين العالميتين وما تلا ذلك في خمسينات القرن العشرين وستيناته قصد الرّبط بين أفكار الشّيخ ورؤيته وبين المؤسّسة الدّينية التي نشأ فيها ثمّ عمل ضمنها في أزمنة شهدت تغييرات غير مسبوقة في طبيعتها وتسارعها وامتدادها. 
ما أردته من ذلك هو التّعرّف على الرّجل عبر حركة المؤسّسة الزّيتونيّة العريقة بما تعنيه من قيم وضوابط ونوع التّوجّهات التي تعتمل داخلها وتحكم فكرها في عقود اضطراب شديد وانقلاب حاسم. هو عرض لشخصيّة الشّيخ مُـنزَّلا في مفصل رئيسي من مفاصل مجتمع جائش وفي علاقته برمز الحركة الوطنيّة، الزّعيم الحبيب بورقيبة، ضمن المسيرة التّحرّرية المندفعة في إحاطتها برؤى جيلي والذين جاؤوا بعده وبمصائرهم. من هذه المقابلة المركّبة بين الشّخصيتين تبرز علاقة النّخب المحافظة بنظرائها الجدد الصّاعدين في صلة بالمؤسّسة الزّيتونيّة وما كان يعتمل فيها من حراك يهدف استعادة مركزها الاجتماعي الثّقافي والفكري القانوني. 
عندما نقرأ شخصيّة الشّيخ من هذه الزّاوية يمكن التّثبّت من حال المؤسّسة الدّينية في تونس ودرجة تطوّرها عشيةَ اتخاذ القرار السّياسي بإيقافها عن النّشاط باسم تحديث الحياة الاجتماعيّة والتّعليميّة والقضائيّة في البلاد.
حين يندثر التّقليد ويغيب التّأسيس الفكري
وراء كلّ هذا يتبدّى لنا مستوى ثالث يتعلّق بإشكاليّة الدّولة الحديثة وخطاب التّحديث السّياسي في مواجهة خطاب تديّني ذي توجّه محافظ لا يتردّد في الإحالة على التّجربة التّاريخية وقيمها بما يمكن أن يُفهَم أنّه رفض لفكرة التقدّم كما جسّدتها الزّعامة السّياسيّة لتونس الحديثة. في هذه المواجهة تؤكّد الوثائق أنّ الشّيخ البشير النيفر يقف على خط تماسٍّ بين عصرين ورؤيتين تفصل بينهما تصوّرات مختلفة للعالَم والتّاريخ والثّقافة بما يُفضي إلى اختيارات سياسيّة واجتماعيّة متباينة.    
ما تبرزه لنا هذه الإشكاليّة في مستواها المُعلن هي مواجهةٌ سياسيّة بين عالِم محافظ وزعيم تحديثي، لكنّ الأهمّ أنّها تكتنز في بعدها الثّقافي حالة استقطاب حادّ انخرطت فيها النّخب التّونسيّة المختلفة بعد أنْ سادها طوال عقود من الزّمن قدر كبير من الانضواء الثّقافي الاجتماعي. 
في هذا كان التّحوّل في تونس لافتا للنّظر مقارنة بماضيها القريب وبما كان يجري في الأقطار العربيّة الأخرى. لقد بلغت العلاقة بين النّخب التّونسيّة مع هذا الاستقطاب مرحلة حديّة فاصلة لم يكن رجال من أمثال الشّيخ محمد البشير النّيفر من السّاعين إليها.
أختار الزّعيم والنّخب التّحديثية إقحام النّخب المناظرة لها في مفاصلة ما كانوا يريدونها ولا عملوا من أجلها، لا أدلّ على ذلك من مراسلات الشّيخ التي تُعتبر شهادة على نوع من التّضامن المشروط والتّأييد النّقدي. مع هذا فإنّ شهادة الشّيخ تثبت أنّ الطّرف التّحديثي في هذه المناظرة «التّاريخيّة» كان، رغم إدراكه للخلل الكبير في موازين قوى الجهتين المتقابلتين، حريصا على المواجهة ومُصِرّا على حسمها لصالحه. 
لا غرابة إن أدّى هذا التّناطح إلى تفكّك المؤسّسة الدّينيّة واندثار البنية التّقليديّة برمّتها دون عنف لكن دون أيّ نقاش فكري قادر على تطوير نظريّة في الحكم أو ارتقاء جدّيّ في المنظومة السّياسيّة وفي قاعدتها القيميّة والثّقافيّة.
لذلك فإنّ متابعة مراسلات الشّيخ ومذكّراته شهادة على تحوّل خطيرٍ في معناه هزيلٍ في أبعاده لأنّها أظهرت لنا صورة لمعركة فاصلة دون مواجهة حقيقيّة، ذلك ما جعل تلك المواجهة غير تاريخيّة فعلا لأنّ التّساؤل ظلّ معلّقا كما بقيت المعالجة مؤجَّلة.
 معضلة الدولة دون تعالٍٍ أو تحيّز 
من ثمّ فجملة هذه الوثائق تُفضي في ضوء ما سبق إلى طرح أسئلة عديدة متعلّقة بقيام الدّولة القطريّة الحديثة.
 - هل كان الاستقطاب النّخبوي ضروريّا لتأسيس الدّولة الجديدة؟
- هل كان ممكنا تجنّب تفكّك كلّ مؤسّسات المجتمع التقليدي لقيام الدّولة القطريّة الحديثة؟ 
- هل كان هذا الاختيار «الثّوري» في سياقه التّاريخيّ أم كان إسقاطا متعسّفا يرفض الإصلاح المتدرّج؟ 
- أليس في الإعراض عن سياسة المراحل المعتَمَدة في أكثر من طور مغامرةً بمستقبليّة قيمتي التّقدم والحريّة في مجتمع متعطّش لهما تحديدا؟
- ما هي طبيعة العلاقة بين السّياسي والدّيني في مجتمع حديث ما تزال ثقافته تؤرّق فكره ورؤيته؟
هكذا كانت مقاربتي لجانب من مذكّرات الشّيخ: فيها إحياء لذكرى شخصيّة هي رمز لجيل من الوطنيّين الزّيتونيّين الذين وقع تهميشهم وإغفال لشأنهم مقابل قامة سياسيّة تحديثيّة لا ترى للقديم أيّ موقع يُذكر في المشروع الجديد. 
في هذا سعيٌ لإعادة الاعتبار المُراجع للتّاريخ المعاصر بالتّعريف بنموذجين تونسيين دالَّين وبمؤسسة عريقة بما يسلّط الضّوء على إشكاليّة السّياسة والدّين في طبيعتها كما طُرحت في قطر عربي إسلامي في الفترة المعاصرة. 
تقترح هذه المقاربة قراءةً لعلاقة السّياسي بالدّيني في مجتمع يواجه مستجدّات سياسيّة واجتماعيّة وثقافيّة ذات طابع كونيّ. مثل هذه المحاولة بدت ممكنة لتوفّر فاصلٍ زمنيٍّ كافٍ يتيح إعادة النّظر في الأحداث الكبرى دون تعالٍ مزيّف أو تحيّز عقيم. 
ثم إنّي، في التّعريف بالرّجلين وبالمؤسّسة التي كانت تصوغ فكر النّخب وعملها، حرصت على أن أفِي بحقّها دون مجازفة أو تقصير.  لذلك قدّمت نصوص الشّيخ غير المنشورة في قسم منفصل إلى جانبه قراءتي الخاصّة لتلك الوثائق. لم يكن لي في الجانب الأوّل من أثر سوى الاختيار والتّرتيب تاركا للقارئ أن يستفيد منها كما يعنّ له.  
أمّا فيما أثبتُّه من مقاربة خاصّة في القسم الثّاني ففيه من التّعبير الشّخصي عن آية التّقدير الذي لا ينقطع لذكرى الشّيخ وثباته على ما يراه حقّا إلى جانب حرص موضوعي أكيد على فهم الزّعيم في سياقه الوطني والغربي وأثر هذا وذاك على المؤسّسة الزّيتونيّة وخطابها الدّيني وواقع حركتها في المجتمع.
أسئلة عالقة لطور جديد
ما انتهيت إليه ليس مجرد عرض وتوصيف لأحداث تاريخيّة فحسب؛ إنّه بحثٌ يعيد النّظر في علاقة العالم بالزّعيم ضمن مساءلات الواقع العربي الإسلامي القائم حاليّا. هو بذلك مساهمة في مباشرة قضايا تجديد الخطاب الدّيني من جهة والفكر السياسي العربي من جهة أخرى.
غاية المرام في الحديث عن العالم والزّعيم هو الإجابة عن سؤال: هل يمكن الخروج من دوامة التوظيف المتبادل بين السّياسة والدّين وكيف؟ 
 ليس لدينا جواب مُسبق وكامل عن هذا السّؤال اللّهم إلاّ اعتبار الأهمّية التّاريخيّة والموضوعيّة للدّين والسّياسة وأنّهما مستويان من مستويات حيويّة المجتمع وقدراته الإبداعيّة كما أنّهما يعتبران بُعدين من أبعاد المعرفة والعمل الإنسانيّين. 
الهوامش
(1) «العالِم والزعيم، المؤسسة الدينية في تونس: سنوات الاحتضار»،
المؤلف : الأستاذ الدكتور احميده النيفر ، دار النشر: مركز نماء للبحوث والدراسات
السلسلة: دراسات تاريخية، تقديم : د محمد ضيف الله ، سنة النشر 2022، حجم: 24×17