نافذة على الفلسفة

بقلم
أ.د. عبدالرزاق بلقروز
من عقلانية الحداثة الغربية إلى عقلانية الإيمان التوحيدي: نحو حداثة إسلامية متصلة (4-5)
 من حدود عقلانيّة الحداثة الغربيّة إلى العقلانيّة التّوحيديّة:
 في التّأسيس لحداثة إسلاميّة بديلة
قد يستشكل المتلقي هذا المرور عبر مساءلة قيمة العقلانيّة الحداثيّة، في حين كان من الأسلم -منهجيّاً- الولوج مباشرة إلى رهاننا الذي أعلنّا عنه، ويحمل عنوان «التّأسيس الإيماني للعقل». وهذا القلق أو الاستشكال مشروع لو كانت الحضارة الإسلاميّة قائمة اليوم، وتعيش في عالم منفصل عن غيرها من الحضارات الأُخرى، وتُفكِّر نخبتها من مرجعيّاتها الحضاريّة، وبما تحتويه من رؤية إلى الوجود، ورؤية إلى المعرفة، ورؤية إلى نظام القيم، وفُعِّلت هذه المنطلقات التّأسيسيّة تفعيلاً حضاريّاً في عناصر الثّقافة برمّتها (القانون، الأخلاق، السّياسة، الفنّ، العمارة).
أمّا وأنّ الأمّة الإسلاميّة تعوزها هذه المواصفات، التي ترفعها إلى مرتبة التّأهيل الحضاري، فإنّ المرور عبر مساءلة قيمة العقلانيّة الحداثيّة الغربيّة من أجل الارتكاز على الرّؤية الإيمانيّة في صوغ مرجعيّة العقل يجد مُبرِّراته -فضلاً عمّا ورد في مقدّمة هذه المقالة البحثية- فيما يأتي:
- «إنّ المعرفة التي يتمّ الآن نشرها في العالَم بصورة منهجيّة منظّمة ليست بالضّرورة معرفة حقيقيّة وصحيحة، ولكنّها معرفة مصطبغة بخصائص ثقافة الغرب وحضارته، ومُشربة بروحها، ومكيّفة وفق غاياتها، وإذن فهذه العناصر هي التي يجب تشخيصها، وفرزها ثمّ فصلها وعزلها عن هيكل المعرفة ومادّتها بحيث تميّز المعرفة ممّا أُشرب بتلك العناصر»(1).
- إنّ النموذج الحضاري العقلاني الغربي لم يحافظ على بريقه الأوّلي الذي انبجس به؛ لأنّ ثمّة دعوات وأصوات ارتفعت «من داخل الحضارة الغربيّة، وهم أهلها والعارفون بأسرارها وخباياها، تدعو إلى تصفية النّموذج الغربي من سيادة العقل والعلم الذي تحكمه قوانين المادّة والتّجريب الإمبريقي، ومن سيادة القيم المادّية المسيطرة عليه، قيم السّوق ورأس المال؛ والتّفتّت والتّشرذم والتّراجع المهول للقيم الرّوحيّة ممّا أوصل الحضارة الغربيّة إلى أزمة؛ أكاد أقول إنّها أزمة ذاتيّة شعوريّة»(2).
-   إنّ المتلقّي للنّموذج الحداثي العقلاني الغربي، خاصّة إذا كان من نخبة الأمّة الإسلاميّة،لم ينضبط بقانون المسافة في مسألة الأخذ عن الغير والاستفادة منه، ففرّق بين الاستعارة من الغير في حالة ثبوت فائدته الإجرائيّة وقيمته التّوجيهيّة، وتقديس هذا النّموذج العقلاني الغربي أو هذا الغير، ولا يستوجب هذا الفهم الرّفض النُّكوصي للحداثة الغربيّة، كلاّ؛ إذ «لا يمكن لعاقل في عالمنا المعاصر أن يقول بهذا أو يقبله حلاّ حتّى ولو كان ممكنا، فما خُلِقَ الإنسان والثّقافات والحضارات إلاّ للتّعارف والتّفاعل والتّدافع والحوار، ولم يخلقوا للعيش أشتاتا، أو للتّنافر والانعزال، فذلك من شأنه أن يعرض الإنسان والثّقافات للتّصدّع والاندثار»(3). لكنّ لسان حال النّخبة والفئة المتنفّذة في دوائر صنع قرارات الأمّة المسلمة، يُؤكِّد استهلاكها منتجات هذا الغير من دون تطوير نموذج منهجيّ تركيبيّ لكيفيّة الاستفادة من الإنتاجيّة الفكريّة الغربيّة؛ إنّها تستهلك منها –بالجملة، والتّقسيط- ما هو صالح للاستعمال، وما انتهت صلاحيّة استعماله، كالاتجاهات البنيويّة والماركسيّة والوجوديّة والنّيتشويّة، التي تدعو إلى فلسفة العبث، والتّأويل المأساوي للوجود، والعيش وَفق دورة العود الأبدي اللاّغية للمعنى والمقاصد.
أضف إلى ذلك أنّ النّقد الذي تشكّل في الفكر العربي لمشروع الحداثة الغربيّة -في أحد تجلّياته- لم يكن ينطلق من قوّة استيعابيّة ونقديّة لهذا المشروع، أو مكاشفة معرفيّة لفهم حقيقة مبادئها ومآلات نتائجها، بقدر ما كان نقداً محايثاً أوملازماً للحظة تَعرُّف الوعي العربي هذه الحداثةَ الغربيّة، وهي لحظة على الرّغم من كراهيتها، إلاّ أنّها شكَّلت وعياً مخصوصاً واستنتاجاً لدى شريحة واسعة من المثقّفين العرب. وهذه اللّحظة هي الزّحف السّياسي والعسكري الأوروبي الممتد من غزوة بونابرت لمصر إلى انهيار الإمبراطوريّة العثمانيّة وميلاد تركيا الحديثة. أمّا الاستنتاج الذي تكوّن لدى هذه الفئة «فيقضي بالشّك في أصالة ميلاد تلك الفكرة، وفي شرعيّتها التّاريخيّة أو الوجوديّة. بحسبانها ولدت بعمليّة قيصريّة من خارج، ولم تنشأ في سياق ثورة ثقافيّة ذاتيّة في جوف المعرفة العربيّة الإسلاميّة الموروثة. ولم يكن دمغها بتهمة الهجانة والاستيراد ممّا أنزلته بها قراءات أصاليّة سلفيّة أو سلفيّة جديدة، وإنّما شاركتها فيه قراءات أخرى تنتسب إلى المنظومة الثّقافيّة للحداثة نفسها»(4).
وبهذا تتضافر هذه العوامل من أجل تأكيد المرور على المساءلة النّقديّة لمشروع الحداثة العقلانيّة، لننعطف بعدها لرسم الصّورة التي ينبغي أن تسلكها الحداثة الإسلاميّة المتّصلة. والاتصال المقصود في هذا المقام هو بخلاف الانفصال الذي وقعت فيه عقلانيّة الغرب؛ إنّه اتصال متعدّد الاتجاهات: «الاتصال بين الرّؤية التّوحيديّة للوجود وأنماط الحياة»، و«الاتصال بين العقل والقلب»، و«الاتصال بين العقل والخُلقِ»، و«الاتصال بين العقل والشرع»، و«الاتصال بين العقل والوحي»، و«الاتصال بين العقل والإيمان». وهذه الاتصالات هي أقوى الرّهانات بخصوص إنجاز حداثة إسلاميّة تختلف عن تلك الغربيّة ذات المسلك الانفصالي والانشطاري لهذه المكونات الصّميميّة المُكوّنة لسَيْرورة الحياة، سيرورة متكاملة ومتوازنة.
الهوامش
(1) العطاس، مداخلات فلسفية في الإسلام والعلمانية، مرجع سابق، ص159.
(2) حميد، سمير. خطاب الحداثة: قراءة نقدية، الكويت: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، سلسلة روافد، 2009م، ص36.
(3) المرجع السابق، ص35.
(4) بلقزيز، عبد الإله. العرب والحداثة: دراسة في مقالات الحداثيين، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2007م، ص28-29.