بحثا عن المشترك

بقلم
أ.د.احميده النيفر
إضاءات على مؤسسة «الكُتّاب» في الاجتماع الاسلامي القديم
   
1) مؤسسة عريقة:
لئن أكّدت الرّوايات المختلفة على قدم ظهور حلقات تعلّم القرآن وحفظه منذ الأيام الأولى لظهور الدّعوة الإسلاميّة فإنّ الحديث عن تعليمه للصّبيان الصّغار -في المصادر التّاريخيّة- يؤكّد أنّ الكتّاب كما هو اليوم عرف تحوّلات عديدة انطلقت مع شيء من التّحفّظات في فترة التّأسيس.
لقد طالبت النّصوص الحديثيّة الكثيرة المسلمين باستبعاد الأطفال عن المساجد حيث حلقات التّعلّم. من ذلك: «جنِّبوا مساجدكم الصّبيان والمجانين»(1) وقوله ﷺ «من دخل مسجدنا هذا ليتعلّم خيرا أو ليعلّمه كان كالمجاهد في سبيل اللّه، ومن دخله لغير ذلك كان كالنّاظر إلى ما ليس له»(2).
هذا ما يفسر أنّ تعليم الصّبيان ظلّ خارج المسجد والجامع مع حرص خاصّ على ضرورة أخذ الصّبيان بكثير من الحزم عند تناول «النّصّ المقدّس». يقول الصّحابي أنس بن مالك: «إذا محت صبية الكتّاب تنزيل ربّ العالمين بأرجلهم نبذ المعلم إسلامه خلف ظهره»(3). 
وفي رواية ثانية يظهر نفس الحرص على ما ينبغي على المؤدّب أن يوفّره في كتّابه من وعاء طاهر لمحو الألواح، وما كان على كلّ صبيّ أن يأتي به يوميّا وبالتّناوب من الماء الطّاهر لنفس الغرض. ثمّ الحرص على وضع الماء المتبقّي من المحو في تربة خاصّة قادرة على امتصاص ذلك الماء. يؤكّد القابسي في كتابه «الرّسالة المفصّلة لأحوال المتعلّمين» أنّه لا مسوغ لما يثيره البعض من موضوع إمساك الصّبيان للمصاحف وهم على غير وضوء «لأنّهم لا يفعلون ذلك»؛ كما يضيف:«وما في نهيهم عن مسّ المصاحف الجامعة وهم على غير وضوء خلاف من مالك ولا من يقول بقوله»(4).
لكنّ التّحفظات ظلّت قائمة فيما يتعلّق كذلك بمضمون ما يتلقّاه الأطفال في الكتاتيب، وهذا واضح في رسالة وردت على القائد أبى عبيدة بن الجرّاح بعد أن فتح الشّام تحرّضه على تأسيس الكتاتيب للنّاشئة من أجل تدريبهم على القراءة والكتابة وفنون الفروسيّة وإجادة العوم في الأنهار والبحار. ثمّ إنّ الخلفاء الرّاشدين كانوا يبدون عناية خاصّة بأطفال الكتّاب خاصّة في الأمصار المفتوحة (5).
لذلك فإنّه يصعب أن نتصوّر هذه «المؤسّسة القاعديّة» التي ستلقى كلّ هذا الانتشار حديثة العهد وأنّ المسلمين هم الذين ابتدعوها. والتّحفّظات التي أشرنا إليها تصلح أن تكون قرينة قويّة على أنّ الكتّاب كان موجودا قبل الدّعوة المحمّديّة في الجزيرة العربيّة (6).
وما حرص الرّسول والصّحابة ثمّ الخلفاء على تعديل بعض خصوصيّاته ومضمونه إلاّ مؤشّر على أنّ الكتّاب عرف فترة طويلة من الحضور في بعض الحواضر العربيّة قبل الإسلام. ليس مستبعدا في هذا المجال أن تكون له جذور عبريّة ذلك أنّ اختلاط اليهود بالعرب لا سيما بالحجاز يساعد على تفسير هذا الاقتباس (7). إلى هذا يذهب محمد الطّاهر ابن عاشور في كتابه « أليس الصّبح بقريب» حين يقول: «...وأحسب أنّهم اقتبسوها (الكتاتيب) ممّا كان اليهود يعلمون أبناءهم التّوراة في المدارس» (8).
ويؤكّد الواقدي أنّ عمر بن الخطاب هو الذي رتّب للكتّاب أمر المؤدّب فيه بأن جعل له رزقا من بيت المال، وأن يدرّس من بعد صلاة الصّبح إلى الضّحى ثمّ من صلاة الظّهر إلى صلاة العصر. نفس الخليفة رتّب للصّبيان استراحة يومي الخميس والجمعة.
من هذه الرّوايات القليلة -وغيرها كثير- يتأكّد أنّ المسلمين الأوائل عرفوا الكتّاب واعتمدوه في الجزيرة العربيّة والأمصار التي فتحوها وخاصّة الشّام ومصر والمغرب لغرض ديني رسالي. ولعلّ أهم جانب حرص المسلمون على إبرازه منذ حياة الرّسول ﷺ كإضافة نوعيّة لهذه المؤسّسة التّربوية هو بعدها الاجتماعي.
2) القراء والغاية الرّساليّة الاجتماعيّة:
إذا كانت مجموعة القرائن السّالفة مؤكّدة على قدم مؤسّسة الكتّاب، فإنّ ما أسميناه تحفّظات تؤكّد حرص المسلمين الأوائل على إعادة النّظر في هذا الإرث العربي، وذلك بضرورة شحنه بالبعد الرّسالي الاجتماعي. هذا ما تدلّ عليه نصوص عديدة نذكر من بينها الحديثين التّاليين: 
* عن أبى موسى قال النّبي ﷺ «المؤمن الذي يقرأ القرآن ويعمل به كالأترجة طعمها وريحا طيب... والمنافق الذي يقرأ القرآن كالرّيحانة ريحها طيب وطعمها مرّ» (9).
* عن أنس قال، قال رسول اللّه ﷺ: «أيّما مؤدّب ولي ثلاثة صبية من هذه الأمّة فلم يعلّمهم بالسّوية- فقيرهم مع غنيهم وغنيهم مع فقيرهم-  حُشر يوم القيامة مع الخائنين»(10).
إذا كان الجانب الرّسالي واضحا إلى حدّ كبير في عملية تربوية تعتمد تركيز النّصّ المرجعي الأوّل في النّفس الغضّة للصّبي ينشأ عليها لسانه وجنانه، فإنّ الجانب الاجتماعي بحاجة إلى إيضاح. إضافة إلى الحديث النّبوي الثّاني الآنف الذّكر، تؤكّد روايات تاريخيّة عديدة أنّ الكتاتيب كانت منتشرة في الأمصار يقصدها أبناء العامّة من جمهور المسلمين(11).
إلى ذلك فإنّ عددا من الصّحابة اعتاد -حرصا على تأليف القلوب النّاشئة- زيارة الكتاتيب وتقديم الهدايا والفواكه لأيتام الأنصار وضعاف الحال والدّعاء لهم بالفتوح والبركة. كانوا في ذلك يقتفون أثر الرّسول ﷺ في عنايته بصبيان الكتّاب الذين كانوا في الغالب ممّن يحتاج إلى العون والرّعاية.
وتحتفظ لنا المعاجم اللّغويّة بمفردات غنيّة بالدّلالات الاجتماعيّة، فالمكتّب كان يعلّم الصّبيان في الكتّاب، أمّا المؤدّب فهو معلّم أبناء الحكّام والأمراء والأعيان وهو الذي يقصد القصور لتعليم الصّغار(12).
أمّا كتب الرّحالة المسلمين فهي تؤكّد على هذا الجانب الاجتماعي للكتّاب الذي تواصل بشكل بارز في القرون الموالية للفترة التي تعنينا بالدّرس في هذه الورقة. يقول ابن جبير الأندلسي متحدّثا عن مصر أيّام صلاح الدّين الأيوبي: «... ومن مآثره الكريمة أمره بعمارة “محاضر“ ألزمها المعلّمين لكتاب اللّه عزّ وجل يعلّمون أبناء الفقراء والأيتام خاصّة».
لكنّ السّؤال الذي يفرض نفسه قبل الوصول إلى الفترات المتأخّرة التي شهدت تحوّلات في الاجتماع الإسلامي هو: ما المقصود بهذه العناية بالصّبيان المعوزين في كتاتيبهم؟ وهل تفسّر هذه العناية على أنّها من مظاهر الشّفقة والرّحمة؟
الأرجح أنّ الموضوع وثيق الصّلة باختيار نبويّ أساسيّ يتّصل بظاهرة عرفها الإسلام في فترة التّأسيس وظلّت قائمة حتّى خلافة عمر بن الخطاب، ثمّ أخذت في التّراجع عن كونها اختيارا رسميّا وللتّداخل مع حركيّة الاجتماع الإسلامي فيما بعد ظهور الفتن المختلفة. إنّها ظاهرة القرّاء. 
هذه الظّاهرة الهامّة في الإسلام الأوّل في مرحلة التّأسيس تعنينا لأكثر من سبب. يقول الواقدي «كان من الأنصار سبعون رجلا شببة يُسَمَّون القرّاء. كانوا إذا أمسوا أتوا ناحية من المدينة فتدارسوا القرآن وصلّوا. حتّى إذا جاء الصّباح استعذبوا من الماء وحطبوا من الحطب، فجاؤوا به إلى حجر رسول اللّه ﷺ وكان أهلهم يظنّون أنّهم في المسجد، وكان أهل المسجد يظنّون أنّهم في أهليهم (13). هؤلاء «الدّعاة» الشّبان كانوا على ما يبدو حماة الجماعة النّاشئة وناشري مبادئها في الجزيرة. هم الذين بثّ الرسول منهم عددا للتّعريف بالرّسالة النّاشئة، ومنهم القرّاء الأنصار الذين خرجوا في بعض الجهات فأصيبوا في مذبحة بئر معونة (14). من الثّابت أن هذه الفرقة كانت من جملة مجموعات أخرى اعتمدها المسلمون في حمل الدعوة خارج المدينة. فقد أرسلت منهم مجموعات إلى نجران وصنعاء وعُمان(15).
ما يعنينا في هذا المجال أنّ هؤلاء القرّاء تحوّلوا بعد وفاة الرّسول ﷺ إلى فئة مرجعيّة متميّزة في الاجتماع الإسلامي؛ إنّهم صاروا أهل الرّأي وأهل الفتوى حتّى اضطر الخليفتان أبو بكر وعمر إلى مراجعتهم لأنّهم حملة القرآن. كذلك اضطر شيوخ القبائل ورؤوس الأحياء للتّراجع والصّلاة وراءهم وتقديمهم في المجالس لمعرفتهم بالقرآن. وعندما أتى والي عمر على مكّة زائرا سأله عمر عمّن استخلف على مكّة حتّى عودته فقال: مولاي عبد الرّحمان ابن أبزى. فقال عمر: لماذا؟ فأجاب الوالي: لأنّه أكثر أهلها قراءة للقرآن، فقال عمر: «إنّ هذا العلم سيرفع اللّه به خسيسة قوم ويخفض به قوما آخرين» (16).
من ثمّ أمكن القول إنّ القرّاء كانوا تجسيدا لتحوّل اجتماعي كامل قلب سلّم القيم رأسا على عقب. فمع القرّاء أصبحت للموالي والفئات المتدنّية اجتماعيّا آفاق كبرى لتجاوز المنظومة القبليّة الموروثة بكلّ ما تعنيه من تراتيب وقيم ومصالح. ليس من المصادفة أن يكون القرّاء الأوائل والعلماء بالنّصّ التّأسيسي في المدينة خلال حياة الرّسول من الأنصار ومن بطون ليست الأولى في المنزلة القبليّة. أمّا في مدن الأمصار وخاصّة البصرة والكوفة فألوف القرّاء بها لم يكونوا إلاّ من بطون قبليّة مغمورة (17) ويعسر فعلا أن ندرك جانبا أساسيّا من انتشار الإسلام وانفتاح آفاقه في المناطق غير العربيّة بدون أن نبرز دور هؤلاء القرّاء العلمي الاجتماعي. كما يعسر أن نحدّد الجوانب الرئيسيّة الفاعلة في «الفتنة الكبرى» وما حصل من تمرّد من الأمصار دون أن نعتبر أمر القراء وفاعليتهم الاجتماعية في تلك الأمصار.
لن نستغرب بعد ذلك كيف نجح الحسن البصري -وهو مولى- وفرقد السّبخي -وهو مولى أيضا- فيما فشل فيه أحد أبناء الأسرة المهلبيّة العريقة الأزدية في مطلع القرن الثّاني للهجرة.  لقد رفض الرّجلان أن ينصحا الجمهور بتأييد المهلّبي، فلم يتمكّن من استقطاب البصريّين إلى جانبه (18). 
هكذا أُريد للقرّاء المستضعفين أن يكونوا النّواة الجديدة لحركيّة كبيرة تقلّب العلاقات والمفاهيم. وكان لا بدّ من دعم هذه النّواة بالحرص على نشر الكتاتيب في أوساط الجمهور في انتظار أن يلحقوا بعد ذلك بالطّلائع المتقدّمة من القرّاء حماة العلم الإسلامي والأشدّ حرصا على نشره في الأصقاع والأمصار. بناء على هذا استطاع الكتّاب أن يواصل مسيرته القديمة ضمن ظروف حراك اجتماعي جديد أكسبته قوّة واتساعا لم يعرفهما من قبل. هذا رغم أنّ «القرّاء» - وهم شرارة انطلاق مستقبل جديد للكتّاب- سيندفعون في مجالات معارضة سياسيّة حربيّة مؤيّدين الإمام عليّ بن أبي طالب ضدّ خصومه أوّلا، مكوّنين جانبا رئيسيّا من الحشود الخارجة والمقاومة للأمويّين بعد ذلك (19).
ظلّ الكتّاب يكوّن أجيالا من صغار المسلمين محتفظا بقدر من مهمّته الرّساليّة وبقدر ثان من مهمّته الاجتماعيّة التي زرعها الآباء المؤسّسون. لكنّه عرف مع تصاعد الصّراعات السّياسيّة الدّينيّة في القرنين الثّالث والرّابع منعطفا جديدا يدعم موقف الكتّاب في الاجتماع الإسلامي لكن بمضمون جديد ومختلف.
3)   أهل السنة وعودة الكتاتيب:
لم يستطع الكُتّاب أن يخترق الأحداث الاجتماعيّة والّسياسيّة والدّينيّة التي عرفها المسلمون في القرنين الأوّلين بسهولة؛ فمقابل استمراره في النّشاط بالحواضر الكبرى والمدن الصّغرى وحتّى بعض القرى، ومقابل انتشاره في المغرب ومنه فيما يليها من بلاد السّودان في فترة لاحقة وكذلك في الأندلس - فضلا عن بلاد ما وراء النّهر شرقا-، مقابل هذا التّوسّع الكبير كان لا بدّ لهذه المؤسّسة أن تعرف تحوّلا في مظاهرها وطبيعتها.
ولعلّ أول ما يمكن أن يقال عن التّحوّلات التي ينبغي الاهتمام بها في الكتاتيب هو هذا التّقسيم الذي سيلحق بالمشرفين عليه بعد أن زال أثر الآباء المؤسّسين: القرّاء.
فمعلّم الأولاد في الكتّاب هو «المكتّب» ومعلّمهم في القصور هو «المؤدّب». أمّا «المدرّس» فهو الذي يتصدّى لتدريس العلوم الشّرعيّة بعد ذلك ضمن المسجد في فترة لاحقة في نظام المدارس. وهو أيضا الفقيه إلحاقا بالفقهاء الحقيقيّين باعتبار المجاورة. وهو أيضا «المقرئ» أو«الملقّن» تمييزا له عمّن يعلم المواد غير القرآنيّة(20). وهو«السيّد» في جهات من المغرب وكذلك أفريقيا الغربيّة فيما بعد والكتّاب هو المَسيد.
ولم يعرف الكتّاب في ظاهره من النّاحية المادّية أيّ تحوّل، فليست هناك عناية بزخرفته بل ظلّ على بساطته الأولى. لم تتجاوز أدواته الحصر والألواح والدّوى والأقلام وإناء للمحو. ولم يكد يتجاوز مجال هذه الخصوصيّات إلاّ في بعض الحالات التي كان يمارس فيها الأولاد بعض الصّناعات مثل ما سُجّل في القرن الثّالث الهجري. كذلك فقد استمرّ مواصلا مهمّته التّعليميّة للفئات الاجتماعيّة المتوسّطة والمعوزة وهو ما جعل لجلّ الكتاتيب أوقافا للإنفاق على المؤدّب وأحيانا على الصّبيان أنفسهم خاصّة في مناسبات معيّنة. ولعل هذه الأوقاف لم تكن تفي بحاجة المؤدّبين فأصبحوا يطالبون بأجور. تؤكّد بعض القرائن أنّ هذا الوضع سيزيد من تردّي مكانة المؤدّب في المجتمع. يقول ابن خلدون: « ... واشتغل أهل العصبيّة بالقيام بالملك والسّلطان، فدفع للعلم من قام به سواهم وأصبح حرفة للمعاش وشمخت أنوف المترفين أهل السّلطان عن التّصدّي للتّعليم واختصّ انتحاله بالمستضعفين، وصار منتحله محتقرا عند أهل العصبيّة والملك»(21).
هذه المظاهر وغيرها كثير تؤكّد ما اعترى الكتّاب من تحوّل في طبيعته. فبعد أن كان الحلقة الأولى من منظومة تغييريّة تحمل مضمونا رساليّا واجتماعيّا، تحوّل الكتّاب ليصبح تعبيرا عن درجات التّدني الاجتماعي والفكري. أصبح مؤسّسة دون آفاق بعد أن أعاد المجتمع في جانب كبير منه تنظيم علاقاته على أسس العصبيّة والمنفعيّة الفئويّة وهي العلاقات الأكثر تضرّرا من ظهور الدّعوة الإسلاميّة وحملة القرآن وصبيان الكتاتيب.
وقد سجّل لنا الجاحظ - المتوفّى سنة 255 هـ - بقلم ساخر مثير للتّساؤل حالة الكتاتيب وانقلاب أمرها يقول: «عبرت يوما إلى معلّم فوجدته في هيأة حسنة وقماش مليح، فقام إليّ وأجلسني معه، ففاتحته في القرآن، فإذا هو ماهر،  ففاتحته في شيء من النّحو  فوجدته ماهرا، ثمّ أشعار العرب واللّغة فإذا به كاملا في جميع ما يراد منه. فقلت قد وجب تقطيع دفتر المعلّمين». إلاّ أنّ الجاحظ اكتشف بعد أيام منتهى سذاجة المعلّم الذي سمع شاعرا يقول:
لقد ذهب الحمار بأمّ عمـرو                 فلا رجعت ولا رجع الحمـار
فحزن عليها حزنا شديدا رغم أنّه لم يعرفها قطّ، وبلغ به حزنه حدّا أقام لها مجلس عزاء ببيته. ويعلّق الجاحظ فيقول: «فعادتني عزيمتي وقويت على كتابة الدّفتر لحكاية أم عمرو»(22).
غير أنّ المثير في مؤسّسة الكتّاب هو أنّ التّدنّي في طبيعتها الاجتماعيّة والذّهنيّة هيّأها -خلافا لما كان يتوقّع من اندثار - إلى الاستمرار. تحقّق ذلك نتيجة اشتداد الصّراع بين أهل السّنّة ورجال الاعتزال. 
من خلال هذا الصّراع ونجاح الطّرف الأوّل فيه وجد الكتّاب نفَسا جديدا ما كان قادرا لولاه على الاستمرار. 
خلافا لما هو سائد من اعتقاد بأنّ الاعتزال كان مذهب «الخاصّة» فإنّ وثائق عديدة تذهب إلى اعتباره مذهب العامّة أيضا. يقول الصّفدي: «...ومن وقف على طبقات المعتزلة للقاضي عبد الجبار علم ما كانوا عليه من العدد والعدّة. ويقول الجاحظ: «...سألت بعض العطّارين من أصحاب المعتزلة عن فارة المسك»(23). ويحكي التّنوخي أنّ نساء المعتزلة لم يكن يخشين الجنّ والأرواح وكذلك صبيانهم لأنّهم لم يكونوا يسمعون أحاديث الجنّ من آبائهم بل كانوا يسمعون إنكار رؤيتهم. قال سمعت جماعة من أصحابنا يقولون من بركة المعتزلة أنّ صبيانهم لا يخافون الجنّ(24). سيتدعّم هذا التوسّع العمودي للفكر الاعتزالي في بداية الدّولة العباسيّة بانتشار من نوع آخر وهو بعث البعوث إلى الأمصار القاصية. يقول شاعر معتزلي عن واصل ابن عطاء:
                        له خلف شعب الصّين في كلّ ثغرة     إلى سوسها الأقصى وخلف البرابر
مشيرا بذلك إلى انتشار المذهب في جهات نائية من المغرب الإسلامي. يذكر ياقوت الحموي في مادّة «تاهرت» (وهي مدينة في المغرب قرب تلمسان) أنّ مجمع الواصليّة -أصحاب واصل ابن عطاء- كان هناك وأنّ عددهم بلغ ثلاثين ألفا في بيوت كبيوت الأعراب يحملونها (25).
فإذا أضفنا إلى كلّ هذا اعتماد المذهب الاعتزالي على نوى حلقات تعليميّة للصّغار يحذقون من خلالها علوم البلاغة والخطابة والمناظرة، أدركنا أنّنا أمام تحوّل جديد يمتلك مقومات ليس المقوم التّربوي أبسطها. كان الصّبي هو أمل  «الأمّة» الجديد وكانت العناية به معرفيّا وبيداغوجيّا، من أجل ترسيخ المثل العليا فيه، تعبّر عن مستوى الوعي الذي بلغه مجتمع الكبار وتكشف عمّا كان يعتبره نفس المجتمع سلبيّا خطيرا يريد تجاوزه.
 ولا أظنني بحاجة إلى إيضاح ما بذله رجال الاعتزال من التّركيز على خطورة البلاغة والبيان في اجتماع يحمل مشروعا أو رسالة. هي خطورة تتطلّب معرفة بآليّات الخطاب وخصوصيّاته وتتطلّب وسائل تعليميّة وتقنية مفصلة وتكوينا متميزا للذين يقومون على تكوين الصّغار بصفة خاصّة.
هذا العامل الأخير إذا أضفناه إلى العوامل السّابقة يعني من جملة ما يعنيه التّهديد الكامل لمؤسّسة الكتّاب وإزاحتها من مسرح المجتمعات الإسلاميّة. غير أنّ الذي حصل هو نقيض ذلك.  لقد وقع إقصاء رجال الاعتزال الذين لوحقوا ودمّرت غالب آثارهم. بذلك استحوذ خصومهم السّياسيّون على مقاليد الخلافة معتبرين أنّ من أهمّ عوامل استتباب الأوضاع السّياسيّة والفكريّة مناهضة توجّههم التّربوي والفكري. من ثمّ جاء المزيد من تقديس النّصّ بمعنى جعله متعاليا ومعزولا وغير متاح للأفهام؛ بذلك وقعت محاصرة النّزعة العقليّة المتحرّرة. 
ليس غريبا بعد تبني هذا الاختيار أن يقع تشجيع جديد للكتاتيب لمقاومة خصوم سياسيّين ومذهبيّين كانوا يعتمدون رؤية مختلفة للنّص المقدّس وضرورة اعتماد وسائل بيداغوجيّة ملائمة لتلك الرّؤية.
أصبح الكتّاب القائم على التّعليم الفردي المعتمد على الحفظ بالأساس لا يهتمّ إلاّ بتنمية الذّاكرة اللّفظيّة لأنّها تعتمد على التّرابط الآلي من غير فهم أو إدراك المعنى واستغلاقه. بذلك ترسّخت في الصّبي منذ صغره علاقة جديدة مع النّص وقدسيته تعذر عليه بعد ذلك أن يتحرّر منها.
أمّا القدسيّة عند خصوم المحدّثين فقد كان لها معنى آخر. إنّها جعل النّصّ المقدّس قريبا وبعيدا في آن واحد، مفهوما وقابلا للاستيعاب لكنّه ممتنعا لا يحيط بفهمه أحد بصفة نهائيّة. على ضوء هذا كان لا بدّ من تكوين خاصّ للصّبيان يناسب هذا التّوجّه الذي يفتح لهم آفاق علميّة لا حدّ لها.
يقول حاجي خليفة في كشف الظّنون: « اعلم أنّ من كانت عنايته بالحفظ أكثر من عنايته بتحصيل المَلَكة لا يحصل على طائل من ملكة التّصرّف في العلم، ولذلك ترى من حصّل الحفظ لا يحسن شيئا من الفنّ وتجد ملكته قاصرة في علمه أن فاوض أو ناظر» (26).
هكذا كُتب للكتّاب عمرٌ جديد فأصبح أداةً ناجعة في أيدي رجال الدّولة يحمون بها أيديولوجيتهم واختياراتهم بعد أن كاد يذهب نهبا للإهمال والتّفكّك. بعد ذلك ستظهر معه «المدرسة» لغاية شبيهة بما كنا بصدده فتتضافر جهودهما في محاصرة المقدّس وطمس معالمه باسم حمايته وتقديسه.
وينبغي أن ننتظر فترات طويلة ليطرح موضوع «الكتّاب» من جديد والمؤسّسة التّعليميّة في العالم الإسلامي مع صدمة الحداثة وتحدياتها العلميّة والبيداغوجيّة والتّقنيّة.
الهوامش
(1) أخرجه ابن ماجة والطبري.
(2) أخرجه احمد عن أبى هريرة.
(3) انظر علي بن محمد القابسي: الرسالة المفصلة لأحوال المعلمين، تحقيق أحمد فؤاد الأهواني. طبعة 2 القاهرة دار المعارف، 1975، ص 273.
(4) نفس المرجع ص 284.
(5) البلاذري: فتوح البلاد، مطبعة الموسوعات، مصر 1901، ص 148 و149.
(6) انظر جواد علي: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، بيروت، دار العلم للملايين، ج8، ص774.       
(7) طه الولي: «التعليم عند المسلمين في بداياته مجلّة الفكر العربي، عدد خاص بالمؤسّسة الجامعيّة، عدد 20، سنة 3، 1981، ص.ص. 18-20                                                                                           
(8) محمد الطّاهر بن عاشور: أليس الصّبح بقريب، تونس، الشّركة التّونسية للتّوزيع، 1967، ص55.
(9) أخرجه البخاري.
(10) ذكره ابن سحنون في آداب المعلمين، ولم أعثر عليه في كتب الصّحاح ولفظة مؤدّب الواردة تبدو غريبة في عهد الرّسول.                                                                                           
(11) انظر ابن عساكر: تاريخ دمشق وابن عبد ربه: العقد الفريد.                                                 
(12) انظر مادة « كتب « عند ابن منظور في لسان العرب وعند الزبيدي في تاج العروس.
(13) الواقدي: المغازي، ج1، ص 347.                                  
(14) نفس المصدر.                                                                                     
(15) المقدسي: الاستبصار في نسب الصحابة من الأنصار، ص 74.                     
(16) ابو عبيد القاسم بن سلام: فضل القرآن ومعالمه وأدبه، الورقة 34أ.         
(17) رضوان السيد: «الجامع والمدرسة»، مجلة الفكر العربي المعاصر المذكور آنفا.
(18) تاريخ الطبري ج2 – 1391.
(19) راجع كلمة « القراء»، موسوعة الإسلام، الطبعة الفرنسية الجديدة، المجلد السادس،ص.ص. 502 – 505.                                                                                      
(20) آدم متز: الحضارة الإسلامية في القرن الرابع، ترجمة أبو ريدة؛ وانظر القلقشندي: صبح الأعشى، ج6، ص 22.
(21) ابن خلدون: المقدمة، ص32. 
(22) الجاحظ رسالة المعلمين.
(23) الجاحظ: الحيوان، ج 5، ص53 
(24) نشوار المحاضرة، ج1. ص 274   
(25) أحمد أمين: ضحى الإسلام، ص 92.
(26) حاجي خليفة: كشف الظنون، ج1، ص28.