دراسات

بقلم
عبد الحكيم درقاوي
خصائص التشريع الأخلاقي في الإسلام
 من المعلوم أنّ الشّريعة هي الأحكام التي شرعها اللّه للمكلّفين بتبليغ من الرّسول ﷺ. وتنقسم الشّريعة الإسلاميّة إلى ثلاثة أقسام: قسم متعلّق بالعقائد وكبرى اليقينيّات الغيبيّة، ويدخل هذا القسم ضمن «علم الكلام»، وقسم ثانٍ متعلّق بالأعمال كالصّلاة والصّوم والزّكاة وسائر العبادات التي تندرج تحت «علم الفقه»، أمّا القسم الثّالث فهو «علم الأخلاق» الذي يضع المعايير لتقويم السّلوكات الإنسانيّة،           ويضبط العلاقات بين ذواتنا والأخرين والمجتمع بأكمله.
ولا يوجد علم له كثير اتصال بنا أكثر من الأخلاق، ذلك بأنّه هو الذي يعلّمنا واجباتنا نحو اللّه والأهل، وجميع ما يحيط بنا بصفة عامّة، كما يعلّمنا الطّريق الذي يجب سلوكه لنكون سعداء سعادة خالدة، ولهذا فكلّ النّاس في حاجة ماسّة لتعلّمه(1) .
  إذا كانت بعض المرجعيات الغربية قد أرجأت الأخلاق إلى العقل أو الفرد أو المجتمع فإنّ الأخلاق في الإسلام مصدرها ربّاني فطري، إذ جَبَل اللّه تعالى خلقه على الفضائل والمكارم ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾(الروم: 30)، وأيّ انحدار يعتري هذه الفطرة إنّما هو عارض من عوارض الشّيطان أو مساوئ النّفس الأمَّارة، قال رسول اللّه ﷺ ذات يوم في خطبته: «ألا إنّ ربّي أمرني أن أعلّمكم ما جهلتم، ممّا علمني يومي هذا، كلّ مال نحلته عبدا حلال، وإنّي خلقت عبادي حنفاء كلّهم، وإنّهم أتتهم الشّياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم»(2). في هذا الإطار تأتي هذه الورقة لبيان بعض خصائص التّشريع الأخلاقي التي امتاز بها الإسلام على غيره من المرجعيّات.
 الخصيصة الأولى: تأسيس النظام الأخلاقي على المسوغ الإيماني: 
إنّ الأخلاق الفاضلة هي انعكاس للإيمان، ودليل على صدقه، لقوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾(البقرة: 177)، وفي الحديث من طريق أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه ﷺ: «إن من أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا»(3). 
  والإيمان بدوره يزيد وينقص بزيادة ونقصان منسوب الأخلاق، فالعلاقة بينهما علاقة تكامل وترابط، إذ يستحيل في الإسلام المفاصلة بينهما، فالأخلاق مبنيّة بكلّياتها على الإيمان ومؤسّسة عليه. وقد أعلن القرآن الكريم في مظان كثيرة ضرورة الوصل بين الإيمان والعمل الصالح، فمن ذلك قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾(البقرة: 82)، وقوله سبحانه: ﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾(آل عمران: 57)، وقوله أيضا: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا﴾(مريم: 96)، وتعداد الآيات التي ربطت بين الإيمان وصالح العمل قاربت ستّين آية.
في ضوء ما سبق يجد الإنسان نفسه أسير وعي توحيدي، يرى من خلاله كلّ شيء في الوجود له غاية وهي تحقيق الخير العميم، وإعمار الأرض بالصّالحات، وامتلاء الوجود بالقيم المثلى وفق توفيق اللّه عزّ وجلّ:﴿إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾(هود: 88).
الخصيصة الثّانية: تأسيس التّشريع الأخلاقي على التّقصيد والتّعليل:
معلوم أنّ الأحكام الواردة في النّصوص الشّرعيّة قد يكتنفها التّعليل لبيان الحكمة من التّشريع، وقد يرد الحكم تارة بدون تعليل. والأصل أنّ الإيمان باللّه عزّ وجلّ يقتضي التّعبّد بالحكم التّكليفي دون مراعاة المقصد منه: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا﴾(الأحزاب: 36)، قال فخر الدّين الرّازي(تـ606ه) في تفسيره لآية الأحزاب «فاللّه هو المقصد والنّبيّ هو الهادي الموصل، فمن ترك المقصد ولم يسمع قول الهادي فهو ضالّ قطعا»(4).
والأمر الإلهي المُعَلل يُبْلِغ المكلّف مبلَغ الرّضا الكلّي، حتّى يصل إلى الإذعان القلبي والاقتناع العقلي. وقد أبرز الإمام الجويني (تـ478هـ) أهمّية التّقصيد بالأخلاق فقال: «ومن العبارات الرّائقة الفائقة المرضيّة في الإعراب عن المقاصد الكليّة في القضايا الشّرعيّة: أنّ مضمونها دعاء إلى مكارم الأخلاق ندبا واستحبابا، وحتما وإيجابا، والزّجر عن الفواحش وما يخالف المعالي، تحريما وحظرا، وكراهيّة تبيّن عيافة وحجرا، وإباحة تغني عن الفواحش، كإباحة النّكاح المغني عن السّفاح، أو تعين على الطّاعة، وتعضد أسباب القوّة والاستطاعة»(5).
وعند استقراء آيات القرآن الآمرة، نميّز من خلالها نوعين من التّعليل المسوغ للالتزام بالسّلوكات الأخلاقيّة:
أوّلا: التّعليل العائد على الفرد بالخيريّة، ومن أمثلة ذلك:
*المثال الأول: قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾(البقرة: 153). ورد تعليل الحثّ على الاستعانة بالصّبر والصّلاة في الآية بأنّ التّعليليّة ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) «فتعليل الأمر بالاستعانة بالصّبر خاصّة لما أنّه المحتاجُ إلى التّعليل، وأمّا الصّلاةُ فحيث كانت عند المؤمنين أجلّ المطالب كما ينبئ عنه قولُه ﷺ (وجُعلت قُرةُ عيني في الصّلاة) لم يفتقر الأمرُ بالاستعانة بها إلى التّعليل، ومعنى المعية الولايةُ الدّائمةُ المستتبِعة للنُصرة، وإجابةِ الدّعوة ودخول مع على الصّابرين لما أنّهم المباشِرين للصّبر حقيقةً فهم متّبوعون من تلك الحيثيّة»(6).
*المثال الثاني: قال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾(البقرة: 172). رتّب اللّه تعالى حكم العبادة على وصف وهو الشّكر،» فإنّ عبادته تعالى لا تتمّ إلاّ بالشّكر. فالمعلّق بفعل العبادة هو الأمر بالشّكر لإِتمامه، وهو عدم عند عدمه»(7).
ثانيا: التّعليل العائد على الجماعة بالخيريّة، ومن أمثلة ذلك:
المثال الأول: قوله سبحانه: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾(آل عمران: 104). فالفلاح في الآل والمآل جزاء مرتبٌ على وصفِ الدّعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والمعنى: «ولتكونوا أمّة يدعون إلى الخير، فهذه الأمّة أصحاب هذا الوصف قد أمِروا بأن يكونوا من مجموعهم الأمّة الموصوفة بأنّهم يدعون إلى الخير، والمقصود تكوين هذا الوصف، لأنّ الواجب عليهم هو التّخلّق بهذا الخلق، فإذا تخلّقوا به تكوّنت الأمّة المطلوبة، وهي أفضل الأمم، وهي أهل المدينة الفاضلة المنشود للحكماء من قبل، فجاءت الآية بهذا الأمر على هذا الأسلوب البليغ الموجز»(8).
المثال الثّاني: قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾(الحجرات: 6).
  علّل الأمر بالتّبين والتّثبّت من الأخبار قبل إشاعتها بالمفعول لأجله ﴿ أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ) و« مقتضى الآية إيجاب التّثبّت في خبر الفاسق، والنّهي عن الإقدام على قبوله والعمل به، إلاّ بعد التّبيّن والعلم بصحّة مخبره، ... لئلاّ يصيب قوما بجهالة»(9).
الخصيصة الثّالثة: 
الخطاب الأخلاقي تكليف للإنسانيّة جمعاء
تفرض علينا هذه الخصيصة التّعرّض لاختلاف الأصوليّين في خطاب غير المسلمين بفروع الشّريعة، فمادام التّكليف الأخلاقي جزء لا يتجزّأ من التّكاليف الشّرعيّة، يجدر بنا طرح السّؤال التّالي: هل غير المسلمين مخاطبون بالأخلاق الإسلاميّة؟. 
 ابتداءً نقول إنّ الأمّة أجمعت على أنّ غير المسلمين مخاطبون بالإيمان، واختلفوا في خطابهم بفروع الشّريعة على مذاهب عدّة، يمكن أن نجملها في ثلاثة أقوال:
القول الأول: التّفريق بين مكارم الأخلاق ورذائلها؛ فالمكارم لا تتخرّج عن عهدة المكلّف حتّى يعتقد وجوبها، أمّا الرّذائل يخرج المكلّف عن عهدتها بمجرّد تركها، وإن لم يشعر بها فضلا عن القصد إليها.
القول الثّاني: يتناوله غير المسلم الأمر والنّهي في أصول الشّريعة وفروعها، لأنّ عمومات النّصوص تتناولهم، كقوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا﴾(الفرقان: 68)، فقوله تعالى: (وَمَنْ يَفْعَلْ) تناول جميع ما تقدّم، فالقتل والزّنا يوجبان العقوبة كما توجب دعوى إله آخر مع اللّه تعالى، فالخطاب منظّم على التّوحيد وهو أصل، وعلى تحريم القتل والزّنا وهما من فروع الشّريعة.
القول الثّالث: وهو القول الذي ذهب إليه الإمام شهاب الدّين القرافي(ت684ه) وإليه الرّجحان، (فالكافر مكلّف بإزالة الكفر ثُمَّ إيقاع الفروع، لا لأنّه مكلّف بإيقاع الفروع في زمن الكفر؟، فزمن الكفر ظرف للتّكليف لا لوقوع المكلف به).
وليتّضح مقال، ضرب القرافي المثال التّالي: المحدث مأمور بالصّلاة إجماعا، ومعناه: أنّ زمن الحدث ظرف للخطاب للصّلاة والتّكليف بها لا لإيقاع الصّلاة، فلا نقول له صلِّ و أنت مُحْدث، بل يجب عليك أن تزيل الحدث و تصلي، وأنت الآن مكلف بذلك، كذلك نقول للكافر أنت الآن مكلف بإزالة الكفر ثم إيقاع الفروع(10).
ومقتضى هذه الخصيصة أن الأخلاق خصلة إنسانية و جِبِلَّة بشرية، بغض النظر عن مشروعيتهــا من الناحية الدينية، فالإنسانية جمعاء مكلفــة بأصــول الأخــلاق التي أجمعت الشرائــع عليهــا، والقائمة على المحافظة على الدماء والأعراض والأنساب والأموال والعقول...، يقول ابن خلدون(ت808ه): «إذا فسد الإنسان في قدرته على أخلاقه ودينه فقد فسدت إنسانيّته وصار مسخاً على الحقيقة»(11).
الخصيصة الرّابعة: تدرّج التّشريع الأخلاقي:
إذا كان التّكليف الأخلاقي إلزاميّا للبشريّة جمعاء، فإنّ هذا الإلزام يقتضي التّدرّج في التّشريع واليسر في التّنزيل. فالطّبع البشري طبع متمرّد على كلّ جديد. ولتَقَبُّل النّظام الأخلاقي القائم، سلك الشّارع الحكيم مراحل للتّهيئة النّفسيّة لدى المكلّف، حتّى يتقبّل التّشريع الأخلاقي القبول الحسن ويذعن إليه إذعانا طوعيّا.
ولا أجد مثالا أوضح لهذه الخصيصة من تدرّج الإسلام في تحريم الأشربة المسكّرة المدمّرة للأخلاق. فقد بلغت الآيات المحرّمة أربعا، كان أوّلها قوله تعالى: ﴿وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾(النحل: 67). فالآية وإن لم تشعر صراحة بحكم تحريم السّكر إلاّ أنّها أشارت إشارة رفيقة أنّ السّكر المتّخذ من العنب والتّمر غير مندوح، لذلك اقتضت حكمة اللّه تعالى أن يصف الرّزق بالحسن (رِزْقًا حَسَنًا) بينما ترك كلمة (سَكَرًا) نكرة معلّقة بدون صفة.
أمّا النّصّ الثّاني فقد عقد فيه اللّه مقارنة عقليّة بين منافع الخمر والميسر وأضرارهما، وختم المقارنة بعبارة التّأثيم حيث قال: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾(البقرة: 219). والتّحريم في الآية لم يصرح به حقيقة، لكن ذوي العقول عند نزول الآية امتنعوا عن الشّرب لفهمهم أنّ ما عَظُم إثمه حَرُم فعله.
مهَّد النّصّان السّابقان لمرحلة ثالثة وهي مرحلة التّحريم المؤقّت المتمثّل في حذر الشّرب عند الصّلاة، ومعلوم أنّ الصّلاة رابط بين العبد وربّه ومناط مقدّس لتمييز المسلم عن غير المسلم، لذا سدَّ اللّه ذريعة الإسكار المفضي إلى الإخلال بالصّلاة، فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾(النساء: 43).
وفي المرحلة الرابعة نزل التحريم الصريح في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾(المائدة: 90-91). ونزلت الآية في قبيلتين من قبائل الأنصار شربوا، فلما ثمل القوم عبث بعضهم ببعض، فلمّا صحوا جعل الرّجل يرى الأثر في وجهه ورأسه ولحيته فيقول: صنع بي هذا أخي فلان وكانوا أخوة ليس في قلوبهم ضغائن فيقول والله لو كان بي رؤوفا رحيما ما صنع بي هذا، حتى وقعت الضغائن في قلوبهم فأنزل اللّه هذه الآية(12).
  هذا التدرج لم يقتصر على بِضعة أمثلة فحسب بل شمل مجموع الأخلاق القرآنيّة إن لم نقل أنّها طبقت على النّظام التّشريعي الإسلامي عامّة.
الهوامش
(1) تاريخ الأخلاق في الإسلام، د محمد يوسف موسى، مطابع دار الكتاب العربي مصر، 1953م، ص237.
(2)  صحيح مسلم، كتاب الجنة و صفة نعيمها و أهلها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار، رقم الحديث 2865.
(3) سنن أبي داود، كتاب السنة، باب ما جاء في استكمال الإيمان و زيادته، رقم الحديث 4682.
(4) مفاتيح الغيب، فخر الدين الرازي، دار إحياء التراث العربي بيروت ط3، 1420هـ، ج25 ص169.
(5)غياث الأمم في التياث الظلم، مكتبة إمام الحرمين ط 2، 1401هـ، ص181.
(6)  إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم، أبو السعود العمادي، دار إحياء التراث العربي بيروت، ج1ص179.
(7) أنوار التنزيل وأسرار التأويل، ناصر الدين البيضاوي، دار إحياء التراث العربي بيروت ط1، 1418 هـ، ج1ص119.
(8)  التحرير والتنوير، الطاهر بن عاشور، الدار التونسية للنشر تونس، 1984م، ج4ص38.
(9) أحكام القرآن، أبو بكر الرازي الجصاص، دار إحياء التراث العربي بيروت،1405هـ، ج5ص278.
(10) شرح تنقيح الفصول، القرافي شهاب الدين، دار الكتب العلمية بيروت، ط1، 2007م، ص171.
(11) تاريخ ابن خلدون، دار الفكر، بيروت، ط1، 1408 ه، ج1ص468.
(12) لباب النقول في أسباب النزول، جلال الدين السيوطي، دار الكتب العلمية بيروت، ص86.