همسة

بقلم
محمد المرنيسي‎
الوجه والقفا
 يخيّل إليك أنّك تفهم أخاك أو صديقك في حالة السّعة والرّخاء، وتعتمد عليهما عند حلول الشّدائد والأرزاء. تنبّه، واحذر إن تُصاب بالخيبة عند نزول الأقدار، فتحتار، ولا تدري كيف تختار المسار.
فلا يغرّنّك المديح والإعجاب وحسن الخطاب، وكثرة الوعود والأماني، ومعانقة الأحباب والأصحاب، فكثيرا ما تكون سحبا عابرة لا تحمل ماء يروي، ولا ظلاّ يُؤوي، ومن بنى أحلامه على الزّخارف والعواطف،  سرعان ما تفاجئه الجوائح وتحلّ بداره العواصف.
يصعب أن تقيّم شخصا عشت معه عمرك، فكيف بمن خالطته أو عاشرته أياما أو سنوات؛ ذلك أنّ الإنسان مهما كان له وجوه متعدّدة، يظهر ببعضها في أيام السّلم والرّخاء، ويخفي غيرها لتظهر في مواقف الشّدّة والعناء. ولذلك تكون الصّدمة عنيفة حين تكتشف أنّك كنت بليدا أو مغفّلا على الأقل حين كشفت له كلّ شيء عن أنبائك وأسرارك وأحلامك وآمالك.
فسلوك المرء في بيته، غير سلوكه في عمله أو مع أصدقائه أو أعدائه، فلكلّ حالة أو وضع وجه من السّلوك يختلف عن غيره، وإن كانت بينهم روابط مشتركة للتّمويه والخداع، ولذلك تسمع أحيانا عبارة استنكار لسلوك مكتشف لم يكن متوقّعا من شخص صاحبته زمنا، فبدا لك بالوجه الذي لم تكن على علم به فتقول له: «ذاك وجهك أم قفاك ؟!»
هذا التّلوين في الأسلوب والسّلوك ينمّ عن اضطراب داخليّ يحاول الإنسان إخفاءه؛ ليظهر بالصّورة المثلى أمام محاوريه أو متابعيه؛ بغية الحصول على التّنويه والإشادة به، لإشباع حاجته الى التّقدير والاحترام من الآخر. يتجلّى هذا السّلوك عادة عند أصحاب الفراغ الذين يقضون السّاعات في المقاهي والملاهي يتنافسون على البطولة في التّنكيت ونوادر القصص وغرائب الأحداث وسقط الأخبار لاحتلال الصّدارة في المجالس المختارة. ولو فتّشت عن حاله في بيته لوجدته في صورة قاتمة بائسة موحشة، خالية من المرح والأنس، غارقة في النّكد والعنف والبؤس. وأمثال هذا الصّنف كثيرون في كلّ مجال يتفانون في أن يظلّوا كالزّيت فوق الماء لهم الفضاء والضّياء، وعلى من تحتهم تحمّل العذاب والبلاء.
ذو الوجوه يمدحك ويثني عليك في مجلسك أو على مائدتك، فإن غبت عنه مزّق جلدك وأكل لحمك، ولا يفرّق في ذلك بين الأقارب وغيرهم؛ لأنّ المبدأ عنده ثابتٌ لا يتغيّر: «المدح في الوجه والذّم في القفا».
وما يقع بين الأخوة والأقارب بعد غياب الجذور في المقابر يكشف الحقيقة المرّة التي كانت نائمة خلف ظلّ الكبار، فما إن يرحلوا حتّى يطلّ رأس الشّيطان بين الورثة والأقارب، فيُملي عليهم ما يفرّق جمعهم، ويلوّث فكرهم، ويفقدهم الحلم والصّبر، ولا يتركهم الاّ بعد أن يرفعوا السّلاح بينهم.
أعرف أسرا عديدة عتيدة، كان يُضرب بها المثل في الشّهامة والكرامة والجود والنّجدة، عندما كان الآباء أحياء يرزقون، وبمجرّد رحيلهم رحلت تلك القيم التي كانت تحيا بهم، تفرّق الأبناء والبنات وتبدّلت أحوالهم، فسقطت سمعة العائلة، ولم يعد لها من دلالة غير الذّكرى الحزينة؛ لما آلت إليه أوضاع الفروع الهزيلة، من قلّة الخصب والنّماء، وقلّة الحياء وانتشار العداء واستفحال البلاء. هجروا صلة الرّحم بلا إكراه، واختاروا التّفاصل الى مداه، لا يعرف الصّغارالكبار من قرابتهم، ولا الكبار خلفهم من حاشيتهم، حتّى أصبح العلاج صعب المنال، والعودة إلى الجادّة ضربا من المحال .
لا تَشْكُ بلواك الاّ لمن ابتلاك، ولا تَرْجُ الاّ من تُرفع اليه الدّعوات والرّغبات. وكن على يقين أنّ  ما أخطأك لم يكن ليصيبك وما أصابك لم يكن ليخطئك، ولا تغترّ بنجاح الظّالمين -كما يدّعون-، فسوف ترى عاجلا أم آجلا ما يلاقون من خزي الدّنيا وعذاب الآخرة، واعتبر بمن مضى وفات واستعد لما هو لا محالة قادم آت، وحاسب نفسك قبل أن تحاسب، واعف عن من أساء إليك أو عاتب، فكلّ ينفق ممّا عنده، وحث الخطى الى هدفك بثبات، ولا تلتفت للمثبّطات واقتحم العقبات، وكن على استعداد دائم للرّحيل، ولا تقصر في العمل بالأسباب والوسائل للوصول إلى المحطّة الأخيرة، ﴿وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلكَ غَدًا إِلاَّ أنْ يَشَاءَ اللَّه﴾(الكهف: 23).والعاقل من لا يطيع الهوى فيضل، أو يتّبع غير سبيل المومنين فيزل، والزم الطّريق السّالك، الى رضا الكريم الرّحيم المالك، ﴿بِيَدهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيءٍ وَهْوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِير﴾(المؤمنون: 88).