قراءات

بقلم
خالد إغبارية
إضاءة على ديوان «شرفات على أُهبة حلم» للشاعرة صفاء غليون/جنين فلسطين
 احترتُ فيما أكتب، عن شاعرتنا ابنة جنين القسّام ابنة المخيّم العرين، ابنة نابلس جبل النّار، الشّاعرة «صفاء غليون»، ولم أكنْ قد حسمتُ أمري ماذا سأكتب، لكنّني في اللّحظةِ الأخيرةِ تذكرتُ بعضَهم واتخذتُ قراري فقد فتحوا لي بابًا لنرجسيَّةِ شاعرتِنا . 
هناك من يوصدُ بين بعض شعرائِنا وجمهورِ المُتلقّين أبوابًا، وأنا أعني ما أقول، إلاّ أنّني أتقربُّ منهم وأفتحُ لهم أبوابًا مشرَعةً علّهم يُصبحون أقدرَ منا.
أولاً: وقبل كلّ شيء؛ لك أن تحبَّ أو لا تحبَّ من تشاء، ولك أن يُحِبَّك أو لا يُحِبَّك من يشاء، فالأرواحُ جنودٌ مجندة. 
ثانيا : الكثيرُ ممّن توصدُ أمامَهم الأبوابِ لا يستجدون الحبَّ من أحد، ولا يسعى له أحدٌ، سَعْيَ أولئك الذين يوصدون أو يُشرِعون الأبوابَ على أهوائِهم.
تأمَّلتُ نرجسيَّةَ شاعرتِنا، فوجدتُّها نرجسيةً تعيشُ في ممالِكها التي تُحب.
فشاعرتُنا في نصوصِها كرَّرت كلمةَ الغيابِ ومشتقاتِها من الرّحيل والفراق والحنين والشّوق، «على عجل أتاني فراقك.. فراق أنفاس حجرتك.. لمعارك الحياة». فالأمّ هي الحياة لها وبفراقها ستخوض معارك كثيرة. وكذلك في قولها « فهناك فراشتي .. وبعض سحب تشبه لون أحزانك.. كلّما أعددت حقائب الرّحيل» .
وهناك أسلوبِ الدْراما في حنينها وتزاحمِ الصُّورِ لإشباعِ المعنى والاتِّساقِ مع الدَّفقةِ الشّعوريةِ المرافقة. «أغلقت نافذة  الحنين قصدا .. على أصابع الزّعفران..فأسقطني الغيم في قلبه»، فهناك حنين مقصود وإسقاط لكن في القلب..
وبين أنّ الكاتبة قد عمدت لتوظيف ولإضفاء شيءٍ من الرّقة أو العمق على النّص، ويظهر توظيف الألفاظ لخدمة بناء فكرة النّص وتجذير المعنى فيه. كما جاء بقولها: «سال من مُرِّك طعم التّوت.. كلّما مرّ بي حرف يجسّد وصفك».
ونرى بساطة الألفاظ والبناء اللّغوي المتيسر لتوصيل المعنى المراد، ونوّعت بين أساليب الخبريّة والإنشائيّة من أمر واستفهام وتمنّ.
كما أنّ نصوصها فيها من لغة الشّعر ما فيها،  فيها من الذّكريات الكثير وكذلك الحواريّات، كقولها «هكذا أحاورها كلّ صباح .. صديقتي المجنونة».
 وهناك اختلاف بطول النّصوص يختلف باختلاف الدّفقة الشّعوريّة، فيأتي بعضها بضعة أسطر ويطول الآخر ليستوي سطوراً كثيرة.
يقولون: إنّ نرسيس ابن آلهة النّهر وحوريّة الماء عشق جماله، أحبّ صورته، وذاب غراماً بتلألئها على وجه الغدران، حسبها حوريّة تبادله العشق، فظلّ يذوي بعشقه حتّى هلك ومات، وكان من قبل، قد كسّر قلب «إيكو» حوريّة الصّدى فقتلته الآلهة بشرّ نفسه وحبّه لانعكاس صورته وعجبه بها، وحين أحيته من جديد، جعلته روحاً لأزهار النّرجس، رفيقة الغدران وجارة الأنهار وقرينة الماء، وغدا جمالاً يحيا بحزنٍ أبديٍ مميت، بل صار كلّ من يشبهُ «نرسيس» غروراً وعجباً، لا يحبّ إلاّ صورته، فيغدو معزولاً بضفافه، وبشرايين نرجسه، يحيا ويموت بغيِّها دون أن يدري.
وهكذا كانت «أسطورة النّرجسيّة».
يا شاعرتنا إنّك متميزةٌ إلى الحدّ الذي يعجز فيه من يَقرُبُ منك أن يصفَ الموضع الذي تعتليه على أهبة شرفات حلم، وعلى صهوة جواد شعرك، هي حكاية الشّعر، لا أكثر.. أليس الشّعر ذلك الصّوت المؤدّي تميزه..
فإن كانت الحروف الشّاعرة ترتقي إلى المحل الأرفع، فمرحى لنرجسيّة حروفك النّابضة.
قد يعيش الشّاعرُ جنون قصيدته، أو نزوتها، أو كبريائها، لكن إنسانيّته بيده، ولروح إنسانيّته إمّا أن تنجرف مع جنون قصيدته وإمّا تتنزه حتّى عن كبواتها. لا ننسى أن شاعرتنا ابنة البيت المثالي الذي خلق علاقات طيبة، فكانت شريكة أهلها في كلّ شيء حيث كان معها زوجها وأولادها في نصوصها:
« زوجي الحبيب.. سلطان الشغف انت..» وقولها « تخشع أنّاتي في صلاة النور .. كي يعيد تدوير الظلام.. لشموس حب وحياة.. فراشة الجوى»
نسمع في صوت كلماتها وحسيسها حين تكتب حروفها، أصداءَ تلك الفيافي والرّبوع وتغاريدَ الطيور على أغصان التّين والنّخيل، كقولها «كلّ المروج.. اينعت نخيلاً وقصبًا، يحاكي نبض كلمتنا، ورائحة الزّيتون تُؤازره.. وحلفت أن تعانقه معاصم الكفاح.. ففي عين الأعياد ضحكة طفل».
لم تترك شاعرتنا الوطن جانبا فهو عزّنا وشموخنا «فلسطين.. فيكِ المجد أظهر غايته.. وصافح أكف الثوّار فخرًا.. يعارك سيفه ملاحم الجحيم»، وهل لنابلس في نصوصها قول فهي مسقط الرّأس فتقول: « يا بلدي وبلد الأجداد أحييك.. يا سلطانة عشق.. سال من غيمتها طعم الحياة.. عروس الحب نابلس.. فينا باقية».
وأخيرا لجنين القسّام تغنّي «جنين رسمتها على المآقي.. في العينين.. في وجه العناق.. مُرُّها حلو وشهد.. وترابها حلو المذاق» وأيّ حلو ذاك الذي تضمّخ بدم الشّهداء ورائحة المسك تفوح منه .
فأهلُها أسرتُها وأبناؤُها في الصّف الأول لمنظومتها الحياتيّة، لا نجدُ رَغائبَ النّاس في مفردات قصيدتها، فهي لا تُطلقُ الرَّصاص، لكن قصيدتها صائبة. إنّ الشّعرَ يسكن في البقعة الأقصى من جمال الضّوء، ألا يحقّ لها أن تكون نرسيسيّةً، ألم تقل الأسطورة: إنّ كلّ من رأى جمال نرسيس عشقه؟..وإذا كان الشّعرُ جمالاً، ألا يكون روحاً للورد والماء والسّماء؟ فإذا كُنا لا نَطالُ جمالَ الشّعر فهل يحقّ لنا أن نقتل شاعرهُ؟. إنّ ترابيةَ شاعرتِنا أكبرُ من أن تسقطَ في لعبة الموت تلك؛ فمع كلّ ارتقائها في الضّوء كانت أكثر التصاقاً بالتّراب وبمن يوازيها، يا شاعرتنا امضي بترابيتكِ وبترابيّة شعرك .
وإن تحدثتُ عن هذا الأمر في هذا اليوم لأنّه قد آن لكلّ منا أن ينطق تجربته، وليسقُط ما يدّعون.
وإنّي لأرى في الشّاعرة صفاء غليون، موهبةً وسليقةً وكدًّا شخصيّا، وعصاميّةً وتعلّقا بلغتنا العربيّة، وقدرةً على قرضِ الشّعر والاسترسال في النّثر، ونرى في شعرها تعبيرا عن الوجدان، ووصفا لخلجات النّفس وخفقات الفؤاد، بلغة صافية رقراقة، متخلّصة من أصباغ التّكلّف وطِلاء التّصنّع، متعاليةً عن الحذلقة البيانيّة والبهلوانيّة الإنشائيّة.
هنيئا لك شاعرتنا وليدك الثّاني «شرفات على أهبة حلم» بعد وليدك الأول «صهوة الجوى»
كوني في شعرك نرسيسيّة، وامضي كما أنتِ في أهلك والوطن، ولِبابِكِ أن يبقى مُشرَعاً لكلّ جيل، ولتبقِي بجمال الحقّ.
في تكريمك وإشهار ديوانك نبارك لأنفسنا أننا عشناك.