أهل الاختصاص

بقلم
أ.د.فوزي أحمد عبد السلام
نظام إحداثيات العقل الناقد: تحريره من أوهام بيكون الأربعة
 من كهف أفلاطون إلى الأوهام الأربعة لبيكون
(الكهف نظام إحداثيّات متحرّك)
في أنظمة الإحداثيّات المتحرّكة ما يظهر كحقيقة قد لا يكون كذلك، فالسّرعة النّسبيّة على السّطوح السّرعة الصّفريّة في نظام الأحداثيّات الدّوّارة تساوي صفرا بينما إذا رصدت من نظام إحداثيّات ثابت فلن تساوي صفرا أبدا. يقرّر أفلاطون في كتابه الجمهورية أنّ العالم المحسوس كهف، والظّلال هي المعرفة الحسّية، والأشياء الحقيقيّة التي تُحدث هذه الظّلال هي المُثُل(1). وعلى هذا فإنّ الفيلسوف - حسب أفلاطون - هو الذي يرتقي بنفسه ويفكّر في المُثُل الجوهريّة التي تكمن وراء المظاهر الخارجيّة، ويعرف الحقيقة ويميّز العَرَض من الجوهر(2). أي أنّ المعرفة المكتسبة من خلال الحواس مجرّد رأي، لذلك ينبغي على المرء من أجل الحصول على المعرفة الحقيقيّة أن يعمد إلى التّفكير الفلسفي (ومن وجهة نظري أنّ ذلك مستحيل ويكفي معرفة أنّ كلّ ذلك نسبي ويحتمل الصّواب والخطأ وحتّى بنسبة في كليهما). 
ثم يأتي فرانسيس بيكون بعد أكثر من ألفي عام (1561 - 1626) ليوسّع في كتابه عن أوهام العقل «الأورجانون الجديد أو الوسيلة الجديدة لاكتساب المعرفة» نظريّة أفلاطون عن الكهف (والذي هو بمثابة نظام إحداثيّات متحرّك يغذّي الوهم بداخلنا على أنّه حقيقة والذي يشكّل بداية سجن الإنسان داخل تصوّراته)، ويقسّم الأوهام البشريّة إلى أربعة أوهام تحاصر الفكر الإنساني. 
أوهام الكهف 
«من رآك من حيث هو فإنّما رأى نفسه»
محيي الدّين بن عربي
المقصود بالكهف هو كهف الفردانيّة، الشُّعور العميق بالتَّفرُّد، التَّوَحُّد مع الذَّات، فلكلّ فرد من النّاس كهفه الخاصّ، مأسور بداخله، يعزله عن الرّؤية الشّاملة المستنبطة من المنطق. يجعل منه عبدا تابعًا لبيئته الخاصّة ولمستوى تعليمه وثقافته وظروفه الخاصّة ولتجاربه الشّخصيّة وملكاته، إنّه بمثابة الكهف الأفلاطوني، فمن هذا الكهف «التّصورات» ننظر إلى العالم، وعلى جُدرانه الدَّاخليَّة ينعكس نور الطَّبيعة فيصبغه بلونه الخاصّ. ولن نرى الحقيقة النّسبيّة إلاّ بعمل عقلي مجرّد، وهيهات أن نصل الى تلك الحقيقة المجرّدة بمحض عقولنا. وتحت ضغط هذه الفكرة وصل «بيركلي» الى اعتبار أنّ العالم وهم؛ لأنّ ما نراه لا يمثل العالم. 
إنّ لكلّ فرد تكوينَه الجيني، ثقافتَه التي نشأ عليها، تربيتَه وظروفَه وقراءاته وقُدوتَه الخاصّة وموروثَاته، عاداته وتقاليده وظروفه الخاصّة، تتفاعل كلّ هذه الأشياء وأكثر فيؤدّي إلى اختلاف الانطباعات التي تتركها الأشياء في الأذهان المختلفة، فمن النّاس من يميل إلى ملاحظة الفروق بين الأشياء وتأمّل التّفاصيل، ومنهم من هو أميل إلى ملاحظة أوجه الشّبه بين الأشياء، وهم أصحاب المزاج التّأمّلي الاستدلالي، وكلا الصّنفين من العقول عرضة للشّطط، سواء بالتّشبُّث بالفروق التّافهة أو بخيالات التّشابه. 
مثال آخر، كثيراً ما نرى الأشقّاء في الأسرة الواحدة يتّصفون بطبائع مزاجيّة مختلفة تؤثّر في ميولهم المعرفيّة، رغم تشابه الظّروف التي يعيشون في ظلّها. فقد تجد بعضهم يميل الى الانغلاق أو الشّدّة والحدّة في التّفكير فيما يميل الآخر الى الانفتاح والهدوء والتّسامح. فالمزاج يؤثّر في التّفكير، ومن كان حادّ المزاج فإنّه يغلب عليه التّسرّع في الأحكام المعرفيّة والقيميّة ومن ثمّ الوهم. وكلّ ذلك قد يكون ضمن تركيبة الفرد من النّاحية التّكوينيّة أو البيولوجيّة. وعلى كلّ دارس للطّبيعة أن ينظر بارتياب إلى كلّ ما يفتن عقله ويأخذ بُلبِّه؛ حتّى يحفظ ذهنَه صافيًا ومتوازنًا، وقد اعتبر بيكون هذا النّوع أخطر الأوهام. 
أوهام القبيلة
«دَعُوهَا، فإنَّهَا مُنْتِنَةٌ»
حديث شريف معبر عن فقدان المرجعيّة لاعتبار القبيلة هي المرجع
 عندما يكون الخطر عامّا يلجأ العقل الفردي إلى التّمسّك بتقاليد وأعراف القبيلة، والانصهار في طريقة تفكير العقل الجمعي للقبيلة، يتحيّز عاطفيّا وغريزيّا داخل إطارها، وتصبح القبيلة نقطةَ الأصل في الإحداثيّات لديه، وكلّما كانت نقطة الأصل تلك ثابتة كلّما أمدّتنا بتصوّر صحيح عن الظّواهر، فما بالنا إذا كانت متحرّكة بتسارع سوف نفشل حتما في معرفة الحقيقة، تماما مثلما يحدث مع من هو في مصعد يتحرّك بتسارع في الفضاء الحرّ بعيدا عن أيّ نظام كتلي تثاقلي يجذبه، لكنّه سيظنّ ذلك وليس لديه أيّة وسيلة لنفي ذلك الظنّ (الوهم) ويصبح كإنسان مُحاصر بجواسيس الحركة المتسارعة الذين يلبسون عليه أمره. وربّما لجأ إلى التَّعميمات التي تؤيّد تحيّزاته في تفسيره للظّواهر وفي حكمه عليها، وهذا بحدّ ذاته أحد الأوهام التي تقود العقل إلى الوقوع في خطأ إصدار الأحكام وإخفاقه في تحليل سبب الظَّواهر المختلفة وسياقاتها. على سبيل المثال - فرض النِّظام والاطِّراد في الطَّبيعة بأكثر ممّا هو مُتحقّق فيها، وأن نقيس أفعال الطَّبيعة على مثال الفعل الإنساني الإدراكي أو العصبي أو البيولوجي، أيْ كأنَّها واعية – بمعنى تنميط الظَّواهر الطَّبيعيَّة وفق نمط إدراكِنا لأفعالنا ولردود أفعالِنا ولأحاسيسنا واستجاباتِنا - فنتصور أنَّ أفعال الطَّبيعة لها غايات وعلل غائيَّة؛ قياساً على تصوُّرِنا للدّوافع التي تحرِّك سلوكنا.  
أوهام السّوق
«لا يحيط باللّغة إلاّ نبي»
 الشافعي
هي أوهام ناشئة عن التّواصل بين النّاس أي تنشأ نتيجة للغة التّخاطب والتي هي مليئة بالإلتباس والغموض، وتعدّد المعاني للفظ الواحد. إذ نظن أنّ عقولنا تتحكّم في الألفاظ، بينما الألفاظ سجون للمعاني، وخطرها ينجم عن ميل الذّهن إلى الانبهار بالألفاظ دون تمحيص. يلتقي النّاس في المقاهي والأندية العامّة والأسواق التّجاريّة وغيرها من مواطن الاجتماع، فيتحادثون في مختلف الشؤون بلغة مشتركة بعيدة عن المنطق، وفى ظلّ هذه اللّقاءات تفقد الألفاظ دلالتها الحقيقيّة وتعجز اللّغة عن تحقيق وظيفتها التي هي التّعبير الصّادق عمّا يستقر في الذّهن. وأحيانا صكّ ألفاظ تحمل دلالات معيّنة (لاتعكس الحقيقة غالبا) ويتمّ الإلحاح على أذهان الجماهير إعلاميّا بقبولها مثل مصطلح الإرهاب وتكون في الغالب لتحقيق مصالح معيّنة وتؤدّي في نهاية الأمر إلي إيقاع الكثير من  النّاس في الوهم.
اوهام المسرح
 «إيّاك أن تكون من الثّقاة على ثقة»
ابن فارس
هي أوهام ناتجة عن تبنّي النّظريّات والمعتقدات الخرافيّة، أو تبنّيها على نحو غير نقدي، أو نتيجة للتّأثر بالقيادات الفكريّة، أو التّقليد الأعمى، وكما يقول أبو عمر بن عبد البرّ حافظ المغرب «لا يقلّد إلاّ غبي»، أوغسل الدّماغ إعلاميّا عن طريق مراكز قوى إقتصاديّة/عسكريّة للسّلطة. ويصل فيها الحال الى أنّ الكثير من العناصر والمبادئ الخاصّة بالعلوم تكون قد تسرّبت الى العقول علناً واكتسبت قوّتها الاقناعيّة من خلال التّقليد والتّصديق السّاذج، مثل إحترامنا الزّائد لآراء القدماء. 
مثال ذلك عندما قرّر «جاليليو» أنّه لو قذف من مكان عال بحجرين أحدهما يزن رطل والأخر عشرة أرطال، فإنّ كلاهما يصل في نفس الوقت، وقد أجرى «جاليليو» هذه التّجربة على ملأ من أساتذة الجامعة، ورغم نجاحها وصدقها واقعيّاً إلاّ أنّ المشاهدين كذّبوا أعينهم وذلك لأنّ كبير فلاسفة اليونان «أرسطو» قال عكس ذلك.
شغف نظري بالحكمة التّجريبيّة
«لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ  *** عارٌ عَلَيْك إذَا فَعَلْت عَظِيمُ»
أبو الأسود الدؤلي
برغم أنّ العقّاد قال عن بيكون في كتابه «بيكون: مجرّب العلم والحياة»: «وجملة ما يُقال عنه أنّه كان عصرا لا يوجد في عصور التّاريخ ما هو أولى منه بتخريج بيكون». واعتبر الفيلسوف والمؤرخ اﻹنجليزي «ويل ديورنت» أنّ «فرنسيس بيكون» في كتابه «البحث الجديد» قد بعث الحياة مجدّداً لعلم المنطق، قائلا: «كان أساس عمله هو بيان أثر اﻹنسان في تزييف الحقائق»، وفيلسوف التّنوير الفرنسي «كوندياك» يقول عن بيكون: «إنّه لم يفهم أحد أخطاء اﻹنسان مثل بيكون»، إلاّ أنّ نظام إحداثيّات الثّابت يقرّر أنّ  بيكون رغم شغفه بالعلم ورغم كلّ ذلك المديح لم يكن متابعا جيِّدا لما يدور في زمنه من أبحاث علميّة، فقد رفض نظريّة «كوبرنيقوس»، وتجاهل نظريّة «كبلر»، ولم يعرف قدر أبحاث «وليام جلبرت» في الكهربيّة والمغناطيسيّة، ولم يعرف فيما يبدو شيئًا عن «فيساليوس» رائد التّشريح. ومن عجب أنّه لم يكن على دراية بعمل «هارفي» رغم أنّه كان طبيبه الخاصّ.
متلازمة التّوهّم 
«أيّ نظام يحوي جملة واحدة على الأقل لا يمكن له إثباتها أو نفيها»
مبرهنة عدم الاكتمال
يولد الإنسان حسب «بيكون» مزوّداً بإمكانيّة للتّوهم والخطأ لا تنفك عنه، والسّبيل لذلك يكون عبر تنقية العقل من اﻵراء المتحيّزة والتّصوّرات المسبقة التي قام بجمعها وتصنيفها كأوهام كبرى، فالوهم هو صورة خادعة ترتسم في الذّهن عن الحقيقة، ولكن للعقل قدرة أن يحدّ من تسرّبها إليه عبر الوعي بها والتّنبه منها، واختيار الشّكّ منهجا عند التّفكير في أي شيء. 
وكان يقول إذا أردنا وضع اﻷشياء وفقاً ﻷهمّيتها وقيمتها الحقيقيّة، عندئذٍ تكون العلوم العقليّة ومنها المنطق مفتاح لبقيّة العلوم. والخطوة الأولى لعمل ذلك هي إعادة العقل صفحة بيضاء.
 يعتقد «بيكون» أنّ من الممكن التّخلّص من جميع أنواع الأوهام عبر ما سمّاه الاستقراء الصّحيح، أي استنطاق الواقع عبر التّجارب والملاحظات والاختبارات، مع أنّه إذا كنّا نعتبر أنّ من ضمن الأوهام تلك المتعلّقة بالجانب الصّوري الأوّلي، فإنّنا نعجز عن تعديل هذا النّوع. 
كذلك فإنّه إذا كان من الممكن للفرد أن يتفادى الكثير من الوهم فإنّه يعجز عن أن يتفادى جميع حالات الوهم باضطراد، لا سيّما أوهام الكهف، وهو مبعث خطورتها.
إمكانية الفرار النّسبي من الوهم
«الحكم على الشّيء فرع عن تصوره»
قاعدة ذهبيّة تعصمك من الوهم
من تراثنا الثّقافي أنّ أكثر النّاس لا يعرف الفتنة إذا أقبلت، ولكن ربّما يعرفها إذا هي أدبرت، قال الحسن البصري رحمه اللّه: «العالِم يرى الفتنة وهي مقبلة، والجاهل لا يراها إلاّ وهي مدبرة». 
لك الحقّ أن تتصوّر أنّها - أي الفتنة - قد أكلت دين من لم يرَها مقبلة، لأنّه لو رآها مقبلة كالعالم لتحصّن منها ولقوّى دفاعاته في وجهها. ولذلك ولكي لا تقع في جبّ الوهم، يجب تقديم الاستدلال «صدق التّصوّر» على الحكم، ولذلك قال العلماء كلمة طيّبة: «استدل ثمّ اعتقد ولا تعتقد ثمّ تستدل فتضلّ». قال ابن الجوزي رحمه اللّه: «جاء أقوام فأظهروا التّزهّد، وابتكروا طريقة زينها لهم الهوى ثمّ تطلبوا لها الدّليل وإنّما ينبغي للإنسان أن يتبع الدّليل لا أن يتبع طريقا ويتطلّب دليلها»(3). 
ولذلك حذّرنا القرآن من أنّ أكثر النّاس لا يعقلون، لأنّ الميديا تلعب دورا كبيرا في إنشاء هذيان الجماهير من حيث أنّها تأخذهم رأسا إلى الحكم، وتثبته في أدمغتهم دون بناء التّصوّرات. والمدافعون عن الدّيموقراطيّة يقولون أنّها جيّدة، عندما يوجد الوعي، وإلاّ أصبحت مهزلة، ورصيد الدّيموقراطيّة أن يبقى وعي الأمّة قبل الصّناديق، والوعي هنا يمثّل  بناء التّصوّرات أولا. 
الهوامش
(1) جميل صليبا  (1982)،» المعجم الفلسفي» - الجزء الثاني. بيروت: دار الكتاب اللبناني. ص. 246-247. 
(2) بكري علاء الدين (2016)، «أفلاطون.»  الموسوعة العربية. هيئة الموسوعة العربية سوريا - دمشق. 
(3) ابن الجوزي، صيد الخاطر، دار ابن حزم للنشر،  طبع (2005)
(4) قال الله تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ﴾ [العنكبوت:63]. وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ [الحجرات: 4].