نقاط على الحروف

بقلم
د.عبدالله التركماني
بعض مظاهر المحنة العربية (1/2)
 ليست الكارثة السّورية المظهر الوحيد للمحنة العربيّة التي تتجلّى في أكثر من دولة عربيّة، وإذ يمنح التّاريخ للشّعوب لحظات حاسمة من حياتها حتى تقف أمام الحقائق العارية لاستخلاص الدّروس الكبرى لمواصلة البقاء، فإنّنا أمام لحظة فاصلة يتحتّم فيها على العرب أن يحسنوا استشراف ما هو متوقّع ومحتمل، بعيداً عن التّمنِّي والرّجاء، وبعيداً عن الاستغراق في الأوهام. 
وتبدأ المحنة من نقص كفاءة النّظم السّياسيّة السّائدة وضعف قدرتها على تفادي توريط شعوبها في مأزق جديد بين حين وآخر، حيث تكون النّتيجة هي أن تدفع الشّعوب الفاتورة الغالية، بينما تستمتع بعض النّظم بميزات متزايدة وإمكانات ضخمة. وغالباً ما يرتبط ذلك بديكتاتوريّة الحكم وغياب الدّيمقراطيّة وسيطرة التّخلّف السّياسي، بل وشيوع الفساد أيضاً. فقد ألَّه النّظام السّياسي العربي الفرد الحاكم، وامتهن كرامة الشّعب وأذلَّه وأرعبه بالقمع الوحشي، وأشاع الفساد، واضطهد الأحرار، وأعطى دوماً القدوة السّيئة في الكذب والتّزوير والتّعصّب والمحاباة، وفرّط في استقلاليّة القرار الوطني. 
إنّ محنة العرب تأتي من مجموع الفرص الضائعة على مختلف الأصعدة، بدءاً من غياب التّضامن العربي وضعف التّنسيق السّياسي ومحدوديّة التّكامل الاقتصادي، ووصولاً إلى تزايد الفاقد من قدراتهم والذي يبدو أكثر كثيراً من المتاح منه، فضلاً عن سوء استخدام الموارد أو توظيف القدرات. ولكنّ التأخّر السّياسي هو جوهر القضيّة، منه بدأت مآسينا وعنه انطلقت مشاكلنا وارتبطت به نكباتنا وهزائمنا بل كوارثنا. 
وإذا كان الفساد ظاهرة عالميّة تعاني منها كلّ المجتمعات وتعرفها كلّ النّظم ويدفع ثمنها المواطن العادي في كلّ الشّعوب، فإنّ شيوع الفساد وتجاوز معدلاته للنّسب المعتادة في العالم العربي هو الأمر الذي يدعو إلى القلق ويحتاج إلى المراجعة، علماً بأنّ الفساد كلّ لا يتجزأ ترتبط عناصره المختلفة بالجوانب السّياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، في ظلّ مناخ عامّ تغلب عليه المعايير السّطحيّة وتختلط فيه السّلطة بالثّروة، وتغيب عنه ضوابط حماية المال العام ويضعف فيه الشّعور بالانتماء إلى الوطن، وعندئذ يتفشّى الفساد وتشيع المحسوبيّة وتنتشر الرّشوة وتختفي القيم الإيجابيّة وتسود السّلوكيّات المظهريّة، وتبدأ حالة من الغليان لدى الفئات الشّعبيّة وهي تشعر بالتّناقض بين ما تعيش فيه وبين ما تراه حولها.
ثم فلننظر إلى واحد من معوّقات التّقدم في العالم العربي،‏ وهو الفرق بين الكلمة ومعناها‏،‏ بخلاف الوضوح والتّطابق بين المعنى المقصود منها في الدّول المتقدّمة‏،‏ وهو الشّرط الأساسي لعدم التّشرذم في الحركة الاجتماعيّة المساندة لتحقيق أيّ هدف عام،‏ وهو الحبل الذي يربط المجموع ببعضه،‏ فحين يقع التّضارب بين الكلمة المنطوقة ومحتواها الفعلي‏ يحدث التّشوّش‏،‏ والتّفكّك،‏ والتّقاعس،‏ واللاّمبالاة،‏ وعدم الجدّية،‏ وضياع الالتزام‏.‏ حتّى أنّ شعوباً عربيّة فقدت الإحساس بالمعنى العظيم لكلمة الحرّية والاستقلال‏ عندما وجدت أنّ أنظمة الحكم التي نقلتها من عصر الخضوع للاستعمار قد أدخلتها إلى عصر من الحكم الشّمولي‏،‏ والتّسلّط الفردي‏،‏ ونظام الحزب الواحد،‏ وفي بعض الأحيان حكم الدّولة البوليسيّة‏.‏ ففقدت الحرّية معناها‏،‏ والاستقلال مدلوله‏،‏ وتحوّلت الكلمتان إلى لافتات مرفوعة على وطن يفترض أنّه حرّ مستقل.
وهكذا، ينطوي الوضع في العالم العربي على عدد من المعوّقات السّياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثّقافيّة التي تحول دون النّهوض الحضاري:
(1) تضخم دور سلطة الدّولة وغياب الدّور الأساسي لمؤسّسات المجتمع المدني والتي تتعرّض لقيود تعوق حركتها في تطوير الممارسة الدّيمقراطيّة، بسبب إحكام النّظم السّياسيّة قبضتها على تلك المؤسّسات من خلال مرحلتين: سيطرة العسكريّين أو الأسر الحاكمة على مقاليد البلاد بعد الخلاص من مرحلة الاستعمار، ثمّ تنامي نفوذ المؤسّسات الأمنيّة بشكل تضخّمت معه أجهزة السّلطة وتقزّمت الدّولة وتوارت مؤسّسات المجتمع المدني وانحسر دور النّقابات والجمعيّات المهنيّة المستقلّة، إمّا بسبب القيود التّنظيميّة أو التّدخّل الحكومي في انتخاباتها وتوجّهاتها.
(2) ضعف الالتزام باحترام القانون في أغلب المجتمعات العربيّة، والافتقار إلى سيادة القانون وتساوي كلّ المواطنين حكاماً ومحكومين أمامه، ممّا جعل معظم النّاس يعيشون ثقافة تولِّد أجيالاً عربيّة لا تحترم القانون وتنظر إليه على أنّه تنظيم لردع الأقلية غير المنضبطة، وليس نظاماً للمجتمع وتوفير أساس لضوابط الحرّيات والحقوق والواجبات وتحديد المسؤوليّات.
إنّ ما أصاب المشروع العربي هو أنّه لم يتعزّز بالدّيمقراطيّة وظلّ أسير تجاذباته وأزماته ولم يوسِّع قاعدته على أساس المواطنة والانتماء والتّعدديّة، لذلك لم تظهر الدّولة الدّيمقراطية الحديثة إلاّ في الشّكل التّبعي للنّظام، وتحوَّل الخطاب العربي إلى قناع يخفي التّأخر والعجز والعيوب. ولم تتأسّس بالتّالي العلاقة التّعاقديّة بين الفرد والمجتمع، الفرد بصفته مواطناً وليس مجرد عضو في الطّائفة والعشيرة والقبيلة، التي بدورها تقوم بالتّعاقد مع النّظام. ومن هنا يبدأ خلل المعاني والوظائف والأحوال، فلم تعد الدّولة المعبِّر الحقيقي عن أهداف وتطلّعات وأماني الشّعب الذي انبثقت منه، فبدلاً من أن تمارس دورها في تحقيق التّغيير لعبت دوراً آخر في تجميد المجتمعات العربيّة وقمعها وتعجيزها. 
على أيّ حال، نحن إزاء عجز مضاعف ومركَّب في العالم العربي، سواء لجهة معالجة المشكلات المتراكمة والمزمنة في الدّاخل، أو لجهة تطوير صيغ ومؤسّسات العمل العربي المشترك، أو لجهة التّعاطي مع التّحديات الخارجيّة والتّحوّلات الجذريّة المتسارعة التي يشهدها العالم. والعجز في الدّاخل المحلّي والوطني والإقليمي هو الوجه الآخر للتّبعيّة والهامشيّة لجهة العلاقة مع الآخر والخارج على المستوى العالمي، لأنّ من يعجز عن إدارة شؤونه وتنمية بلده وبناء قدراته، بإطلاق قوّاه الحيّة واستثمار طاقاته الخلاقة، لن يقوى على ممارسة دور فعّال على مسرح الأمم.
الخلل الرئيسي في المشروع العربي 
منذ النكبة الفلسطينيّة في العام 1948 وحتّى الاحتلال الأمريكي للعراق في العام 2003، والكارثة السّورية منذ العام 2011، والعالم العربي ينحدر في هزائمه ونكساته وخيباته، ولكن بين هذه التّواريخ ماذا تغيّر في الخطاب والمشهد والمجتمع العربي؟ 
بعد عقود عديدة من التّجارب المريرة والنّضالات المتواصلة، وراء مشاريع اختلفت عناوينها ونسخها، نجد أنّ الحصيلة واحدة، وإن تفاوت الأمر بين بلد عربي وآخر: إعادة إنتاج الفقر والتّفاوت أو القهر والتّسلّط أو الجهل والتّعمية، فضلاً عن إنتاج المزيد من التّبعيّة والهامشيّة، ولا عجب أن تكون الثمرة السّيئة لذلك كلّه الهزائم المتلاحقة. 
عندنا، الأمور تجري بالعكس من أكثر البلدان وفي أغلب الحالات: التّعامل مع التّحوّلات والمستجدّات بعقليّة المحافظة والتّقليد، أو بلغة التّهويم والتّهويل، أو بعين الاختزال والتّبسيط، أو بمنطق الثّبات والتّحجّر والانغلاق. بل أنّ بعض العرب يواجهون الهزائم والكوارث بالعودة إلى القديم، بل الأقدم والأسوأ من الصّيغ والمفاهيم أو النّظم والتّقاليد المتقادمة أو المستهلكة والعقيمة، فيما التّعاطي المجدي مع التّحديات الجسيمة يتطلّب المبتكر بل الاستثنائي من الأفكار والمواقف والإجراءات. 
لنعترف: ثمّة منظومة أيديولوجيّة قوميّة انهارت مع سقوط النّظام العراقي السّابق، بمسلماتها الثّابتة وأطرها النّظريّة وآليّاتها العمليّة، بقدر ما فقدت مصداقيّتها، بساستها وأمنائها وقممها، بجنرالاتها وإعلامييها، بمفكريها ونظريّاتهم المتهافتة، فضلاً عن مثقّفيها القاصرين والمذعورين من التّحولات الثّقافيّة العالميّة، وسائر رموزها الذين بحجّة الدّفاع عن سمعة العرب والكرامة القوميّة، غرقوا في وهم المارد العراقي بقدر ما وقعوا في فخّ الاستراتيجيّة الأمريكيّة. والنّتيجة - كما هي العادة - خراب المعنى وتدمير القضايا، على ما تشهد العلاقة مع قضيّة الوحدة العربيّة، حيث الدّعاة والمنظّرون لها هم الذين عملوا على تقويضها بعقليّاتهم القاصرة وأفكارهم الأحاديّة وتصنيفاتهم المتخلّفة وقصور وعيهم. وإذا كان ثمّة عمل عربي ناجح، فصناعه وأصحابه هم المنتجون والمبدعون والمثقّفون العضويّون والشّباب والنّساء الذين يسهمون من غير ادّعاء في خلق مساحات ولغات ومصالح وأسواق عربيّة للتّداول والتّبادل والتّفاعل. 
لقد استمرت الأنظمة العربيّة في نفاق الدّعوة القوميّة الكامنة في لباب وعي مواطنيها، حفاظاً على الشّرعيّة في بعض الأحيان، وركوباً للموجة في بعضها الآخر. فإذا كان لا مفرّ نظريّاً من اتحاد عربي يعبر عن الحالة الثّقافيّة العربيّة، ولا طريق لتحقيق ذلك عمليّاً، فليكن الحلّ في أن تمارس الثّقافة تجلياتها بمعزل عن السّياسة. خاصّة أنّ النّظام الإقليمي العربي تقاومه المصالح وتعطّله الامتيازات والعادات والمجاملات، بل تحبطه ثقافة سياسيّة امتهنت التّسويف، وتخشى النّخبة فيه التّصريح بما هو حقيقي مسايرة للجمهور الذي يحبّ أن يسمع الكلام المعسول والأماني الوردّية و«هزيمة العدو شرّ هزيمة»، وتسكره أحلام اليقظة وبشائر الوهم.
إنّ النظام الإقليمي العربي يبدو في حالة ضعف ووهن شديدين ويجد نفسه عاجزاً عن التّعاطي المجدي مع الأزمات الكبرى التي تواجه الدّول العربيّة، وتبدو إزاء ذلك الحاجة ماسّة لإعادة صياغة النّظام ومؤسّساته بما يتوافق مع الأوضاع والمعادلات الجديدة، التي أضحت تمثل تحدّياً كبيراً للعرب ومستقبلهم السّياسي وكينونتهم في الخريطة العالميّة.
أمّا صفات النّظام المأمول فهي مبنيّة على: ترابط الحكومات والمجتمعات ترابطاً منطقيّاً وحديثاً، قائماً على التّفاعل الحيّ والمرن، وعلى مؤسّسات قابلة للتّطوّر. ومن هذا التّوافق المحلّي ينبثق نظام إقليمي له مرجعيّة واضحة. والسّؤال هو كيف نعيد بناء النّظام العربي من حيث هو أنموذج الحكم والإدارة والإنتاج داخل كلّ قطر عربي ومن حيث هو منظومة تعاون وتكتّل وتضامن بين المجتمعات العربية نفسها؟ 
لا اعتقد أنّنا نستطيع أن نتجاوز وضع الانحلال، وما سينجم عنه من تفتّت للقوى وتنازع وصراعات وفوضى، ما لم ننجح كمجتمعات في إعادة بناء رؤية موضوعيّة جديدة وخلاّقة لهذا النّظام العربي الذي نتحدث عنه في جانبيه المجتمعي والإقليمي. وأعتقد أنّ الدّور الأساسي للمثقّفين يدخل - تحديداً - في المساهمة الجدّية في صوغ هذه الرّؤية الجديدة وفي العمل على نشرها وتطبيقها في الواقع، وهذا يتطلّب في نظري حسّاً نقديّاً عميقاً وجرأة على التّخلّص من النّماذج القديمة الفكريّة والسّياسيّة، وقدرة على التّواصل مع قطاعات الرّأي العام المختلفة، وارتفاعاً على المصالح الآنيّة. وأعتقد أنّ المثقّفين النّقديّين هم أصحاب الدّور الأول في صوغ مثل هذه الرّؤية التي لا يمكن من دونها قيام أيّ عمل سياسي منظم جديد ولا إطلاق المبادرة السّياسيّة للمجتمع، كما لا يمكن من دونها التّفكير في إعادة بناء المؤسّسات المختلفة الاقتصاديّة والإداريّة والقضائيّة والقانونيّة وسواها. 
إنّ التّعاطي المجدي مع التّحديات وتجاوز الأزمات يحتاجان إلى عقل جديد وثقافة مغايرة ونظام آخر لصناعة الحياة والمستقبل، فالقيمة الأولى في عالم اليوم هي لما ننجزه من الابتكارات في المعرفة والتّقنية والقيم الحضاريّة، وليست لثقافة الاستقواء والطّغيان أو العنف والتّطرّف.
كفانا أولاً، مكابرةً وتهرّباً من حمل المسؤوليّة. وكفانا ثانياً، إنكاراً للحقائق الصّارخة. وكفانا ثالثاً، التّمسّك بمقولات وقيم تورث الهزائم والمهالك. وكفانا أخيراً، الاستشهاد بنصوص حول الدّفاع عن النّفس لم يحسن أصحابها سوى انتهاكها. فلا تزال القصّة عينها تتردّد: الأنظمة الفاسدة والأسلحة الفاسدة والزّمرة المتآمرة الخائنة والشّعارات الفارغة والتّماثيل والأنصبة الفارعة. 
ولا مبالغة في القول بأنّ الاحتلال الأمريكي للعراق أطلق رصاصة الرّحمة على المشروع العربي، إذ تكشّف مدى التّخريف والتّهويم أو الهشاشة والهامشيّة فيما طرحه العرب من شعارات تتعلّق بالوحدة والتّقدّم أو بالتّحديث والتّنمية، أو فيما وضعوه من الخطط والاستراتيجيّات لمقاومة عمليّات الابتزاز والضّغط التي تمارسها الدّول العظمى والقوى الفعّالة الطّامعة بالغنيمة العربيّة من الموارد والأسواق والمواقع. 
 لقد سقطت تاريخيّاً التّجارب التي حملت اللّواء القومي العربي، وتداعت الأنظمة التي مثلته، وعجزت القوى القوميّة، في العديد من المواقع، على أن تقدّم أنموذجاً بمستوى الفكرة التي حملتها. إذا لم نقل ساهمت، كقوى، بشكل مباشر أو غير مباشر، في تشويه الحلم وتراجعه، ممّا جعل الهوّة تزداد اتساعاً بين الشّعوب العربيّة والتّجارب القوميّة، لدرجة بدا فيه هذا التّباعد وكأنّه تنكُّر للانتماء العربي.
فمع انهيار الحركات القوميّة ووصول أنظمتها بالمجتمعات العربيّة إلى طريق مسدود تتنامى في أوساط الرّأي العام العربي، وبشكل خاصّ الرّأي العام الشّبابي، نزعة عدائيّة تجاه البرامج والشّعارات والأهداف التي استحوذت في الماضي على عقول النّاس وأفئدتهم لعقود طويلة.  وينهال النّقد - بصورة عشوائية - على كلّ البرنامج الوطني العربي الذي بلورته الحركات الشّعبيّة منذ بدايات القرن العشرين في مواجهة الاحتلالات الغربيّة للأقطار العربيّة أولاً ثمّ في مواجهة علاقات التّبعيّة والاستعمار الجديد ثانياً. والمشكلة ليست في نقد البرامج الوطنيّة، ولكن في تطوير نزعة عدميّة وسوداويّة تجاه الحقب السّابقة لا تفرّق بين أخطاء الزّعماء وتهافت النّخب السّياسيّة وتضحيات الشّعوب. 
إنّ رفض الماضي والتّنكّر له لا يفيدنا في فهم ما يحصل لنا ولا يساعدنا على فهم الأسباب التي تكمن وراء إخفاقنا وكيف حصل هذا الإخفاق ومن هو المسؤول عنه، أي لا يساعدنا على أن نميِّز بين سياسات أو اختيارات سياسيّة واستراتيجيّة خاطئة وسياسات إيجابيّة ينبغي بلورتها وتطويرها حتّى نخرج من المأزق الذي نحن فيه.
‏وهكذا، يطرح المستقبل العربي تساؤلات عديدة‏،‏ تستحق الإجابة عليها من خلال حساب الذّات للوصول إلى رؤية واضحة تستفيد ممّا نمتلكه من إمكانات كي نتعاطى بشكل مجدٍ مع هذه التّحديات والمتغيّرات الدّوليّة وتأثيراتها علينا‏. ونستطيع أن نوجز هنا خمسة من هذه المتغيّرات والتّحديات لما لها من تأثير علينا،‏ وبحساب الذّات نبحث عن الوضع الأمثل الذي نحقّق به آمالنا وطموحات شعوبنا، وتتمثّل في التالي‏:‏
(1) التّضامن العربي‏:‏ علينا الحفاظ على تضامننا العربي‏ الذي نتحصّن به من كلّ المخاطر والشّرور التي تحيط بنا في الحاضر والمستقبل،‏ من خلال إقامة بنيان متكامل لنظام إقليمي عربي قويّ‏‏ قادر على مواجهة تحديات الظّروف الرّاهنة الإقليميّة والعالميّة‏،‏ والتّعامل معها بجديّة وعقلانيّة وفق استراتيجيّة عربيّة موحّدة ومحدّدة الأهداف والوسائل‏‏، مع تعزيز الرّوابط مع دول الجوار، وعلى الخصوص تركيا.‏
‏ (2)‏ قوّة العرب الاقتصادية‏:‏ علينا إدراك أنّ القوة الاقتصاديّة أصبحت تتساوى أو لا تقلّ كثيراً عن القوّة العسكريّة،‏ فكلتاهما تمثّل قاعدة صلبة لحماية المجتمعات‏،‏ بدليل أنّ العالم يعيش الآن عصر التّكتّلات الاقتصاديّة.‏ وأمام هذا الواقع لم يعد أمام العرب خيار أو بديل إلاّ بناء مؤسّسات اقتصاديّة قويّة‏،‏ باعتبارها أهمّ ضمانات الاستقرار والعامل الحاكم لضبط مسيرة النّمو والتّقدّم في أيّ مجتمع‏،‏ وضرورة إعادة صياغة التّنمية البشريّة العربيّة وتأهيلها من خلال مناهج تعليم حديثة مدعومة بأسباب التّكنولوجيا، وذلك لإدارة هذه المؤسّسات حتّى يمكن الارتقاء بأدائنا على مختلف المستويات‏،‏ والسّعي إلى ربط دول عالمنا العربي بمصالح اقتصاديّة مشتركة تكون نواة للسّوق العربية المشتركة.‏
(3) العولمة والتكنولوجيا‏:‏ أصبحت العولمة أمراً واقعاً أردنا أو لم نرد، فقد بات من الضّروري توجيه قدراتنا للاستفادة من إيجابيّاتها وتقليل سلبيّاتها وتجنُّب أضرارها‏،‏ من خلال الاستفادة من التكنولوجيا الحديثة لتطوير منتجاتنا لوضعها في قائمة المنافسة العالميّة، وفي ذلك ضمانة مؤكّدة لتوسيع قاعدة الإنتاج،‏ وخلق فرص عمل منتجة لشبابنا،‏ وتقليل الفجوة في الميزان التّجاري، ممّا يؤدي إلى تحسن اقتصادنا العربي.‏
 (4) ‏ الإصلاح السّياسي‏:‏ علينا العمل وبجدّية كاملة لإقرار خطط للإصلاح السّياسي تحقّق الدّيمقراطيّة وإطلاق الحرّيات العامّة وإعلاء حقوق الإنسان، وبذلك نستجيب لمطالب الشّعوب بالمشاركة في صياغة مستقبل بلادها.‏
(5) مواجهة الإرهاب‏:‏ ضرورة أن نقدّم للعالم خطاباً إعلاميّاً موحّداً وقادراً على مواجهة هاجس الإرهاب،‏ الذي ترتَّب عليه تغيير جذري في مفهوم الأمن الدّولي‏،‏ وارتباطه بمفاهيم الأمن الإقليمي.
وفي الواقع يبدأ الأمن القومي لدولة من الدّول من حدودها، وبصورة أكبر من أوضاع مواطنيها، فإن كانوا أحراراً دافعوا عنها، وإن كانوا أذلاّء مظلومين طال ذلّهم كلّ شأن من شؤونهم الخاصّة والعامّة، وعجزوا عن إقناع أنفسهم بضرورة التّضحية من أجل دولة تنتهك وجودهم الشّخصي وتقوّض أمنهم. هنا أيضاً، لسنا حيال مسألة خارجيّة، فالمواطن ليس خارجيّاً بالنّسبة إلى الدّولة، بل هو ركيزتها، ومن دونه لا تقوم لها قائمة.
وفي مثل هذا المناخ السّياسي والفكري يغدو مبرراً التّساؤل إن كانت المقولات المشكّكة في الهويّة العربيّة لأغلب شعوب المنطقة تصدر عن قراءة موضوعيّة لتجربة هذه الشّعوب التّاريخيّة، ومعطيات واقعها، وتحديات حاضرها ومستقبلها. أم أنّها ليست في أحسن الحالات سوى ردّات فعل انفعاليّة، وإن كان لا ينقصها صدق العاطفة، إلاّ أنّها وليدة العجز عن إدراك علل الواقع المأزوم، وبالتّالي افتقاد القدرة على تحديد السّبل والوسائل والأدوات الأكثر كفاءة وملاءمة لتجاوزه، وردم الهوّة المتزايدة اتساعاً بين واقع التّجزئة والتّأخّر والتّبعيّة العربي وعصر التّحوّلات الكبرى في العالم.
وكي لا يكفر شباب اليوم بماضي العرب يجدر بنا أن نطرح التّساؤلات التّالية: هل ارتكبت الحركات الوطنيّة خطأً في الاختيار والتّفكير عندما سعت إلى الاستقلال عن الأجنبي؟، وهل كان من الخطأ التّفكير الذي ساد خلال خمسينيّات وستينيّات القرن الماضي بالوحدة أو بالتّقارب بين الدّول العربية؟ وهل كان من الخطأ التّفكير في تقليص الفوارق بين الطّبقات وتطبيق معايير أفضل للعدالة الاجتماعيّة وتحرير الفلاحين وتطبيق برامج الإصلاح الزّراعي وإدخال الفلاّحين والعمال إلى الحياة السّياسية؟ هل كان خطأ التّعبئة الوطنيّة ضدّ الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين والوقوف إلى جانب الشّعب الفلسطيني والعداء لإسرائيل؟ 
إنّ ما نشهده في واقعنا العربي الرّاهن يطرح علينا عدّة أسئلة أظن أنّ من أهمها: أين نحن من حضارة هذا العصر، خاصّة فيما يتعلّق بفاعليّة الشّعوب وقوّة الرأي العام وحيوية المجتمع المدني التي يمكنها أن تقف في وجه أية مغامرة لحاكم أرعن، وفي الوقت نفسه تشكل قوة حيوية واضحة تجعلنا قادرين على الفعل السياسي المجدي؟  إذ تشكو السّياسة العربيّة، فكراً وممارسةً، من اختلالات عدّة كانت وراء هزائمنا المتلاحقة طوال قرنين، منذ سقوط القاهرة أمام نابليون سنة 1798 إلى استسلام بغداد دون قتال سنة 2003: تخلّف صناعة القرار، والعجز عن القراءة العقلانيّة لموازين القوى قبل الانخراط في أي صراع. 
ومن الواضح أنّ النّظام السّياسي العربي، الذي لم تتفتح فيه ورود الرّبيع الدّيمقراطي بعد، لم يعد قادراً على الارتقاء إلى مستوى التّطلّعات والطّموحات العربيّة، ولم يعد مؤهّلاً للتّعامل مع حجم الأخطار والتّحديات التي تواجهنا، ولا مع مستوى التغيّرات التي أصابت العالم برمّته. ذلك أنّ الدّولة الاستبداديّة واستراتيجيتها في الهيمنة السّياسيّة والقمع الرّمزي والمادّي للصّفوة السّياسيّة المعارضة ولبعض العناصر من الفئات الاجتماعيّة المؤيّدة لها يؤدّي إلى إفقار متنامٍ للحياة السّياسيّة. 
إنّ مؤسّسة الحكم في العالم العربي ليست واقعيّة، وهي متخمة بالشّعارات الثّقيلة، ولا شيء في هذه الشّعارات إلاّ الانتهازيّة الحزبيّة والفئويّة. وما كشفت عنه الحالة العربيّة أنّ الدّولة الوطنيّة الحديثة لم ترَ النّور الحقيقي بعد، وظلّت التّركيبات الفسيفسائيّة والانقساميّة مهيمنة تحت قهر أجهزة القمع الأيديولوجي والمادّي لنشطاء الشّأن الوطني العام. 
ثم أنّ الخلل المؤسّس للحالة العربيّة هو تخلُّف صناعة القرار السّياسي، فكلّ انتصار يقف وراءه عادة قرار سياسي سديد، وهو لا يكون سديداً إلاّ إذا صُنع حسب المواصفات المطلوبة في كلّ حقبة، خاصّة في حقبتنا التي جعل تسارع التّاريخ فيها العالم أكثر تشعّباً وأقلّ قابلية للتوقّع. تتلخص المواصفات المطلوبة في أمرين حاسمين: تعريف المصلحة الوطنيّة تعريفاً صحيحاً وقراءة موازين القوى، الدّاخليّة والإقليميّة والدّوليّة، بدقّة رياضيّة.
ويعود الخلل في صناعة القرار العربي إلى أنّ أجهزة الأمن والمستشارين المحيطين بصانع القرار، التي ألّهت الحاكم بوصفه عبقريّاً ومدحت قمعه الوحشي لشعبه، لم تستطع أن تمده بالمعلومات والتّحليلات النّقديّة التي يمكن أن تمثِّل مداخل صحيحة لرؤية الواقع وإشكالاته، بل قامت بعمليّة تغليف للحقائق وتشويه لها وللمعلومات التي تقدّم إليه.
ومن جهة أخرى، اهتزّت الثّقة بين المثقّف العربي والمجتمع اهتزازاً قويّاً، ولا شكّ أنّ إعادة بنائها تحتاج اليوم إلى ما يشبه الثّورة في المفاهيم وفي طرائق التّفكير، تبدأ بالاعتراف الصّريح بمسؤوليّة أغلبيّة المثقّفين العرب عن الهزيمة، عبر وقفة نقديّة جريئة تكشف أسباب عجزهم وتقصيرهم وأهمّ ما ارتكبوه من أخطاء، وتحديداً لجهة تغاضي معظمهم أو صمتهم، تحت شتّى الحجج والذّرائع، عن حالات الاستبداد والعنف والاضطهاد التي مارستها السّلطات العربيّة بحقّ شعوبها وحقّ المثقّفين النّقديّين، مروراً بالمسارعة إلى فكّ الارتباط المرضي مع الأنظمة والحكام والتّحرّر من أوهام الأيديولوجيّات المهزومة، انتهاءً بالإيمان الرّاسخ بأنّ الإنسان هو المحرك الرّئيسي لكلّ تحدٍ وتطور، ودونه لا يمكن تعويض حالة العجز والقصور أمام توازن قوى يميل على نحو كاسح ضدّنا. 
إنّ هذا المثقف، اليوم، مطالب بأن يخرج من القطيع، وأن يؤسّس ذاته الجديدة، وأن يكون ذلك بالخروج، خروجاً حقيقيّاً من الصّفوف، ومن الخنادق، ومن النّعوش والتّوابيت التي تمشي وتتحرّك، والتي قد نظنّها أجساداً حيّة، وما هي كذلك. ولعلَّ أخطر كلّ المهام المطلوبة اليوم، هو أن نقوم بتجاوز ثقافة الطّبل والزّمر والهتاف والتّهليل إلى ثقافة الكلمة الصّادقة، وأن تكون هذه الثّقافة مرتبطة بالمصالح العليا للعرب، وليس بالأنظمة العابرة.
إنّ من أوكد الواجبات على العرب السّعي إلى تقوية أنفسهم بتنمية ذاتيّة مبنيّة على فتوحات مجتمع المعرفة وعلى القدرات التّكنولوجيّة، والتّشبث بفضائل العمل وشجاعة تحمّل المسؤوليات، وتعزيز كرامة الإنسان العربي، وتحرير إرادته وإشراكه في تدبير الشّأن العام واتخاذ القرارات الكبرى. العرب في أمسِّ الحاجة إلى هيئة حكماء أكثر ممّا هم في حاجة إلى إطار سياسي افتضح عجزه، هيئة للتّفكير والتّأمّل للاهتداء إلى أقوم المسالك، وأضبط المساعي، وأسلم المقاربات للخروج من ظلام التّأخر إلى أنوار التّقدم بخطى واثقة، مع الاعتناء الشّديد بقيمة الزّمن وجدوى العمل غير المتواكل.كما أنّ أبرز درس ينبغي أن نستخلصه من حالتنا الرّاهنة، هو العجز الدّيمقراطي الضّخم الذي تعاني منه الأقطار العربيّة التي لم تشهد ثورات ديمقراطيّة بعد. فدولة الحقّ والقانون، التي تحترم قواعد اللّعبة السّياسيّة، غائبة. 
إنّ الديمقراطية أهمّ مخرج للشّعوب العربيّة من الواقع العربي المتأزّم، هي ما يطمئن الإنسان العربي ويشجّعه على تجاوز النّظرة الضّيقة والحلول المنقوصة، وهي التي تعمق خياره الطّبيعي في ظلّ التجمّعات الاقتصاديّة الكبيرة للتّكامل والتّعاضد مع أشقّائه بغية الارتقاء بالمجتمعات العربيّة عموماً، وبكلّ مجتمع على حدة، إلى مزيد من تحصين الذّات وتعزيز القدرات. وتعلمه أيضاً لغة الخطاب الصّحي مع المكوّنات الأقلويّة التي تشاركه العيش على هذه الأرض منذ مئات السّنين، وأنّ حريتها من حريته، ومستقبلها جزء عضوي من مستقبله.
إنّ الأساس هو أن نتغيّر، وأن ننتقل من درجة الطّائفة والعشيرة والقبيلة إلى درجة الدّولة المعاصرة، وأن نحتكم إلى النّاس، وأن نعتبرهم مصدر كلّ السّلطات، وأن نقدِّر المواطنة المتساوية، وأن نعطيها معانيها الحقيقيّة، وأن نجعلها اقتساماً للسّلطة، واقتساماً لخيرات البلاد، واقتساماً للفرص، واقتساماً للكلمة في الحوار. وأن نجتهد من أجل أن نفعل أكثر، وأن نتكلّم أقل. وأن ننخرط في ثقافات هذا العصر، وأن يكون هذا الانخراط بالإضافات المعرفيّة والجماليّة، وأيضاً بالوعي النّقدي. وأن نؤمن فعلاً بأنّه لا أحد منّا يمكن أن يحتكر الحقيقة. وعليه، فإنّ الأساس هو الحوار، وجوهر كلّ حوار إنّما يتمثّل في الاختلاف، الاختلاف الذي يهدف إلى تحقيق التّلاقي عند نقطة ما في الأفق الواسع.