خواطر

بقلم
شكري سلطاني
الفيض الإلهي والنسق البشري وسياقه
 إنّ اللّه سبحانه وتعالى كلّ يوم هو في شأن، أمّا سعي البشر فهو متعدّد الإتجاهات والأوجه. التجليّات الإلهيّة لا تنقطع، تتعاقب ليلا ونهارا، خلقا وإمدادا، ورزقا وزيادة ونقصا وسلبا، تمظهرات لحقائق الرّبوبية في الأرض ومجال عيش البشر. أمّا الأنساق البشرية وسياقاتها، فهي متواصلة إلى أمد وأجل، تتغيّر وتتجدّد، وتستمرّ دون كلل وملل، غالبا ما تنحرف عن فطرة وحقيقة وجودها، ونادرا ما تتوافق وتنسجم مع التجليّات الإلهيّة السّاطعة في الوجود.
 إنّ ما يُعطّل بذور الخير والحقّ والجمال الإلهي المتجلّي في الكون هو السّياق والنّسق والنمطيّة والإعتياد والعادة المّتبعة المعتادة من عامّة البشر. إنّ سعيهم المختلف وحرصهم لنيل حظوظهم الدّنيويّة، وتوثّبهم للحصول على رغباتهم الحسيّة الماديّة، وتعلّقاتهم وآمالهم وطموحاتهم في عالم الحسّ والكثائف والصور، كل ذلك يحجب أصول معانيهم عن تذّوق حقيقة ذواتهم، ويجذب خواطرهم لما أهمّهم وأنهكهم.
دنيا ساحرة الألباب بزخارفها ورياشها ومظاهرها الخلاّبة، فقليل من النّاس-وهم الصّفوة- من يتجاوز حجاب الظّلمة بنور العلم والإيمان واليقين. ﴿ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ﴾(الواقعة :13-14 )كون صاغه العليّ العظيم بعلمه وحكمته وقدرته، وهو إنعكاس لكمال ذاته وجمالها، مخبرا عن صفاته.
ففي الكون أسرار وإشارات لأولي الألباب تُعلم عن قدرة القادر وحكمة الحكيم وعلم العليم ووحدانيّة الواحد الأحد. لقد أفاض سبحانه على الكون بجميل صُنعه من كمال ذاته تكوينا وإضافة وجود بخلقه وإمداده، 
﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ ﴾ (الأعلى:2-3).
لقد أنار سبحانه سبيل السالكين ومريدي الحق المخلصين الصادقين بنور وشعاع الحق وهداهم للصّراط المستقيم لصدق مقصدهم وصفاء سرائرهم ومن إنحرف عن صميم فطرته وخالص معناه وإنغمس في الدّنيا يرتع فيها دون ضوابط يأكل من حلالها وحرامها لا يعبأ بما أدخل لبطنه وما وعاه عقله وما إستحكم في ضميره من قيم ومعانٍ ومبادئ ومُثل تاه وضاع في سبل شيطانية لا مخرج منها إلا بهداية وتوفيق إلاهي إذ لا حول ولا قوّة إلاّ باللّه حقيقة لا مجاز.
لقد تاهت البشريٌة عن مقصدها وتاهت عن غاية وجودها 
﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات:56).
العبادة محبّة وذوق وشوق وجهد وطاعة لربّ العالمين وتشمل معاني الصبر والحمد والشكر فليست حركة أشباح دون معنى إذ لا حبل ودّ ولا إتصالا ولا ترقٌيا روحانيا إلاّ بنور الحقّ.
العبادة ترك العادة كما قال الكبريت الأحمر سيدي عبد القادر الجيلاني.
لقد تعطّلت المراكب وسفن السير البشري في بحر الدّنيا المتلاطمة أمواجها وتعثّرت في سيرها وسفرها الظاهري وانقطع المدد الروحاني بإرتفاع الحياء والبركة .
تشتتت الافكار وتشعبت المسالك واغتالت العباد الاوهام في نسق الأحداث وسياق سيرها وسعيها المتتالي المتتابع المتكرّر .
منعرجات ومنعطفات ومنزلقات فكريٌة عقائدية عاطفيّة وقعت فيها البشرية ولم تُبدِ أمامها أية مقاومة معنوية وروحانية للإفلات من كلّ ذلك لهشاشة جدار الصدّ وعدم التحقّق والتدقيق في الأفكار والنظريات قبل إستهلاكها فكثرت المشاحنات والحقد والكراهيّة والعنصريٌة والحروب .
تسلّطت قوى البغي والجبروت على الضعفاء أقواما كانوا أو شعوبا أو أمما فنهضت ونمت حضارة على أنقاض حضارات أخرى تخلفت وتقهقرت.
حكمة الأقدار في زمن اليأس والبؤس ومصائر البشر تحكمها إعتقاداتهم آمالهم طموحاتهم تعلقاتهم وتوجهاتهم
 وستظّل سياقات البشر مانعة عموما لترقيهم وسفرهم إلى سفر الباطن وسكينتهم وهدئهم الروحي طالما إستندوا إلى حولهم وقوّتهم واتخذوا أربابا من دون اللّه سبحانه وطالما اصبغوا ذهنيتهم ومزجوا تصوراتهم بحركيّة سيرهم الدّنيويّة متوثبين في دنيا الغرور ملتصقين متشبثين بطينتهم وقالبهم المادّي الذي ردّهم إلى أسفل سافلين ونفى عنهم كرامة أحسن تقويم.