بهدوء

بقلم
د.ناجي حجلاوي
براءة الشهادة الحلقة الرابعة : مفهوم الشاهد في الفضاء التفسيري
 بعد تتبّع ما أثاره أصحاب المعاجم من معان ودلالات عليقة بمادّة «شَهِدَ» متّبعين التّسلسل التّاريخي رصدا لمّا يمكن أن يطرأ من تغيّر على المفهوم من زمن إلى آخر ومن لغوي إلى آخر، مبتدئين بابن فارس، ثمّ الرّاغب الأصفهاني، ثمّ ابن منظور (الحلقة الأولى، العدد 191، جوان 2023). انتقلنا إلى البحث في المدوّنة التفسيريّة بمذاهبها المختلفة قصد رصد مفهومي «شَهِدَ» و«الشّهادة» (الحلقة الثّانية، العدد 192، جويلية 2023)، ومفهوم «الشّهيد الحي» (الحلقة الثالثة، العدد 193، أوت 2023) واتضح بعد التحليل، أنّ دلالة فعل «شَهِدَ» مبنيّة على الحياة والحضور والعلم والدّراية. وأنّ الشّهادة تتمثّل في تبنّي الرّأي والاقتناع به والإدلاء بمقتضاه عن طريق العلم والاستدلال. 
وبالتالي فإنّ «الشّهيد» بريء من الموت، وما فكرة الموت إلاّ معنى مضاف عمّقه الاستعمال وكرّسته الثّقافة السّائدة. وسننهي بحثنا في المدوّنة التفسيريّة في هذه الحلقة عن معنى «الشّاهد».
*** 
فيما يتعلّق بلفظة «الشّاهد»، يتّفق المفسّرون الثّلاثة على أنّ هذه المفردة الواردة في الآية 81 من آل عمران(1)، تعني إقامة الدّليل على المشهود عليه. والشّاهد هوّ المقرّ بالأمر وتأكيده. وهو العالم المقرّ المخبر(2). ولمّا تناول الطّبري والزّمخشري والطّبرسي الآية 17 من سورة هود(3) سجّلوا اتفاقهم على أنّ الشّاهد هو ذو البيّنة والحجّة. واعتُبر اللّسان شاهدا لأنّه العضو المساعد على التّكلّم والتّلاوة، وقيل الشّاهد هو جبريل لأنّه شاهد من اللّه على تلاوة التّوراة والإنجيل والقرآن، وهو الذي يتلو على محمّد ما بُعث به. وهو الرّأي الّذي يرجّحه الطّبري. والشّاهد هو الذي يشهد بصحّة الأمر، والمراد القرآن الذي هوّ من اللّه وهو البرهان والدّليل من الوحي الذي يُتلى ومثله التّوراة. 
إنّ الأشهاد جمع شاهد كأصحاب جمع صاحب. وقيل جمع شهيد كشريف يُجمع على أشراف وهو المقيم للحجّة كمحمّد أو لسانه أو علي بن أبي طالب الشّاهد على النّبوءة أو هو جبريل أو القرآن والتّوراة(4). 
وفي معرض تفسير معنى الشّاهد في الآية 26 من سورة يوسف(5)، يقف الطّبري على أنّ الشّاهد كان محلّ خلاف بين أهل العلم، إذ ذهب بعضهم إلى أنّه كان صبيا في المهد تكلّم مدليا بشهادته. ورأى البعض الآخر أنّه ذو رأي أبداه، وقال البعض الآخر إنّه رجل ذو لحيّة. ورأى آخرون أنّه أحد خاصّة الملك. وقيل هو من غير الإنس لأنّه من أمر اللّه. وانتصر الطّبري إلى أنّه صبيّ تكلّم في المهد. فلو كان الشّاهد هو القميص فإنّ القول: «من أهلها» لا يصحّ(6). 
وعلى غرار الطّبري، استعرض الزّمخشري بدوره أقوالا متعدّدة منها أنّ الشّاهد هو ابن عمّ للمرأة، واللّه ألقى الشّهادة على لسانه لتكون أوجب للحُجّة عليها وأوثق لبراءة يوسف وأنفى للتّهمة عنه. ومنها الذي كان جالسا مع الزّوج لدى الباب. وقيل إنّه حكيم الملك الذي يرجع إليه ويستشيره، ولربّما كان بعض أهل المرأة الذي كان في الدّار فبصُر بها من حيث لا تشعر فغضب ليوسف وأدلى بالشّهادة. وقيل إنّه كان ابن خال لها صبيّ في المهد(7). 
ويُورد الطّبرسي بدوره آراء مختلفة في ذات الموضوع بدءا من رأي ابن عبّاس وسعيد بن جبيْر أنّ الشّاهد صبيّ في المهد. ولعلّه ابن أخت المرأة المعنيّة بالحادثة، وهو ابن ثلاثة أشهر أو هو رجل حكيم من أهلها. والجبّائي من أنصار هذا الرّأي  باعتبار أنّ الشّاهد لو كان طفلا لكان قوله معجزا في حدّ ذاته لا يحتاج إلى بيان(8). 
وبخصوص الآية 8 من سورة الفتح (9) يشير الطّبري إلى أنّ الرّسول شاهد على أمته بما أجابوه فيما دعاهم إليه ممّا أرسل به. فالرّسول شاهد بما يُبشّر بالجنّة ويُحذّر من النّار وما يُبلّغه من التّعاليم(10). وعند الزّمخشري الشّاهد هو الّذي يُجري الشّهادة على أمته وهو عليها شهيد تبيينا لمن نصره وعزّره(11). والشّاهد عند الطّبرسي هو المثبت لما عملته الأمة من طاعة ومعصية وقبول وردّ. والرّسول يشهد على النّاس بما بلغه إليهم من الرّسالة وبما بشّر ونذر(12). 
ومن معاني الشّاهد أيضا الّذي هو شهد بالحقّ وأقرّ بالتّوحيد وصدق الرّسل واتّبع أوامر اللّه ونواهيه. وهو صاحب محلّ مرموق عند اللّه. والشّاهدون هم الّذين لهم أقوال وأفعال تُرضي اللّه، وهم أصحاب درجات عالية من كرامته(13). 
وبالنّسبة إلى الزّمخشري، الشّاهد هو الّذي يشهد لقومه وعليهم يوم القيامة. والشّاهد هو النّبي الّذي يشهد بالوحدانيّة(14). وهو عند الطّبرسي الذي نال كرامة ربّه كالأنبياء المثبتين لأدلّة الحقّ(15). وإذ صرّح اللّه عن نفسه بكونه شاهدا لحكم داود وسُليْمان، فإنّ المفسّرين يتّفقون في أنّ المقصود هو علمه تعالى بأسرار الحكم وخفاياه، لأنّه أدرى بأوجه الصّواب، فهو العالم الذي لا يغيب عنه شيء في الأرض ولا في السّماء(16).
 أمّا الشّاهد، فهو شخص لا يشترط فيه بالضّرورة الحضور والمشاهدة وإنّما  تُشترط فيه إقامة الدّليل العقلي والمنطقي على المشهود عليه. وهو الحائز على كلّ ما يُساعده على تأكيد الأمر والإقرار به من خلال ما يُسعفه به علمه من أساليب الغوص  على جوانب الحقيقة المخفيّة. وصاحب الخبرة شاهد بخبرته وعلمه وإن لم يحضر الواقعة. فالكتب المقدّسة بما فيها من نبوءات وعلوم شاهدة على وحدانيّة اللّه. وكلّ علامة، هي دالّة وشاهدة على مدلول. وكلّ رمز، هو شاهد على دلالة بعيْنها. 
وخلاصة ما يتّصف به الشّاهد، ممّا سبق، أن يكون عليما خبيرا ولا أدلّ على ذلك من الشّاهد الذي كان من أهل الشّهادة في قصّة يوسف مع امرأة العزيز، فهو الذي أعمل عقله واستنجد بعلمه في إقامة الحُجّة وإثبات الدّليل: إنْ كان قميص يوسف مُزق من الأمام فيوسف هَاجم على المرأة وهي تدافع عن نفسها. وإنْ كان القميص قُدّ من الخلف فهو فارّ وهي تلاحقه. فما كان من شهادة هذا الشّاهد إلاّ أن حصحص الحقّ. تقول الآية: ﴿قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي  وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ‎ وَإِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‎ فَلَمَّا رَأَىٰ قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ  إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ﴾(يوسف: 26-28) . ‎
وإلى هذا الحدّ من التّحليل، يتضّح، بما لا شكّ فيه، أنّ دلالة فعل «شَهِدَ» مبنيّة على الحياة والحضور والعلم والدّراية. وأنّ الشّهادة تتمثّل في تبنّي الرّأي والاقتناع به والإدلاء بمقتضاه عن طريق العلم  والاستدلال. ولما كان الحضور شرط تمام الشّهادة، فإنّ الّذي يشهد من غير علم ولا دراية ولا حضور يستوجب التّوبيخ  والزّراية. وإذا تعذر مبدأ الحضور، فإنّ الشّهادة الجارية مجرى اليمين تنوب عن الشّاهد والشّهيد. وقد ترتكن الشّهادة إلى أهلها الذين أُوتوا حصافة في العقل، ودقّة في الحُجّة، ما يخول لهم المقارنة والمُقايسة من أجل الهجوم على حقيقة الأشياء.
الهوامش
(1) ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ ﴾.
(2)   الطّبري، جامع البيان، مج3، م ن، ص1856. والزّمخشري، الكشاف، ج1، م ن، ص335. والطّبرسي، مجمع البيان، ج2، م ن، ص270.
(3) ﴿أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ إِمَامًا وَرَحْمَةً...﴾. 
(4) الطّبري، جامع البيان، مج6، م ن، ص ص4311،4306. والزّمخشري، الكشاف، ج2، م ن، ص395. والطّبرسي، مجمع البيان، ج5، م ن، ص ص197،196.
(5) ﴿قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾. 
(6) الطّبري، جامع البيان، مج6، م ن، ص ص4517،4513.
(7) الزّمخشري، الكشاف، ج2، م ن، ص ص460،459.
(8) الطّبرسي، مجمع البيان، ج5، م ن، ص303. وأبو علي الجُبّائي، التّفسير، موسوعة تفاسير المعتزلة 3، تحقيق خضر محمّد نبها، تقديم رضوان السّيد، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1، 2007، ص320.
(9) ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًاَ﴾. 
(10) الطّبري، جامع البيان، مج9، م ن، ص ص7475،7474.
(11) الزّمخشري، الكشاف، ج4، م ن، ص227.
(12) الطّبرسي، مجمع البيان، ج9، م ن، ص144.
(13) الطّبري، جامع البيان، مج3، م ن، ص1805. 
(14) الزّمخشري، الكشاف، ج1، م ن، ص323.
(15) الطّبرسي، مجمع البيان، ج2، م ن، ص ص246،245.
(16) الطّبري، جامع البيان، مج7، م ن، ص5722.  والزّمخشري، الكشاف، ج3، م ن، ص ص200،199. والطّبرسي، مجمع البيان، ج7، م ن، ص76.