التجديد الحضاري

بقلم
د. محمد المجذوب
الحرية الفردية وحق المجتمع في الدفاع عن معتقداته
 إذا تصوّرنا أنّ ممارسة الحرّية، هي فعل متجاوز للضّوابط والمعايير والقوانين الأخلاقيّة، أو أنّه فعل مسموح به قانوناً، وغير خاضع للأعراف، فإنّ ذلك التّصوّر مفض بلا شكّ للفوضى والعبث. لأنّ ممارسة الحرّية، لا تعني أنّ الإنسان حرّ في فضاء غير محدّد المعالم، فأيّ فعل مرهون بالظّروف والمواقف المحيطة به، بل إنّ الأفعال تكتسب دلالتها مما يحيط بها.
 وعندما نتكلم عن حرّية الفرد، فإنّنا ندرك بالتّالي، أنّ فعله الحرّ سيسير خلال سياقه المحيط، وكلّما جعلنا حرّية الإنسان مطلقة، سحبنا من حرّية السّياق المحيط به. وتلك هي القاعدة الأولى في الحرّية. لأنّ المساحة المتاحة للفرد، أن يتحرّك فيها بحريّة، هي المساحة التي لا تؤثّر في حرّيات الآخرين. 
والمشكلة لدينا، أنّنا تصوّرنا التّقدم الغربي، بوصفه نتاج فعل الحرّية المطلقة، وهذا الأمر غير صحيح، حتّى في الغرب نفسه، لأنّ تنظيم الحرّيات، شرط لممارسة الحرّية. والتّنظيم فاعل بأدوات عدّة، من خلالها يفرض الاتفاق العام للاجتماع على المجتمع. فالغرب يمارس الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، من خلال الأفراد والمؤسّسات، والإعلام، ودون اللّجوء للقانون. 
وما نبحث عنه، هو التّوازن، الذي يعطي الأمّة حقّها، في إعلان ثوابتها، وحقّها في ممارسة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وقصر القانون على مجاله، أي حدود الفعل المادّي الهادم للآخرين وحرّيتهم وممتلكاتهم، والهادم للنّظام العام. وتنظيم تلك المجالات، يسمح بقدر أكبر من الحرّية، وخاصّة في مجال الفكر والإبداع، لأنّ آليّات الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر التي تمارسها الأمّة، هي آليات عزل، دون تدمير. وآليات نبذ، دون منع. وتلك حقيقة هامّة. وتزداد الخطورة، عند مواجهة كلّ خروج عن العرف بالقانون، وكلّ تجاوز للثّوابت بالقانون.
 سوى أنّ البعض يرى أنّ  أدوات الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، غير فاعلة، إذا ما قورنت بالعقاب القانوني، في جرائم من الرّدة مثلا والأولى هو استخدام السّلطة السّياسيّة،  والواقع أنّ المقارنة ليست في محلّها. فالقانون وضع لمعالجة الأفعال التي تهدّد سلامة المجتمع، والسّلطة السّياسيّة يفترض فيها أن تعالج ما يهدر نظام المجتمع. وبالتّالي، فالشّكل الرّسمي من العقاب، وضع كي يعالج الأفعال التي «تهدم» المجتمع وبناءه، وتعرض الأمّة للخطر. فهو إذن، أفعال تتجاوز كونها غير مقبولة، لتصبح أفعالاً لها التّأثير السّلبي على الآخرين، ناساً أو جماعات. 
وأمام تلك الأفعال، يصبح القانون فاعلاً، ومدعوماً بقوّة الولاية السّياسيّة، التي تفرض الولاية العامّة، وتمنع انهياره. باعتبار أنّ عمليّات الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، معنيّة بالأفعال الخارجة عن الأعراف، دون أن يكون ذلك خروجاً على الولاية العامّة، يفضي إلى تحطيم أسس هذا النّظام.
وعلى هذا فإنّ جريمة مثل الإلحاد ، فإنّها ما لم تتعدَّ على حرمات الآخرين وحقوقهم فإنّ مدارها في الحياة الدّنيا إلى الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، باعتبار أنّ ممارسة حرّية الفكر مثلاً هي موضوع لممارسة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، والخروج عن ثوابت الأمّة فكراً، هو فعل يواجه من الأمّة نفسها أفرادا وجماعات ومؤسّسات، حواراً ونقاشاً ويجب ألاّ يواجه بالقانون.
 لهذا، فإنّ الإخفاق في الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، يؤدّي إلى استخدام القانون في غير محلّه. كذلك فإنّ محاولة ضرب آليّات الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، والتّقليل من فاعليتها، يؤدّي إلى محاولة فرض الأعراف، والثّوابت، بالقانون.
وهذه الدّعوة تحوّل مجال الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، إلى مجال القانون، وهنا نتعرض لقضية هامّة، وهي تحويل ثوابت الأمّة إلى مقولات، تتبنّاها سلطة، أو فئة، وهو أمر مناف لدور الأمّة، وآليّات إجماعها واتفاقها، التي تتميّز دائماً بالرّحابة، لأنّها اتفاق ضمني وليس نصيّاً. وما بين محاولة للخروج عن الثّوابت، والإفلات من كلّ وسائل الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، ومحاولة لجعل ثوابت الأمّة ودورها يحال إلى القانون، يفقد المجتمع توازنه، ويفقد بالتّالي قدرته على تحمل الحرّية. 
فالحرّية المتجاوزة للأمّة تهديد لها، والحرّية المعاقبة بالقانون تهديد للمبدع والمفكّر، وكلاهما لا يؤدّي إلى التّطور ولا التّجديد. والأصح هو إعمال آليّات الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، فيما يخصّ حرّية الفكر والإبداع، لأنّها آليّات تحاور الفكر بدرجة أو أخرى، وتحاوره على حسب مضمونه. فالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر لا يعرف العقاب الرّادع، ولا يعرف البنود المحدّدة، بل يعرف التّعامل مع الفضاء الواسع من الدّرجات والحالات، ويعرف أيضاً التّعامل مع الحالات البينيّة. 
 لذلك فإنّ في الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، مساحة دائماً لتجاوز غير المسموح، ولكن بدرجات محدّدة. فالمجتمع يقبل الفكر المغاير نسبيّاً، ويرفض الفكر المتجاوز للمقدّس والثوابت. وفي كلّ الحالات، فإنّ مواجهة الفكر بالفكر، ومواجهته بالعزل والنّبذ، تعني أنّ الفكر المرفوض، ما زال يملك حقّ الوجود، واستمراره سيكون نتاجاً لمدى قدرة هذا الفكر على إثبات ملاءمته للأمّة. 
وبهذا تمارس حرّية الفكر، دون أن تهدم مقدسات الأمّة، لأنّ الأمّة تدافع عن نفسها. وأيضاً تمارس حرّية الفكر دون أن تكون قيداً على آليّات الأمّة للدّفاع عن نفسها، ودون أن تتحوّل مواجهة الفكر إلى ساحات القضاء. بهذا تصبح الأمّة هي صاحبة الحقّ في الاعتراف بفكر ما، ورفض آخر.
والحقّ أن هذا التّناول لمعنى الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، يفتح الجدل حول ممارسة الحرّية في مجتمع المؤمنين، فالحرّية الفرديّة تواجه بالحدود التي يفرضها القانون، وتتعرّض لعقابه، وكذلك تتعرّض للحدود التي يرسمها الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وتتعرّض لمواجهته. 
ولكن حجم ما يمارس من حرّية، ويواجه بالقانون، مقارناً بحجم ما يمارس من حرّية، ويواجه بالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، أمر له دلالته المهمّة، وكذلك له تأثيره على المجتمع، وقدرته على ممارسة التّطور والإبداع. فإذا كانت كل ممارسة للحرّية، تقع تحت طائلة القانون، فإنّ المتاح للتجديد والإبداع يتضاءل حتّى يصل إلى أقلّ درجة، وربّما ينعدم. أمّا إذا كان الجزء الأكبر من ممارسة الحرّية يخضع للضّبط الاجتماعي، فإنّ ممارسة الحرّية توضع على محكّ اختبار للمصداقيّة والمسؤوليّة والقبول، وبالتّالي يتمّ ترشيد الحرّية، حتّى تكون بحقّ تجديداً وإبداعاً.
وغاية القول إنّ نظام الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، ليس مقترناً بالولاية السّياسيّة فحسب، بل مقترن أكثر بالمجتمع، حيث إنّ مجتمع المؤمنين يصنع نظاما للرّقابة، وعليه فلابدّ من توزيع المسؤوليّات والواجبات باعتبارها واجبات تقع على عاتق الجميع، فهي ليست مسؤوليّة دولة، أو جهاز معين، بل هي مهمّة الجميع، فالرّقابة في الإسلام ليست محصورة بفئة معيّنة، إذ هو نظام أممي فذّ، قابل للتّجدد، يعتمد في أساسه على نصوص من القرآن والسّنة للاحتساب على النّاس وعلى ذوي السّلطان على السّواء وتغيير المنكرات التي تقع منهم على حقوق اللّه والنّاس والجماعات. 
فهو يعتبر من أهم مؤسّسات الأمّة في التّصوّر الأخلاقي، ووظيفتها الدّينيّة التي يقوم مجتمع المؤمنين بها، بمهمّة الأمر بالمعروف إذا أظهر النّاس تركه، والنّهي عن المنكر إذا أظهر النّاس فعله، صيانة للاجتماع من الانحراف، وحماية للدّين من الضياع، وتحقيقا لحقوق النّاس الدّينيّة والدّنيويّة.